ملخص
في ظل تفوق الصين المتزايد في قدرات الضربات الدقيقة التقليدية، تحتاج الولايات المتحدة إلى بناء "ثالوث تقليدي" مرن ومراوغ، يضمن القدرة على تنفيذ ضربة ثانية مؤكدة، ويعزز الردع من دون تصعيد، كما فعل "الثالوث النووي" سابقاً خلال الحرب الباردة.
في عام 1959، جادل عالم السياسة الأميركي ألبرت وولستيتر في صفحات "فورين أفيرز" بأن الولايات المتحدة لا تمتلك قدرة كافية على تنفيذ الضربة الثانية لتوفير ردع نووي مستقر ضد الاتحاد السوفياتي. وبعد عام، قدم الخبير الاقتصادي والاستراتيجي توماس شيلينغ ما أصبح التعريف الأساسي للاستقرار النووي الاستراتيجي. وكتب في كتابه "استراتيجية الصراع"، "ليس التوازن، أي المساواة أو التماثل المطلق في الوضع، هو ما يشكل ردعاً متبادلاً، بل استقرار هذا التوازن". وخلص شيلينغ إلى أن القوتين النوويتين لا يمكنهما تحقيق توازن مستقر إلا "عندما لا يتمكن أي طرف منهما، بضربته الأولى، من تدمير قدرة الطرف الآخر على الرد". وأصبحت هذه الرؤية ركيزة أساسية للاستراتيجية النووية الأميركية، التي تقوم على مبدأ أن أجزاء كبيرة من القوة النووية يجب أن تكون قادرة على الصمود والرد على أي ضربة أولى من جانب الخصم.
في الواقع، تواجه الولايات المتحدة اليوم تحدياً استراتيجياً موازياً يهدد قواتها التقليدية في غرب المحيط الهادئ. منذ السنوات الأولى من هذا القرن، وسّعت الصين بشكل كبير كمية ونوعية ترسانتها الصاروخية التقليدية، وبخاصة الصواريخ الباليستية الموجهة بدقة، التي يمكن أن تستخدمها في الضربة الأولى لإلحاق أضرار جسيمة بالقوات الأميركية التقليدية في المنطقة. لمواجهة هذا التهديد المتزايد، بدأ المخططون الاستراتيجيون في واشنطن في النظر في خيارات شن هجوم أميركي تقليدي استباقي ضد القوات التقليدية الصينية، وهي استراتيجية تذكرنا بشكل خطير بمبادئ الحرب الباردة الأميركية التي جادل وولستيتر وشيلينغ بأنها زادت من حوافز توجيه الضربة الأولى. على سبيل المثال، في فبراير (شباط) 2024، رداً على أسئلة "لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ"، صرح صموئيل بابارو، الأدميرال في القوات البحرية الأميركية، ومرشح الرئيس جو بايدن لرئاسة القيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، أن أولويته القصوى هي منع الصين من استخدام ترسانتها من الصواريخ التقليدية ضد القوات الأميركية. وعلى حد قوله، فإن الولايات المتحدة تحتاج إلى أن تكون قادرة على "شلّ" القوات الصينية، وبمعنى واسع، تعطيل قدرات بكين المتنامية على شن ضربات دقيقة تقليدية قبل أن تتمكن من إلحاق أضرار جسيمة بالقوات الأميركية.
لكنّ هذا الهدف أصبح صعباً إن لم يكن مستحيلاً، مثلما حدث في الحرب الباردة حينما بدأ الاتحاد السوفياتي في تحقيق تكافؤ نووي مع الولايات المتحدة. فترسانة الصين من الصواريخ المتنقلة، والبنية التحتية للاتصالات والمراقبة المصاحبة لها، كبيرة وموزّعة، مع وجود عديد من الأنظمة مخبّأة في منشآت تحت الأرض منتشرة في جميع أنحاء أقاليمها الشاسعة. وحتى لو حاولت الولايات المتحدة توجيه ضربة أولى واسعة النطاق ضد هذه القدرات، فإن القيام بذلك سيحمل أخطاراً تصعيدية كبيرة. علاوة على ذلك، إذا اشتبهت بكين في أن استراتيجية الولايات المتحدة تقوم على مبدأ الضربة الاستباقية، فستكون لديها حوافز قوية تدفعها لتعطيل القدرات الأميركية بسرعة، قبل أن تُشَلّ القدرات الصينية. وبالتالي فإن ضعف القوة الأميركية يؤدي إلى زيادة حوافز الطرفين لشن الضربة الأولى، مما يشكل نموذجاً مألوفاً يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار خلال الأزمات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن المنطق الذي صاغه وولستيتر وشيلينغ وآخرون يقترح سبيلاً للخروج من هذا المأزق. خلال الحرب الباردة، حافظت الولايات المتحدة على استقرار قوة الردع من خلال تطوير "ثالوث نووي"، تَمثّلَ في نشر أسلحتها النووية عبر البحر والجو والبر بطرق كانت وما زالت تجعل من الصعب على العدو العثور عليها وتعطيلها بضربة أولى. وتحديداً، استخدمت غواصات الصواريخ الباليستية، التي يصعب رصدها في البحر؛ وطوّرت عمليات "تأهّب القاذفات"، التي يمكن من خلالها نشر القاذفات بسرعة في قواعد متعددة، أو حتى إبقاؤها في الجو، لضمان عدم إمكانية تدميرها كلها دفعة واحدة (حتى بضربة أولى مباغتة)؛ وفي أوروبا، نشرت مركبات إطلاق متنقلة على الطرق، يصعب استهدافها أثناء تحركها عبر تضاريس وعرة ومعقّدة.
في المقابل، فإن عديداً من الأصول التقليدية الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مثل سفنها، مرئية ومكشوفة بوضوح أو تعتمد اعتماداً كبيراً على منشآت ثابتة يسهل استهدافها. في حال اندلاع أزمة، قد تضطر الولايات المتحدة إلى التهديد بالتصعيد لتعويض افتقارها لخيارات الرد التقليدية، وربما تصل حتى إلى مستوى التصعيد النووي. لحل هذه المشكلة، ينبغي على الولايات المتحدة تطوير "ثالوث تقليدي" مستوحى من استراتيجيتها النووية الناجحة. فمثل هذه البنية العسكرية من شأنها أن تعزز مصداقية الولايات المتحدة القتالية وتقلل من حوافز شن ضربة أولى لدى الطرفين.
وتُوفر البنية العسكرية النووية الأميركية نموذجاً أساسياً لبناء ثالوث تقليدي. وكما هي الحال مع الصواريخ النووية الأميركية، ستُوزَّع الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز الأميركية بين مجموعة من مركبات الإطلاق المتحركة في البر، والغواصات في البحر، والقاذفات في الجو. وستكون هذه الأسلحة مرتبطة بشبكة اتصالات مرنة تُشبه نظام القيادة والسيطرة والاتصالات النووي. وعند إنشاء هذا الثالوث، يمكنه أن يمنع السيناريو المزعزع للاستقرار الذي قد تؤدي فيه ضربة أولى تقليدية إلى مواجهة نووية.
مسار تصادمي
يشير التوسع السريع في ترسانة الصين من الصواريخ التقليدية إلى أن الثورة في الأسلحة الدقيقة تتبع مساراً مشابهاً لمسار الأسلحة النووية. خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من الحرب الباردة، تمتعت الولايات المتحدة بتفوق كبير على الاتحاد السوفياتي في الأسلحة النووية وأنظمة إطلاقها، لكن السوفيات لحقوا بالركب في النهاية. وبحلول أواخر الستينيات من القرن العشرين، كانت موسكو تقترب من تحقيق التكافؤ النووي مع واشنطن.
وعلى نحو مماثل، في الثمانينيات والتسعينيات، عملت الولايات المتحدة على تطوير واحتكار قدرات الضربات الدقيقة التقليدية، مثل الطائرات الشبحية والقنابل والصواريخ الموجهة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، التي استخدمتها بفعالية كبيرة في حرب الخليج عام 1991، وحرب كوسوفو عام 1999، وغزو أفغانستان عام 2001، وغزو العراق عام 2003. وقد استخلصت الصين دروساً مهمة من هذه الأنظمة وسعت إلى تقليدها. وفي سياق متصل، كتب عالم السياسة إم. تايلور فرافيل في دراسته عام 2019 حول الاستراتيجية العسكرية الصينية، بعنوان "الدفاع النشط"، فإن عقيدة بكين اليوم وقدراتها تركز على ما يسمى بالضربات الدقيقة والحاسمة المُصممة لـ"شل قدرة العدو على القتال، بدلاً من مجرد القضاء على قواته". والآن أصبحت الأسلحة الدقيقة البعيدة المدى في ترسانة الصين مُناسبة تماماً لهذا الغرض، بخاصة ضد القوات الأميركية في غرب المحيط الهادئ، التي تتميز بكونها مرئية ومكشوفة للغاية وتعتمد بشكل كبير على بنى تحتية ثابتة قريبة من البر الرئيس الصيني.
ولم تكن الولايات المتحدة غافلة عن تطوير الصين لأسلحة الضربات الدقيقة. فمنذ عام 2002، قامت وزارة الدفاع بتوثيق قوات الصواريخ الصينية في تقريرها السنوي عن القوة العسكرية للصين. في عام 2005، قدّر التقرير أن ترسانة الصين من الصواريخ تتضمّن نحو 700 صاروخ باليستي قصير المدى، وعدداً أقل بكثير من الصواريخ البعيدة المدى، معظمها يحمل رؤوساً نووية على الأرجح: نحو 20 صاروخاً باليستياً متوسط المدى [يتراوح مداها بين 1000 و 3000 كيلومتر]، ونحو 20 صاروخاً باليستياً ذات المدى فوق المتوسط [قادرة على ضرب أهداف على مسافات تتراوح بين 3000 و5500 كيلومتر]، ونحو 40 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات. أما اليوم، فقد تغير الوضع تماماً: وجد تقرير عام 2024 أن الترسانة الصينية تضم 900 صاروخ باليستي قصير المدى، و1300 صاروخ متوسط المدى، و500 صاروخ ذات مدى فوق متوسط، و400 صاروخ باليستي عابر للقارات. ومع استثناء الصواريخ العابرة للقارات، يمكن لمعظم الصواريخ الباليستية الصينية أن تحمل رؤوساً تقليدية متفجرة، مما يدل على مدى أهمية قدرات الضربات التقليدية بالنسبة إلى الصين.
إضافة إلى هذه التطورات في مجال الصواريخ الباليستية، طورت الصين أيضاً ترسانة هائلة من صواريخ كروز. على رغم أنها أبطأ من الصواريخ الباليستية، فإن صواريخ كروز أقل تكلفة في الإنتاج ويمكن تصنيعها بكميات أكبر، كذلك مساراتها متغيرة، مما يسمح لها بتفادي الكشف والدفاعات بطريقة لا تستطيع الصواريخ الباليستية تحقيقها. في الواقع، لا يحصي تقرير عام 2024 سوى ما يقدر بنحو 400 صاروخ كروز أرضي تابعة لـ"قوة الصواريخ" في جيش التحرير الشعبي الصيني، بيد أن هذا الرقم يمثل جزءاً صغيراً من إجمالي مخزون بكين من صواريخ كروز، الذي يشمل أيضاً صواريخ كروز ذات كفاءة عالية مضادة للسفن وصواريخ هجوم برية محمولة على السفن البحرية والغواصات والطائرات والمركبات الأرضية. وهذه البنية القتالية تجعل الأصول العسكرية التقليدية الصينية صعبة الاستهداف أو التعطيل أو التدمير.
يتم تفعيل هذه القدرات الصاروخية من خلال أنظمة "سي 4 أي أس آر" C4ISR الصينية (وهو اختصار لمجموعة من العناصر هي القيادة، والتحكم، والاتصالات، وأجهزة الكمبيوتر، والاستخبارات، والمراقبة، والاستطلاع) المعتمِدة على أنظمة أرضية وجوية وفضائية. في الواقع، تُشكّل هذه الموارد مجتمعةً الأساس لاستراتيجيةً تُطلق عليها بكين اسم "مكافحة التدخل" (وغالباً ما يُشار إليها في الغرب باسم "منع الوصول/ تحريم دخول المنطقة")، تهدف إلى حماية القوات الصينية مع تهديد القوات والقواعد الأميركية في غرب المحيط الهادئ بإلحاق أضرار جسيمة بها أو تدميرها. والهدف من هذا النهج هو ردع الولايات المتحدة عن التدخل في نزاع محتمل من خلال جعل تكلفة التدخل باهظة للغاية.
ويبدو أن هذه الاستراتيجية ناجحة. فبعد إجراء محاكاة حربية عام 2023، وجد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) أن قدرات بكين على مكافحة التدخل ستكبد القوات الأميركية خسائر فادحة في حال اندلاع صراع، بما في ذلك خسارة حاملتي طائرات متمركزتين في الخطوط الأمامية وما يصل إلى 20 طراداً ومدمرة، إضافة إلى خسائر موازية في الطائرات والبنى التحتية والأفراد. وستمثل هذه الخسائر نسبة كبيرة من أصل 11 حاملة طائرات ونحو 80 طراداً ومدمرة في الخدمة حالياً حول العالم. وقد خلص مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية إلى أن "مثل هذه الخسائر ستضر بالمكانة العالمية للولايات المتحدة لسنوات عدة". وتشير هذه النتائج إلى أن قدرة الولايات المتحدة على ردع صراع تقليدي مع الصين قد تكون غير كافية، وتثير تساؤلات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنتصر في حرب إذا فشل الردع.
ومن أجل معالجة هذا الخطر المتزايد على قواتها، يمكن للولايات المتحدة أن تسعى إلى شن هجوم استباقي أو تعطيل قدرات الصين على الضربات الدقيقة التقليدية، إما عبر مهاجمة الأسلحة الهجومية مباشرةً أو أنظمة "سي 4 أي أس آر" التي تتيح لها العمل. إلا أن حجم أنظمة المعلومات الصينية، ووجود نسخ احتياطية وبدائل متعددة لها، واستمرار نموها، ومخزون الصواريخ المتنقلة، والمرافق تحت الأرض، من المرجح أن تجعل تحقيق هذا الهدف أمراً بالغ الصعوبة. يشير تقرير القوة العسكرية الصينية لعام 2024، على سبيل المثال، إلى أن جيش التحرير الشعبي يحتفظ بآلاف المنشآت المتطورة تكنولوجياً تحت الأرض "لإخفاء وحماية جميع جوانب قواته العسكرية"، وهو يواصل بناء مزيد منها بوتيرة متسارعة. وأي محاولات أميركية لمهاجمة هذه القوات أو البنية التحتية على نطاق واسع بهدف تحقيق تأثير عسكري فعال قد تحمل أخطاراً تصعيدية حقيقية.
تحتاج الولايات المتحدة إلى قوات عسكرية تقليدية أكثر قدرة على المراوغة
لا يزال خبراء في شأن الاستراتيجية العسكرية داخل الصين وخارجها يناقشون أي إجراءات يتّخذها الخصم قد تعتبرها بكين بمثابة "الاستخدام الأول" [للسلاح النووي] وبالتالي قد تدفعها إلى الرد النووي وفق سياسة "عدم استخدام الأسلحة النووية أولاً" التي تنتهجها البلاد. ومع ذلك، من المنطقي الافتراض أن الصين قد تعتبر أي محاولة أميركية لاستباق أو تعطيل قدراتها على تنفيذ الضربات الدقيقة بمثابة هجوم على مصالحها الحيوية أو حتى تمهيد لهجوم على قدرات بكين النووية، بخاصة إذا أدت الضربات الاستباقية إلى تدهور أنظمة الإنذار المبكر النووي أو أنظمة القيادة والسيطرة النووية الصينية، سواء كان ذلك مقصوداً أم لا. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة قد ترى أي هجوم واسع النطاق على قدراتها على تنفيذ الضربات الدقيقة وأنظمة "سي 4 أي أس آر" بنفس الطريقة.
إن تحقيق الصين للتكافؤ أو حتى التفوق على الولايات المتحدة في مجالات قدرات الضربات الدقيقة قد دفع المخططين العسكريين الأميركيين إلى البحث عن تدابير مضادة أخرى. خلال الحرب الباردة، أدّى تحقيق الاتحاد السوفياتي للتكافؤ النووي، إلى جانب تفوقه التقليدي الكبير في أوروبا، إلى دفع الاستراتيجيين الأميركيين إلى اعتماد ما يُعرف باسم "التعويض الثاني" Second Offset. من أجل مواجهة أو تعويض التفوق السوفياتي من ناحية أعداد القوات التقليدية، طورت الولايات المتحدة قدرات التخفي والضربات الدقيقة التي يمكنها تعظيم تأثير كل سلاح واستهداف نقاط حيوية مثل مراكز القيادة والاتصالات أو الجسور وغيرها من نقاط الاختناق اللوجيستية. ولكن مع قدرة الصين الآن على مضاهاة الولايات المتحدة أو تجاوزها في القدرات الدقيقة، لم تعد استراتيجية التعويض الثانية تفي بالغرض. في أواخر عام 2014، أعلن وزير الدفاع تشاك هيغل ونائب الوزير روبرت وورك عن مبادرة جديدة تعرف بالـ "التعويض الثالث" Third Offset، تهدف إلى استغلال المزايا التكنولوجية الثورية لتعزيز تفوق القوات الأميركية رداً على فقدان احتكار الولايات المتحدة لقدرات الضربات الدقيقة التقليدية. وقد ركزت معظم مناقشات "التعويض الثالث" على تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذاتية التشغيل أو الطائرات من دون طيار ودمج أجهزة الاستشعار، مما يسمح للقوات عبر مختلف المجالات برؤية الصورة نفسها لساحة المعركة والاستجابة لها.
لكن من غير المرجح أن تنجح أي استراتيجية جديدة ما لم توفر للولايات المتحدة قوات لديها قدرة مضمونة على النجاة من هجمات تقليدية واسعة النطاق. إن "الثالوث التقليدي" الأميركي سيضع الصين أمام خيارين: توجيه ضربة أولى محدودة، من المرجح أن تفشل في إلحاق ضرر بالغ بالقوات الأميركية، أو ضربة أولى واسعة النطاق، تحمل أخطار تصعيد كبيرة وقد تفشل في العثور على غواصات أميركية في البحر، أو قاذفات قنابل منتشرة أو محلقة [قد أقلعت بالفعل وتحلق في الجو قبل بدء الهجوم]، أو منصات إطلاق صواريخ متحركة خارج قواعدها. ومهما كان الخيار الذي ستتخذه الصين، ستبقى نسبة أكبر من القوات الأميركية التقليدية متاحة للرد. وبالتالي، سيتعزز الردع على المستوى التقليدي وفقاً للمنطق ذاته الذي أوضحه وولستيتر وشيلينغ في ما يتعلق بتحقيق الاستقرار النووي في أواخر خمسينيات القرن الماضي مما ساعد في الحفاظ على السلام على المستوى النووي لما يقرب من ثلاثة أرباع قرن.
الهدف ضمن مرمى النيران
إن تحقيق الصين للتكافؤ في قدرات الضربات الدقيقة يتطلب الآن من الولايات المتحدة إعادة النظر في كيفية بناء قواتها التقليدية، تماماً مثلما أدّى تحقيق السوفيات للتكافؤ النووي إلى إجبار الولايات المتحدة على تعديل نظريتها في الردع النووي، وبالتالي إعادة تشكيل هيكل قوتها. ينبغي أن تكون القوات الأميركية قادرة على صدّ أي هجوم صاروخي تقليدي صيني واسع النطاق وردعه، مع الحفاظ على وضع "لا يتمكن فيه أي طرف منهما، بضربته الأولى، من تدمير قدرة الطرف الآخر على الرد"، على حد وصف شيلينغ.
في تقرير صدر عام 2014، أشار "مركز التقييمات الاستراتيجية والمتعلقة بالموازنة" إلى أن برنامج الدفاع الأميركي "موجَه بشدة" نحو القدرات التي تركز على "بيئات منخفضة إلى متوسطة التهديد"، في إشارة إلى الصراعات مع خصوم يفتقرون إلى القدرة على تهديد الأنظمة العسكرية والأسلحة بشكل جدي، مثل السفن والطائرات القصيرة المدى أو التقليدية [غير الخفية أو غير الشبحية]. ولا يزال هذا الأمر ينطبق إلى حد كبير اليوم، على رغم الانتشار العالمي لقدرات الضربات الدقيقة. في الوقت نفسه، يُولد ضعف القوة التقليدية الأميركية حوافز قوية لدى الجانبين لشن الضربة الأولى، مما يجعل الأزمات السياسية البسيطة والاحتكاكات العسكرية أكثر خطورة وعرضة للتصعيد.
لهذه الأسباب، فإن المبادئ نفسها التي استند إليها رد الولايات المتحدة على التكافؤ النووي السوفياتي يُمكن أن تطبَق على القوة التقليدية اليوم. ومن الأمور المركزية تطوير أصول عسكرية قادرة على الصمود، تكون تكلفتها المادية والزمنية أعلى بالنسبة إلى المهاجم من تكلفة بنائها بالنسبة إلى المُدافع [يتكبّد المهاجم للتغلب عليها تكلفة أكبر من حيث الوقت والمال مقارنةً بالتكلفة التي يتكبّدها المدافع لبنائها]. إن الصعوبة الكامنة في العثور على غواصات في المحيط المفتوح، وقاذفات قنابل متفرقة ومحمولة جواً، وقاذفات صواريخ متحركة براً، تضمن بقاء نسبة أكبر من الأصول العسكرية. في المقابل، غالباً ما يتطلب الدفاع عن القواعد الثابتة أو السفن المرئية بوضوح دفاعاً صاروخياً نشطاً يجب أن "يواجه الرصاصة برصاصة"، [اعتراض صاروخ أو قذيفة معادية بصاروخ دفاعي آخر يتطلب دقة فائقة، كأنك تحاول إصابة رصاصة طائرة برصاصة أخرى] وهو اقتراح غالباً ما يكون أكثر تكلفة بكثير من إطلاق الرصاصة الأولى. إن تزويد المنصات المتحركة بذخائر بعيدة المدى، مثل الصواريخ الباليستية أو صواريخ كروز ذات المدى المتوسط أو فوق المتوسط، يعزز من قدرتها على البقاء من خلال السماح لها بالتحرك بعيداً من مناطق تجمعات أجهزة الاستشعار والأسلحة لدى العدو، ومن خلال مضاعفة المساحة التي يجب على العدو تمشيطها هندسياً.
وقد أكدت تحليلات وعمليات المحاكاة العسكرية المتعددة، على مدى سنوات، الاستنتاج الأساسي بأن الغواصات والقاذفات ومنصات إطلاق الصواريخ البرية المتنقلة، المجهزة بأسلحة هجومية بعيدة المدى وتقنيات اتصالات مرنة، هي أكثر الأسلحة فعاليةً وقابليةً للبقاء في بيئةٍ زاخرةٍ بقدرات الضربات الدقيقة، مثل تلك التي أنشأتها الصين في غرب المحيط الهادئ. بعبارة أخرى، لضمان بقاء ترسانتها التقليدية، يجب على الولايات المتحدة استبدال مخزونها الحالي من الأصول العسكرية الثابتة والمرئية بأصول مراوغة [خفية أو يصعب رصدها] في مجالات متعددة، وفقاً لنموذج الثالوث النووي.
ميزة غير متكافئة
في أي صراع محتمل مع الصين، ستكون الولايات المتحدة غالباً في موقع الدفاع. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، عارضت واشنطن بشكل عام محاولات الدول الرامية إلى تغيير الحدود الدولية بالقوة باعتباره مبدأً ثابتاً من مبادئها الأساسية، منصوصاً عليه في المعاهدات مع اليابان والفيليبين وفي القانون في ما يتعلق بتايوان. على النقيض من ذلك، تشير سياسات بكين وأهدافها إلى ضرورة اتخاذ إجراءات عسكرية هجومية: إذ يتعين على الصين تغيير الوقائع الإقليمية لتحقيق أهدافها المعلنة.
هذه الحقيقة الاستراتيجية تضع الولايات المتحدة في وضع غير مؤات من ناحية واحدة: فالصين ستكون بلا شك هي صاحبة المبادرة في بداية أي صراع لأنها ستتحرك أولاً. وبالنظر إلى هيكلية القوات الأميركية اليوم، يواجه استراتيجيو الدفاع الأميركي خياراً صعباً بين الضربة الاستباقية، مع ما تحمله من أخطار التصعيد، وبين احتمال تلقي الضربة الأولى من بكين، وما قد يترتب على ذلك من خسائر فادحة. إضافة إلى أن القوات الأميركية مرئية بوضوح ومكشوفة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإن البنية التحتية للقواعد العسكرية الأميركية واسعة الانتشار ومحددة؛ وتعتمد خدماتها اللوجستية على وسائل دعم تجارية غير محمية، مثل السفن التجارية وطائرات الشحن وشبكات الكمبيوتر، التي قد تكون أكثر عرضة للخطر من الأصول العسكرية؛ وعلى رغم التقدم التكنولوجي الأخير، فإن البنية التحتية للاتصالات الفضائية الأميركية لا تزال تعتمد على عدد صغير نسبياً من الأقمار الاصطناعية. في الواقع، نصت العقيدة العسكرية الصينية صراحةً على تكليف قواتها بمهمة تعطيل هذه البنية التحتية الأميركية ومنصات الأسلحة التي تعتمد عليها، وقد صممت بكين ترسانتها الصاروخية الهائلة خصيصاً لتحقيق هذا الهدف.
في المقابل، ستكون لدى الولايات المتحدة وشركائها ميزة كبيرة إذا أقدمت الصين على تنفيذ مطالبها التوسعية ضد تايوان: سيكونون في موقف دفاعي ضد هجوم برمائي وهو ما يعتبر على نطاق واسع بأنه من أصعب العمليات العسكرية على الإطلاق. ومن أجل الاستيلاء على أراضٍ خارج البر الرئيس الصيني والاحتفاظ بها، يجب على الصين أن تنشر قواتها فوق مساحات مائية مفتوحة ومكشوفة وتنفيذ عمليات إنزال معقدة، بينما يمكن للولايات المتحدة وشركائها إخفاء قواتهم وتحصين مواقعهم على الأراضي التي يسيطرون عليها بالفعل.
ولكن، في سبيل تحقيق الاستفادة القصوى من هذه المزايا يجب على الولايات المتحدة إعادة هيكلة قواتها التقليدية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. فالقوة التي تُعطى فيها الأفضلية للغواصات والقاذفات البعيدة المدى (أو قدرات مماثلة)، ومنصات إطلاق الصواريخ المتنقلة على الطرق، ستقلل من الاعتماد الحالي على السفن المرئية بوضوح والطائرات القصيرة المدى التي تُشغَّل من قواعد قريبة من الصين تقع في مرمى أكبر عدد من الصواريخ الصينية.
سيشكل هذا التحول تحدياً كبيراً، لكن الولايات المتحدة بذلت جهوداً مماثلة عندما صممت وبنت الثالوث النووي. أحد المؤشرات على منطقية هذا النهج هو أن دولاً نووية أخرى، بما فيها الصين والهند وروسيا، قد قلدت هذا النموذج، ونشرت أسلحة نووية في مزيج من الغواصات والقاذفات ومنصات الإطلاق المتنقلة براً أو عبر السكك الحديدية. (فالصواريخ الباليستية العابرة للقارات المحفوظة في صوامع، التي تشكل أيضاً جزءاً من الثالوث البري، من السهل تدميرها وتسهم في الردع بمنطق مختلف، فهي تجبر الدول على الاختيار بين استخدام إحدى أسلحتها النووية لمهاجمة صوامع الخصم، وبالتالي التخلي عن هدف أكثر قيمة، أو استخدامها على هدف ذي قيمة أعلى، مع قبول الضرر الذي قد يسببه الصاروخ السليم المتبقي في الصومعة). هذا الهيكل الأساسي للقوة هو نتاج تحليل عملياتي وتطوير استمر على مدى 80 عاماً من العصر النووي، وهو قائم على منطق الردع الذي يؤكد ضرورة امتلاك قدرة مضمونة على تنفيذ ضربة ثانية.
ومن أجل بناء ثالوث تقليدي فعال، يجب على الولايات المتحدة الاستثمار في مزيد من الغواصات والقاذفات ومنصات إطلاق الصواريخ المتنقلة. وهذا يتطلب، على سبيل المثال، مضاعفة الجهود الحالية لزيادة إنتاج غواصات الهجوم من طراز "فرجينيا"؛ وزيادة إنتاج قاذفات "بي-21" B-21؛ وتسريع جهود سلاح الجو الأميركي لنشر نظام إطلاق ذخائر "مجهز على منصات"، يمكّن طائرات النقل من إطلاق صواريخ كروز تقليدية؛ وتوسيع نطاق وقدرة مشاة البحرية الأميركية (المارينز) ونظام قدرات المدى المتوسط للجيش الأميركي، وهو نظام إطلاق صواريخ أرضية نُشر حديثاً في الفيليبين.
الثالوث التقليدي سيفرض تحديات غير متكافئة على أي خصم للولايات المتحدة
ولدعم هيكل القوة الجديد هذا، ستحتاج الولايات المتحدة إلى أنظمة اتصالات ومراقبة أكثر تقدماً. يمكن أن تتخذ هذه الأنظمة شكل مجموعة كبيرة من الأقمار الاصطناعية أو مجموعة من الأقمار الاصطناعية الصغيرة تُطلق معاً وتُوزَّع في مدار محدد، تكون قادرة على مقاومة الهجمات الصينية، خصوصاً عند تعزيزها بأعداد كبيرة من المركبات الجوية غير المأهولة (المسيّرات) القادرة على رصد القوات المعادية والعمل كنقاط اتصال ضمن شبكة اتصالات. كما يجب تزويد كل مكوّن من مكونات الثالوث التقليدي بمخزونات كبيرة من صواريخ كروز والصواريخ الباليستية التقليدية المتوسطة المدى وذات المدى فوق المتوسط، لا سيما الصواريخ المضادة للسفن، التي تمتلكها الصين بالفعل بالآلاف.
بهذا الشكل، ستفرض القوة التقليدية الأميركية تحديات غير متكافئة على أي خصم. فمن ناحية، ستكون تكلفة اكتشاف القوات الأميركية وتدميرها في المجالات الثلاثة أعلى بكثير بالنسبة إلى الخصم مما ستتكبده الولايات المتحدة لتشغيل تلك القوات. كذلك فإن الذخائر التي تحملها هذه المنصات المتنقلة عادةً ما تكون تكلفة استخدامها أقل مقارنة بتكلفة الدفاع ضدها، نظراً لسرعة الصواريخ الباليستية وقدرة صواريخ كروز على المناورة. إن صعوبة اكتشاف هذه المنصات وأسلحتها والتصدي لها تضمن بشكل أساسي بقاء نسبة كبيرة من القوة بعد الضربة الأولى، وبالتالي قدرتها على تنفيذ ضربة ثانية. علاوة على ذلك، تعمل كل من الصين والولايات المتحدة على تطوير أسلحة فرط صوتية، التي على رغم تكلفتها الباهظة، من المرجح أن تجعل التصدي للصواريخ أكثر صعوبة بفضل الجمع بين السرعة الفائقة والقدرة على المناورة.
في حال اندلاع صراع كبير بين الصين والولايات المتحدة، فإن قدرة واشنطن على حماية قواتها العسكرية التقليدية وتأمين تنفيذ ضربة ثانية مؤكدة ستؤدي إلى تقليل خسائرها مقارنة بخسائر الصين. وقد يكون هذا عاملاً حاسماً في مواجهة دولة تتمتع بموارد اقتصادية وتكنولوجية وصناعية هائلة. ونظراً لأن أياً من الطرفين لن يتمكن من تحقيق نصر كامل شبيه بانتصار الحلفاء على اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فإن قدرة الولايات المتحدة على تقليل خسائرها وإعادة بناء قوتها وجاهزيتها، بخاصة مقارنةً بقدرة الصين على فعل الشيء نفسه، ستصبح مقياساً مهماً للنجاح. وعلى النقيض من ذلك، فإن خوض صراع تدافع فيه الولايات المتحدة بنجاح ضد هجوم أول ولكن بتكلفة مرتفعة تمنعها من التصدي لهجوم ثانٍ، سيضعها في وضعٍ غير مؤاتٍ طويل الأمد. لذلك، تُعد القدرات القتالية القابلة للبقاء ضرورية ليس للردع فحسب، بل أيضاً لضمان تحقيق توازن مستقر بعد الصراع إذا فشل الردع.
موازنة القوى
لقد شكل مبدأ الضربة الثانية المضمونة أساس الاستقرار النووي لأكثر من نصف قرن. وبفضل التقدم التكنولوجي، أصبح هذا المنطق ينطبق بشكل متزايد على القدرات التقليدية. إذا أرادت الولايات المتحدة الحفاظ على قدرة موثوقة على هزيمة، وبالتالي ردع، أي محاولة صينية لتغيير النظام السياسي في شرق آسيا بالوسائل العسكرية، فإن قواتها التقليدية ستحتاج إلى تطوير قدرة تقليدية على تنفيذ ضربة ثانية مؤكدة. ومن خلال تقليل الحوافز لدى كلا الطرفين لتنفيذ الضربة الأولى، ستقلل هذه القدرة أيضاً من احتمالية التصعيد غير المقصود، الذي قد يكون كارثياً.
اتخذت وزارة الدفاع والكونغرس خطوات مهمة لزيادة إنتاج الغواصات والقاذفات ومنصات إطلاق الصواريخ المتنقلة المزودة بأسلحة تقليدية، ولتطوير بنية تحتية مرنة للاتصالات والمراقبة. وهناك دعم واسع من الحزبين لتطوير قدرات صاروخية برية بعيدة المدى متنقلة من خلال "فرقة المهام المتعددة المجالات" التابعة للجيش ومشاة البحرية الأميركية (المارينز)، وكذلك لتوسيع إنتاج الغواصات الهجومية الأميركية إلى أكثر من غواصتين سنوياً. هناك أيضاً دعم كبير لتوسيع نطاق شراء الأسلحة البعيدة المدى، مثل صاروخ المواجهة المشترك جو-أرض ذات المدى المعزز وصاروخ كروز توماهوك. ومن جهتها، كانت القوات الجوية مدركة منذ وقت طويل لأهمية القاذفة الاستراتيجية "بي-21"، وتواصل تطوير خيارات لاستخدام طائرات الشحن مثل "سي-17" و"سي-130" كمنصات إطلاق ذخائر عالية السعة. كما أن جهود وزارة الدفاع الأميركية لتوسيع استخدام مجموعات الأقمار الاصطناعية المنتشرة على نطاق واسع مثل "ستارلينك"، ستمكّن جميع قواتها المقاتلة من التواصل بشكل أفضل مع بعضها البعض، ورصد الخصوم، وتنسيق الهجمات، من بين وظائف أساسية أخرى.
واستطراداً، بذلت وزارة الدفاع جهوداً حديثة لتسريع تطوير أنظمة ذاتية التشغيل منخفضة التكلفة، مثل الطائرات المسيرة والمركبات المسيرة تحت الماء. وتشمل هذه الجهود مبادرة "ريبليكاتور"، [اسم يعني حرفياً المحاكي، يشتق من مصطلح ريبلكا الذي يترجم في التقنيات الرقمية بصنع نسخة رقمية عن شيء، أو بالأحرى محاكاة رقمية عنه]، وبرنامج الوزارة لتطوير هذه الأنظمة ونشرها، ومفهوم "هيلسكيب" [جحيم ميداني] لاستخدام الأنظمة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ومن خلال نشر أعداد كبيرة من المسيّرات المنخفضة التكلفة نسبياً، توفر هذه البرامج وسائل مهمة لتعويض التفوق العددي الصيني في الأصول العسكرية. وإذا نُشرت هذه الأنظمة بالقرب من العدو، فبإمكانها الرد على أي هجوم بشكل أسرع من السفن أو الطائرات الأميركية التي يتعين عليها التحرك من ألاسكا أو هاواي أو غوام أو الساحل الغربي للولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن أنظمة "ريبليكاتور" حالياً هي حل محدد لمشكلة محددة متمثلة في الدفاع عن شركاء الولايات المتحدة القريبين من الصين في وقت قصير. وكما صرّح بابارو لصحيفة "واشنطن بوست" في يونيو (حزيران) 2024، فإن "هيلسكيب" يهدف في المقام الأول إلى كسب الوقت، لجعل حياة القوات الصينية "بائسة تماماً لمدة شهر، مما يمنحني الوقت الكافي لبقية الخطط".
أما "بقية الخطط" في المهمة، التي تتضمن إعادة هيكلة شاملة للقوات الأميركية في غرب المحيط الهادئ، فلا تزال قيد التنفيذ. فالقواعد الصناعية للغواصات والذخائر الأميركية لا تزال تعاني من الجمود، ولا تتحسن إلا ببطء وبتكلفة باهظة. سيستغرق بناء 100 قاذفة قنابل من طراز "بي-21" مدة قد تزيد على عقد من الزمن. وقد توقفت شركة بوينغ عن بناء طائرات "سي-17" عام 2015، ولا تزال خطط القوات الجوية للجيل القادم من طائرات الشحن في مراحلها الأولى. وفي الوقت نفسه، فإن المدى النهائي وقدرات منصات الإطلاق البرية المتنقلة التابعة للجيش ومشاة البحرية لم تحدد بعد بشكل كامل. ومن أجل مواكبة استمرار تطوير الصين لصواريخها، سيتطلب الأمر زيادة كبيرة في جميع مستويات القوات هذه.
في الواقع، إن القيود والتحديات التي تعيق تطوير هذه القدرات حقيقية. لكن الصين لا تُبطئ جهودها الرامية إلى توسيع ترسانتها التقليدية من أسلحة الضربات الدقيقة. أما التهديد الذي يشكله تحديثها العسكري على حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في غرب المحيط الهادئ، فهو لن يزول. وإذا كانت الولايات المتحدة تعتبر الحفاظ على الهيكل الأمني الحالي في المنطقة مصلحة حيوية، فيجب أن تكون مستعدة لبناء توازن ردع تقليدي مستقر يدوم طالما تستمر الصين في أن تكون منافساً عسكرياً.
إن بناء "ثالوث تقليدي" لن يؤدي إلى إنشاء رادع أقوى فحسب، بل سيقلل أيضاً من أخطار التصعيد السريع سواء التقليدي أو حتى النووي إذا فشل الردع. وتماماً كما اكتشف الاستراتيجيون الأميركيون خلال الحرب الباردة عندما حقق السوفيات التكافؤ النووي، فإن خلفاءهم الذين يواجهون عالماً من الأسلحة التقليدية البعيدة المدى والدقيقة التوجيه اليوم قد يجدون أن تحقيق توازن الردع المستقر لا يزال ممكناً. ومع ذلك، فإن هذا سيعتمد على حصول القوات الأميركية على قدرة موثوقة لتنفيذ ضربة ثانية تقليدية مؤكدة. وسيتطلب ذلك من واشنطن اتخاذ قرارات صعبة وسط مناقشات سياسية وجدالات حادة حول الموازنة. لكن هذا النهج مُمكن. أما البديل، أي ارتفاع مستوى الأخطار على القوات الأميركية، وعلى الردع في غرب المحيط الهادئ، وعلى استقرار الأزمات، فهو خيار لا تستطيع الولايات المتحدة تحمّله.
أندرو ليم اختصاصي في الشؤون الخارجية بمكتب وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات. الآراء الواردة هنا تعبر عن رأيه الشخصي.
جيمس فيرون أستاذ كرسي غيبال في كلية العلوم الإنسانية، وزميل أول في معهد فريمان-سبوغلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد. شغل منصب مستشار أول في مكتب وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسات من عام 2021 إلى عام 2022.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 22 أبريل (نيسان) 2025