ملخص
أفل النظام المتعدد الأقطاب قبل أن ترجح كفته واليوم دول متوسطة الوزن تسعى إلى صد نفوذ دول كبرى ورفض الانضواء تحت عباءتها
تروج، منذ نهاية الحرب الباردة، أواخر القرن الـ20، دعوة إلى إرساء العلاقات الدولية على نظام متعدد الأقطاب، ويحسب أصحاب هذه الدعوة أن العلاقات الدولية لا تستقيم إلا على قاعدة التوازن بين عدد قليل من القوى العظمى الغالبة أو السائدة في مناطق نفوذها. وتناول هذه المسألة نيكولا تانزير، أستاذ فرنسي في العلوم السياسية. وتعرض "اندبندنت عربية" في ما يلي أبرز ما ورد في المقالة المنشورة في صحيفة "لوموند" الفرنسية:
تخالف هذه الفكرة، التوازن بين عدد قليل من القوى العظمى الغالبة في مناطق نفوذها، حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الحق الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة في 1945، وينص عليه ميثاق باريس في 1990 الذي وقعت عليه، في 1990، 34 دولة، بينها دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية، وكندا، والاتحاد السوفياتي، ودول أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية. ويقر هذا الميثاق بحق كل شعب في الاستقلال، وفي اختيار تحالفاته.
والدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب تقود، عملياً، إلى إبطال معارضة الصين حين تدعي لنفسها السيادة على هونغ كونغ والتيبت، أو تايوان. وتبطل الطعن في زعم روسيا أن أوكرانيا جزء طبيعي من منطقة نفوذها، وهذه أمور تكرر سماعها في 2014، حين ضمت روسيا، عنوة، القرم. وقيل يومها: الأوكرانيون سلافيون، والسلافيون هم مادة العالم الروسي. وهذا القول لا معنى ولا سند ولا مشروعية تاريخية له. والموضوع هو الحق (أو القانون) الدولي. فإذا أهمل أو أغفل، تهاوى البنيان الحقوقي الذي شيد منذ الحرب العالمية الثانية كله، وترك المجتمع الدولي وعلاقاته من غير دليل ولا معيار.
والحق أن العلاقات الدولية تشهد، منذ بعض الوقت، استراتيجية جديدة تقوم على تحالف الدول الصغيرة والمتوسطة، وعلى دفاعها عن استقلالها. فالقوى العظمى الثلاث، أي الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا، تبدو عليها علامات الضعف على نحو يزداد ظهوراً. وتعاني روسيا، مثلاً، هجرة أدمغة قريبة من النزف منذ 20 عاماً تقريباً. واقتصادها أشبه بهيكل عظمي يفتقر إلى دورة دموية تبث فيه الحيوية وتجدده. والولادات قليلة. والخسائر في الأرواح ثقيلة. وعليه، فالسقوط آت لا محالة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الولايات المتحدة فمضطرة، منذ أعوام، إلى الانسحاب من انتظامها في شؤون العالم وشجونه. وأضعف انسحابها هذا صدقيتها العالمية على نحو فادح. وتسرع الفوضى المترتبة على قرارات الإدارة الحالية، داخل الولايات وخارجها، ظهور علامات الضعف. وتبدو الصين، في ميزان المقارنة، قطباً متيناً. إلا أن بلداناً كثيرة، تمارس الصين فيها وعليها نفوذها، بدأت تدرك أخطار التبعية للصين. ومن وجه آخر، لم تعد أزمة الاقتصاد الصيني عرضاً عابراً، وإن كانت لا تقارن بأزمة الاقتصادات الأوروبية. وفي الأثناء، يتفاقم تدخل الحزب الشيوعي في الاقتصاد، ويكبح الابتكار، محرك النمو الصيني الأول.
وقد لا يؤدي ضعف القوى العظمى إلى تقوية الأمم الصغيرة والمتوسطة. وهذا ما يراه، ويذهب إليه الباحث السياسي الأميركي إيان بريمر، صاحب مفهوم "مجموعة الصفر"- على غرار "مجموعة العشرين" أو "... السبع". والصفر للدلالة على افتقار الصعيد العالمي إلى قوى بنيانية أو محورية، بعدما خلفت العلاقات الدولية وراءها الاثنينية القطبية، واستقرت على نظام من غير قطب، تسوده الفوضى العارمة. وهذا ليس أمراً محتوماً. والأرجح، عندي، أن العلاقات الدولية مقبلة على نظام يسوده عدد غير محدد من القوى الصغيرة والمتوسطة التي تنسق في ما بينها نفوذها. وتتعهد جمعها وتكتيلها.
وهذه السيرورة هي قيد الحدوث والبلورة. فثمة بلدان تنسب إلى المربع الصيني، شأن اليابان وكوريا الجنوبية، وأستراليا، أو طبعاً تايوان، تحاول التحرر من التبعية. وفي أنحاء أخرى كثيرة من العالم، تتولى بلدان، في أفريقيا وأميركا اللاتينية، رعاية استقلالها وقوتها، والانعتاق من هيمنة جيرانها الأقوياء.
ومنذ اجتياح أوكرانيا، في 2022، ظهرت جلية حصافة الدرس الذي استخلصته بعض البلدان الصغيرة والمتوسطة الأوروبية، مثل بولندا ودول حوض البلطيق وبحر الشمال. ففي ضوء تجربتها التاريخية، أدركت هذه البلدان مقاصد السياسة الروسية ومراميها قبلنا، نحن الأوروبيين. وفي معظم الأحيان، سبقت أوروبا هذه البلدان إلى قيادة الموقف السياسي. وأثبتت جدارتها وقوتها على قدر يفوق حجمها. لذا، تتقدم السيرورة التي أصفها، في الدائرة الأوروبية، مثيلاتها في الدوائر الأخرى.
ودور الاتحاد الأوروبي هو رعاية هذه الديناميات والإسهام في هيكلتها وتقوية عودها. ويسع أوروبا التي لم تكن يوماً إمبراطورية تمارس نفوذاً على منطقة نفوذ مزعومة، أن تكون طليعة هذه الكتلة غير المحددة من البلدان الصغيرة والمتوسطة. والإمبراطوريات الاستعمارية، القديمة أفلت غير مأسوف عليها. ولا تملك أوروبا الركيزة الأيديولوجية التي تتيح لها إنشاء إمبراطورية. والركن الذي تنهض عليه هو الحق (والقانون)، والسعي في فض الخلافات من طريق التحكيم القضائي. مما يسوغ أحياناً تهمتها بالسذاجة، والغفلة عن مقتضيات العمل السياسي.
وقد تكون قضيتها الأولى، اليوم، هي خروجها من هذه السذاجة. وهي قاصرة عن الدفاع عن الحق من غير تملكها موارد القوة والسلطان، وتمكنها من الدفاع عن أمنها، ومن التدخل في أنحاء العالم دفاعاً عن سيادة دول مهددة. وهذا ما أظن أننا اليوم في طور إدراكه، على رغم بطء خطونا في هذا المضمار. والمضي على هذا المسير هو التحدي الكبير الذي يجابه أوروبا المعاصرة.
وحرب أوكرانيا هي اختبارنا الحاسم. فإذا انتصرت أوكرانيا بعوننا، برهنا أننا بددنا أوهامنا وخرجنا منها، وأشهدنا العالم على ذلك. وأما إذا لم نبرهن على حزمنا، ولم نعوض تخلي الولايات المتحدة الأميركية المحتمل عن أوكرانيا، وانتصرت روسيا، خرجت القوى من نمط إمبريالي قوية من الاختبار. ومحا منطق التسلط على دوائر النفوذ، منطق القانون الذي ساد محاكمات نورمبرغ ومقاضاة حرب العدوان، ولربحت جريمة القتل الجماعي السباق أو المباراة (بين الحق والقوة). وخسارة أوكرانيا، في هذا السياق، هي بمثابة كارثة إنسانية، أولاً، ورمزية، ثانياً. وأوكرانيا، على النحو الذي استوت عليه في الأعوام الأخيرة، مثال أمة المستقبل. ونحن قد نخسر هذا المثال، مثال أمة قادرة على رعاية مساكنة بين أقليات شديدة الاختلاف: التتار والمسلمون، والكاثوليك، واليهود، والأرثوذكس... وبين لغات وتواريخ مختلفة. ووجه هذه الأمة إلى المستقبل. وهي لا تقوم على الانتماء العرقي بل على إرادة تحرر مشتركة.
وأنا لا أريد تصوير النموذج الأوكراني في صورة مثالية، فثمة في أوكرانيا نزعات عدوانية ينبغي تخطيها. وينبغي أن يبلغ نقد التاريخ الوطني غايته. ويخشى أن يغلب طلب الثأر على العقول والقلوب غداة المصيبة التي أصابت المجتمع كله.
خلاصة القول أن أوروبا أمام مفترق طرق الإذعان لسلطان روسيا الإمبراطورية أم حمل راية حقوق القوى المتوسطة والصغيرة والاحتكام إلى القانون.