ملخص
يتمتع مستشارو الأمن القومي بقربهم من الرئيس، حيث يقع مكتبهم على بعد خطوات من المكتب البيضاوي، ففي واشنطن يمثل القرب فرصة، وليس من المستغرب أن يصبح مستشارو الأمن القومي شخصيات محورية في ساحة السياسة الخارجية.
أقدم الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأسبوع الماضي، في قرار مفاجئ، على إقالة مايكل وولتز من منصب مستشار الأمن القومي وإسناد المنصب موقتاً إلى وزير الخارجية ماركو روبيو، مما يدفع بهزة قوية لفريق الأمن القومي الذي يعاني الفوضى والاضطرابات، في وقت يحاول البيت الأبيض التوسط في إنهاء الصراعات دبلوماسياً في أوكرانيا وغزة، ويشن حرباً تجارية عالمية.
رحيل مستشار الأمن القومي الذي يرتبط في الغالب بفضيحة "سيغنال غيت"، ليس أمراً جديداً بالنسبة إلى ترمب، فبعد أقل من شهر على ولايته الأولى عام 2017، اضطر مستشاره للأمن القومي مايكل فيلن إلى الاستقالة على خلفية اتصالات مع روسيا، فيما كان الرئيس السابق باراك أوباما لايزال في السلطة، وعيّن البيت الأبيض على الفور آنذاك الجنرال المتقاعد جوزف كيلوغ لتولي هذا المنصب الإستراتيجي بصورة موقتة إلى حين تعيين مستشار جديد.
مجلس الأمن القومي
وفي حين أن إدارة ترمب الثانية تتسم بغياب أي شخص يتمتع بنفوذ كبير في مسائل السياسة الخارجية والأمن القومي، باستثناء ترمب نفسه، لكن المنصب الذي بات محط الأنظار يدفع بتساؤل عما يستلزمه تحديداً والصلاحيات الممنوحة له، وما يعنيه أن يشغل روبيو منصب وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي معاً، ولا سيما وسط تقارير تتحدث عن أن المهمة ليست موقتة، بل ربما يقود روبيو الحقيبتين لفترة طويلة.
وقد جرى إنشاء مجلس الأمن القومي الأميركي بموجب قانون الأمن القومي لعام 1947بهدف تقديم المشورة للرئيس في شأن مسائل الأمن القومي، كما كلّف المجلس بدمج السياسات الداخلية والخارجية والعسكرية، ومع ذلك فإن منصب مستشار الأمن القومي ليس محدداً قانونياً ولا يخضع للمساءلة أمام الكونغرس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق الخبير الاقتصادي وباحث العلاقات الدولية غيريغوري تريفيرتون، والذي عمل مع ثلاثة مستشارين للأمن القومي وهم زبغنيو بريجنسكي وصمويل بيرغر وسوزان رايس، فإن دور مستشار الأمن القومي يتمحور حول إدارة عملية صنع القرار المتعلقة بالأمن القومي، إذ تتخذ القرارات في شأن قضايا متنوعة، من الصراعات الخارجية وصولاً إلى الانتشار النووي، باعتباره دوراً تنسيقياً.
ويحدد مستشارو الأمن القومي توقيت ومسار تحليل السياسات والتوصيات المقدمة إلى لجان مجلس الأمن القومي، وأولها لجنة المسؤولين الرئيسين التي تجمع وزراء الحكومة المسؤولين عن الأمن القومي، من وزارات الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية وغيرها، وفي حين أن لجنة المسؤولين الرئيسين نادراً ما تجتمع، ونادراً ما تجتمع برئاسة الرئيس، لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى "لجنة النواب" التي تجمع المسؤولين من المستوى الثاني والثالث في الوزارات نفسها، لإعداد الأمور التي تحتاج لقرارات من المسؤولين الرئيسين والرئيس.
الهامسون في أذن الرئيس
ويتمتع مستشارو الأمن القومي بقربهم من الرئيس، حيث يقع مكتبهم على بعد خطوات من المكتب البيضاوي، كما أنهم مسؤولون عن عدد قليلاً نسبياً من الموظفين بلغ خلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن 350 موظفاً، ويقول تريفيرتون "بالنسبة إلينا، نحن موظفي مجلس الأمن القومي، فإذا اختلفنا مع نظرائنا في وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع فبإمكاننا ترك القرار للمسؤولين الرئيسين، وكنا نعلم أنه بإمكاننا الوصول إلى بريجنسكي أسرع".
"ففي واشنطن يمثل القرب فرصة"، بحسب الخبير الأميركي، وليس من المستغرب أن يصبح مستشارو الأمن القومي منذ ماكغورج بندي في إدارتي جون كينيدي وليندون جونسون شخصيات محورية في ساحة السياسة الخارجية، وأن عليهم الموازنة بين السعي إلى التأثير في الرئيس والبقاء وسيطاً نزيهاً، وكما قال بيرغر فإنه "يجب أن ينظر إليك زملاؤك كممثل صادق لوجهة نظرهم وإلا سينهار النظام".
لا نفوذ سوى لترمب
وفي حين تفوق مجلس الأمن القومي بقيادة مستشار الأمن القومي على المؤسسات الأخرى في قيادة قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي الرئيسة في معظم الإدارات الأميركية الحديثة، لكن صحيفة "بوليتكو" الأميركية تقول إن والتز واجه صعوبة في الحصول على الموافقة حتى على تعيينات الموظفين، وجرى فصل بعض من اختارهم بعد شكاوى من مؤثر يميني في شأن الولاء، وهو مثال صارخ على الضعف.
كما لم تنجح وزارة الخارجية ولا الـ "بنتاغون" في تولي زمام الأمور حتى مع تعثر مجلس الأمن القومي، وهذا أمر مثير للدهشة بالنظر إلى أن الوزارتين غالباً ما استاءتا من الدور الضخم الذي لعبه مستشار الأمن القومي في الإدارات السابقة، وبخاصة الإدارة التفصيلية لمجلس الأمن القومي.
ووفق "بوليتكو" فقد لجأ المسؤولون الأجانب، غير المتأكدين من هو صاحب النفوذ الأكبر على ترمب، إلى التحدث لأكبر عدد ممكن من الأشخاص ذوي الصلة بالرئيس، والأمل هو أن يكون أحد هؤلاء الأشخاص في الأقل بمثابة هامس فعال في أذن ترمب حول كل شيء، من المحادثات النووية الإيرانية إلى الرسوم الجمركية، وبحسب دبلوماسي من أمريكا اللاتينية فإنه "من المفيد التحدث مع الجميع، لكنك تعلم أنك ستبقى على موقف متقلب حتى يقرر ترمب أمراً ما، وحتى عندما يقرر أمراً ما، فمن المرجح أن يغير رأيه"، مضيفاً "إنه أسلوب حكم شخصي وبلاطي كلاسيكي".
وفي حين يبدي وزير الخارجية ماركو روبيو فرصة للظهور كقوة رئيسة في السياسة الخارجية خلف الكواليس بعد أن طلب منه ترمب تولي دور والتز موقتاً، يرى مراقبون أن روبيو أصبح مثقلاً في محاولة الجمع بين المنصبين تحت إدارة رئيس متقلب المزاج، لم يظهر له الاحترام دائماً.
ويقول مسؤولون سابقون عملوا في مجلس الأمن القومي إن تعيين روبيو في كلا المنصبين يبرز مدى ضعف هذين المنصبين في عهد ترمب وهشاشة فريقه، وطرح بعضهم تساؤلاً حول المدة التي يمكن لروبيو أن يؤدي فيها كلا الوظيفتين بفعالية، ولا سيما بالنظر إلى مقدار السفر الذي تتطلبه وظيفته كوزير للخارجية، فضلاً عن أنه من الناحية التقنية يشغل وظيفتين أخريين، وهما القائم بأعمال مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والقائم بأعمال الأرشيفي الوطني للولايات المتحدة، وإن كان روبيو قام بتكليف آخرين بكثير من هذا العمل، كما أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أصبحت مفككة إلى حد كبير.
كيسنجر الإستراتيجي القوي
غير أنه بالعودة للتاريخ فثمة سابقة لافتة عندما شغل هنري كيسنجر، الذي خدم خلال عهدي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، منصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية بين عامي 1973 و1975، وكان إستراتيجياً قوياً يقود سياسات الرئاسة، وغالباً ما كان يتجاوز القنوات التقليدية.
ويقول تريفرتون إن مستشاري الأمن القومي يديرون التعارض في أدوارهم بطرق مختلفة، فمثلاً قدم برنت سكوكروفت الذي خدم في عهد كل من فورد والرئيس جورج بوش الأب، النموذج الأمثل للوسيط النزيه الذي يضمن عملية سياسة عادلة وتعاونية، فكان من المحترفين في العمل، هادئاً ودقيقاً في العمليات، ومؤثراً من خلال قربه الهادئ من مراكز صنع القرار.
وجاءت نهاية والتز المتوقعة عقب فضيحة "سيغنال غيت"، عندما أضاف خطأ صحافياً إلى مجموعة دردشة على تطبيق "سيغنال" تتعلق بمناقشة تفاصيل ضربة عسكرية أميركية على الحوثيين في اليمن مع كبار مسؤولي البيت الأبيض، فيما يقول مراقبون إن أسوأ أزمة واجهها مجلس الأمن القومي حدثت عندما حاول تنفيذ العمليات بنفسه لا مجرد تنظيمها، وكان ذلك في قضية "إيران- كونترا" خلال إدارة الرئيس رونالد ريغان، وقد تولى روبرت ماكفارلين منصب مستشار الأمن القومي في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1983، وكان ضابطاً سابقاً في مشاة البحرية ونائباً لمستشار الأمن القومي ومتفانياً في عمله، لكن فضيحة "إيران - كونترا" كانت سبب سقوطه، وهي عملية سرية أدارها مجلس الأمن القومي لتبادل الأسلحة مع إيران التي كانت تخضع لحظر تسليحي أميركي ذلك الوقت، على أمل إطلاق رهائن أميركيين، وجرى تحويل العائدات لتمويل قوات الـ "كونترا" في نيكاراغوا على رغم الحظر الذي فرضه الكونغرس على تمويلهم، وقد اعترف بالذنب عام 1988 بتهمة حجب معلومات عن الكونغرس.
ويعتقد المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي أن فضيحة "إيران- كونترا" عبرة مهمة لروبيو ومن سيخلف والتز في منصب مستشار الأمن القومي، بأن هناك خطراً كبيراً في الانتقال من دور الوسيط النزيه والمدافع الهادئ إلى دور المنفذ، خصوصاً إذا كانت العملية تتعارض مع السياسة الأميركية المعلنة وربما أيضاً مع القانون.
وتتحدث الصحافة الأميركية عن مرشحين أوفر حظاً لخلافة وولتز، وبينهم المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، المستثمر العقاري وصديق ترمب القديم الذي تولى زمام المبادرة في ملفات رئيسة مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا والصراع بين إسرائيل و"حماس" والمحادثات النووية الإيرانية، فيما يطرح آخرون اسم نائب رئيس موظفي البيت الأبيض والمهندس الرئيس لسياسات ترمب المعادية للهجرة، ستيف ميللر.
لكن مصادر مطلعة أفادت، ومن بينها اثنان من مسؤولي الإدارة الأميركية تحدثوا لشبكة "إن بي سي نيوز" نهاية الأسبوع، بأن هناك احتمالاً حقيقياً بأن يبقي ترمب على روبيو في منصب مستشار الأمن القومي لفترة طويلة، ويبدو أن ترمب ليس في عجلة من أمره للعثور على بديل.