ملخص
تشير معطيات وزارة السياحة والآثار الفلسطينية إلى أن المستوطنين تعمدوا تزوير تاريخ وأسماء مقامات إسلامية عدة في الضفة الغربية، ومن بينها بلدة "كفل حارس" شمال سلفيت، إذ قاموا بتغيير المعالم التاريخية وأسمائها بما يتماشى مع المعتقدات اليهودية بإطلاق القصص والروايات المزيفة حول تاريخ تلك الآثار القديمة.
على وجه السرعة أغلقت سارة بوزية (35 سنة) النوافذ وأوصدت الباب وأطفأت الأنوار، وجمعت كل أطفالها في غرفة واحدة. فمنزلها يقع قرب مقام "يوشع" في بلدة "كفل حارس" شمال الضفة الغربية، الذي يتعرض لاقتحامات متكررة من آلاف المستوطنين، وهو ما يضعها تحت ضغط ورعب شديدين ريثما تنتهي صلاة وطقوس المستوطنين واحتفالاتهم، والتي عادة ما تبدأ خلال التاسعة مساء وتنتهي مع شروق شمس اليوم التالي. وإذا ما تعلق الأمر بمناسبة دينية كالأعياد والاحتفالات اليهودية، يغلق الجيش الإسرائيلي البوابة الحديدية المقامة عند مدخل البلدة بأمر عسكري، ويجبر أصحاب المحال التجارية على إغلاقها، ويمنع سكانها الذين يقرب عددهم من 4500 نسمة من التنقل، بهدف تأمين اقتحام أعداد أكبر من المستوطنين قد تصل إلى نحو 3 آلاف مستوطن، وهو ما يضطر بعض العائلات الفلسطينية هناك لمغادرة منازلهم والمبيت في بلدات مجاورة. وتتوسط قرية "كفل حارس" قضاء مدينة سلفيت، أربعة مقامات هي مقام النبي "ذي الكفل" والنبي "ذي النون" ومقام "يوشع" (ويعرف أيضاً بمقام صلاح الدين الأيوبي)، ويعرف الرابع باسم بنات الزاوية (نسبة لبنات سيدنا يعقوب) والتي يدعي المستوطنون أنها أماكن إسرائيلية مقدسة، ويدْعون باستمرار إلى السيطرة على البلدة وتحويلها إلى بؤر استيطانية أو كنس يهودي.
ويقوم الفلسطينيون عادة بالحج إلى المقامات والبساتين المقدسة التي تحيط بها خلال أيام الأعياد، للصلاة وإقامة الاحتفالات والطقوس الدينية، وكذلك للاحتفالات العائلية مثل الأعراس وإيفاء النذور والمواسم والاستجمام في الهواء الطلق، مثل مقام الشيخ القطرواني في عطارة ومقام الشيخ حواس في دير غسانة والشيخ عمار في دير دبوان داخل رام لله. وبنى الفلسطينيون حولها حدائق عامة تحظى برعاية دائمة لمصلحة مجتمعاتهم.
تهجير ممنهج
وفقاً لأهالي "كفل حارس"، ظلت اقتحامات المستوطنين للبلدة التي بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي مضبوطة إلى حد ما، إلا أنها خلال الأعوام الأخيرة أصبحت أخطر وأوسع بصورة ملموسة. إذ لا تمر أية عملية اقتحام للمستوطنين والتي تتكرر حالياً نحو كل أسبوعين، من دون تكسير نوافذ المنازل القريبة من المقامات وحرق مركبات وخط شعارات معادية للمسلمين والعرب على الجدران، كما تطلق أعيرة نارية على خزانات المياه علاوة على ذلك، يتسببون في الإزعاج حتى ساعات متقدمة من الليل عبر تشغيلهم مكبرات الصوت. وعلى رغم أن المقامات تقع في منطقة خاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية المصنفة "أ" وفقاً لتفاهمات اتفاق "أوسلو" 1994، عمدت السلطات الإسرائيلية بحجة تأمين الزيارة لتلك المقامات إلى فرض سياسة الأمر الواقع على بلدة "كفل حارس"، وتوسيع رقعة الاستيطان على أراضيها ومصادرة مزيد من الأراضي لخلق هجرة طوعية في صفوف السكان. وبعد مصادرة 3 ملايين متر مربع من أراضي البلدة من أصل خمسة لبناء مستوطنة "أرئيل" التي تعد ثاني أكبر مستوطنات الضفة الغربية، حشرت لجنة التخطيط والبناء الإسرائيلية سكان البلدة بين ست مستوطنات، وقضمت من أراضيهم نحو مليون متر مربع أخرى لتشييد شارع "عابر السامرة" للربط فيما بينها. وحولت إسرائيل نحو ثلثي مساحة القرية البالغة 25 مليون متر مربع كمناطق "جيم" الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، إذ لا يحق للأهالي البناء والتوسع إلا في مخطط هيكلي ضيق لا يتعدى مليون متر مربع. وإلى جانب ضرورة دحض الرواية الإسرائيلية حول المقامات، أوضح رئيس مجلس بلدة "كفل حارس" أسامة صالح أهمية الحفاظ على المقامات الإسلامية والتاريخية في البلدة بشتى الوسائل والإمكانات المتاحة، وتفويت الفرصة على المستوطنين للسيطرة عليها، مؤكداً أن "هناك جهوداً رسمية وشعبية تُبذل في سبيل إعادة إحياء هذه المقامات والاهتمام بها واستغلالها كما يجب". في حين نفى أستاذ الأدب القديم والمؤرخ الفلسطيني إحسان الديك "وجود أي حق لليهود في المقامات داخل بلدة كفل حارس، والتي شُيدت وفق بناء معماري إسلامي من قباب ومحاريب"، مشيراً إلى أن تاريخ المقامات ديني إسلامي منذ نشأتها وأن الهدف الإسرائيلي من السيطرة عليها يكمن في طمس الهوية والثقافة الفلسطينية لتنفيذ مشاريع استيطانية".
محراب ومصليات
وفق الكتب والمصادر التاريخية وما يؤكده مؤرخون وكبار سن من سكان البلدة، فإن مقام النبي "ذي الكفل" المكون من غرفتين متلاصقتين، الأولى فيها ضريح كبير والذي يدعي المستوطنون أنه يهودي، والثانية تسمى القبة وكانت تستعمل كاستراحة للزائرين إلى المقام من خارج البلدة. ويضم المقام محراباً في الجهة الجنوبية ومجموعة من المصليات الحجرية في ساحته الشمالية، واستناداً إلى قدسية المقام الذي يحمل طراز البناء الإسلامي في عهد الدولة الإسلامية الأولى، فقد ذهب أهل البلدة لدفن موتاهم ضمن المنطقة المحيطة بالمقام من جهاته الثلاث، وحظي باهتمام خاص وتحول إلى مزار تؤدى فيه العبادات وتقدم فيه النذور. إلا أن السلطات الإسرائيلية بعد عام 1967، رفعت لافتة زرقاء كبيرة على المكان، كتبت عليها باللغات "العربية والإنجليزية والعبرية" اسم كالب بن يفونه (أحد أصحاب النبي موسى). أما مقام صلاح الدين الأيوبي الذي يطلق عليه اليهود اسم "مقام يوشع بن نون" فله باب يفضي إلى ساحة مكشوفة مسورة، وآخر يؤدي إلى مقبرة. وجاء في الوثيقة التي كتبها القائد جوهر بن عبدالله على حجر يضمه أحد جدران المقام "إن جوهر بن عبدالله أحد خدم الضريح"، وهذا بالنسبة إلى مؤرخين ينسف الادعاءات الإسرائيلية حول هوية صاحب المقام. فلو كان صاحب الضريح هو "يوشع بن نون" لما وصف جوهر نفسه بأنه خادم الضريح، فهو بحسب الكتب والمراجع،مقام إسلامي بناه فاتح القدس صلاح الدين الأيوبي. وعلى مقربة منه يوجد مقام النبي ذي النون (يونس عليه السلام) الذي يضم ضريحاً كبيراً مكشوفاً، وتقع في شرقه غرفة خصصت للعبادة حرصت نساء البلدة على أداء الصلاة فيها، وبخاصة في أيام الجمعة، وطوال شهر رمضان وبحسب الكتب السامرية القديمة فإن "ذا النون" هو قبر "نون" والد يوشع.
روايات مزيفة
وتشير معطيات وزارة السياحة والآثار الفلسطينية إلى أن المستوطنين تعمدوا تزوير تاريخ وأسماء مقامات إسلامية عدة في الضفة الغربية، ومن بينها بلدة "كفل حارس" شمال سلفيت، إذ قاموا بتغيير المعالم التاريخية وأسمائها بما يتماشى مع المعتقدات اليهودية بإطلاق القصص والروايات المزيفة حول تاريخ تلك الآثار القديمة. وبادرت محافظة سلفيت قبل أعوام عدة بترميم المقامات في "كفل حارس" لتأكيد إسلاميتها. ووفقاً لمنظمة "محسوم ووتش" الإسرائيلية التي تنشط في مراقبة تصرفات قوات الجيش الإسرائيلي وتوثيق الاعتداء على المدنيين الفلسطينيين وحقوقهم، فإن إسرائيل فرضت بعد عام 1967 تمييزاً واضحاً بين المقامات لمصلحة المقامات التي تحمل أسماء توراتية، مثل قبر يوسف في نابلس وقبر راحيل في بيت لحم والنبي صموئيل غرب القدس، وحظيت باعتراف ضابط هيئة الأديان في الجيش ورُممت بموازنات ضخمة وحُرست، وتحولت إلى مواقع حجيج جماهيري لليهود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حين أن المقامات المقدسة لدى المسلمين فقط التي أقيمت تكريماً للصحابة أو الأولياء المحليين في الضفة الغربية، ويقدر عددها بنحو 40 مقاماً في الضفة الغربية، تُترك عرضة للتخريب ويُمنع وصول الفلسطينيين إليها بأوامر عسكرية، وإلى جانب أنها لم تحظَ باعتراف الجيش فقد تركت مواقع التراث الديني مشاعاً، إما لكونها تقع قرب مستوطنات ومناطق تدريب بالسلاح الناري أو لوقوعها ضمن محميات طبيعية، وحال صيانتها بحسب السكان المحليين ومراقبين متدنية جداً، مما جعلها عرضة للمحو والدمار، و"على رغم أنها تقع في الأراضي المحتلة وينطبق عليها القانون الدولي الذي يوجب الحفاظ عليها، وفتح إمكانية وصول المؤمنين بها من السكان الخاضعين للاحتلال إليها". كما أن معاهدات ووثائق دولية خاصة بحقوق الإنسان وحماية المدنيين نصَّت كلها على وجوب حماية المعالم الحضارية والثقافية والدينية للسكان، وعدم قانونية أي انتهاك أو استيلاء على مواقع كهذه.