ملخص
أدرينالين الصراخ في المؤتمرات أو المحافل، وتعبير الصياح عن كارثة إنسانية وتطابق ما جاء في محتوى الصياح مع ما تشعر به الملايين تؤدي إلى نتائج غير محسوسة بالضرورة.
تصرف غير مقبول، لكنه شائع ومعروف في أروقة السياسة، فالمرشحان المتنافسان يصرخان خلال مناظرات ما قبل الانتخابات. والمرشح الخاسر يصرخ وحده في مؤتمر ما بعد إعلان النتيجة، والبرلمانيون يصرخون وهم يستعرضون مشكلات من يمثلونهم، أو يوجهون الاتهامات لمسؤولي الحكومات. والقائد يصرخ وهو يعبر عن غضبه من اتهامات الخونة والعملاء. والمؤيدون يصرخون وهم يعبرون عن تأييدهم المطلق ودعمهم غير المشروط له. زعيم المعارضة يصرخ وهو يصف القائد بالفاشل والخائب، وأنصاره يصرخون كصدى صوت له، وعجلة الصراخ السياسي لا تتوقف عن الدوران.
وضمن دوران عجلة الصراخ ما تنضح به قاعات المؤتمرات في أوقات الكوارث والأزمات والصراعات، وأحياناً في الهواء الطلق على هامش تجمع سياسي عاجل، أو على أثير حرب دائرة على الحدود، وأمثلة الحاضر الآني والماضي القريب كثيرة.
الصراخ على الحدود
بعد أيام من اندلاع حرب القطاع كرد فعل متوقع لعملية "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين أول) عام 2023، سمع العالم صراخ المدونة المصرية الشابة رحمة زين التي كانت تقف ضمن مئات على الجانب المصري من معبر رفح في شمال سيناء، في وجه مراسلة شبكة "سي أن أن" الأميركية كلاريسا وورد. صراخ زين بالإنجليزية عما وصفته بـ"تحيز الإعلام الغربي، ولا سيما الأميركي، في تغطية حرب القطاع لمصلحة إسرائيل، على حساب غزة وأهلها"، وصل إلى العالم عبر كاميرات الهواتف المحمولة، وكاميرا الشبكة نفسها.
صراخ رحمة زين المطالب بتغطية متوازنة، على رغم أجندات المنصات الإعلامية التابعة لبلادها وحكوماتها، ظل ملء السمع والبصر في أرجاء الكوكب لبضعة أيام، حتى شبكة "سي أن أن" "المتهمة" بالانحياز نقلت الصراخ وبثته عشرات المرات، مما حقق لها ملايين المشاهدات والتفاعلات.
مضت الأسابيع والأشهر والحرب دائرة، لكن قلما يتذكر أحد صراخ الحدود، والأهم من ذلك أن لا سبب الصراخ أو مطالبه وجدت طريقها إلى التفعيل أو التدقيق. كما أن تغطية الشبكة وغيرها لم تشهد تغيراً، فقط مزيداً مما اتهمت به!
أدرينالين الصراخ
أدرينالين الصراخ في مثل هذه الأوضاع وتعبير الصياح عن كارثة إنسانية وتطابق ما جاء في محتوى الصياح مع ما تشعر به الملايين تؤدي إلى نتائج غير محسوسة بالضرورة. فبين استثمار لمقطع الصراخ على أثير الـ"سوشيال ميديا" للتعريف بالمسألة وفتح باب الحوار أمام الدوافع التي أدت بشابة إلى مثل هذا التصرف، وغيرها من أنواع الحراك النقاشي بين مؤيد ومعارض، يرى بعضهم أن الصراخ في هذه الحال يقوم بدور لفت الانتباه والتعريف بما قد يكون غائباً عن عدد من الأشخاص، ومن ثم يخدم القضية.
والصراخ السياسي خلال الفعاليات والمؤتمرات والمحافل اختيار لم ينتهِ، فمنه المرتب والمخطط، ومنه العفوي التلقائي الذي يأتي من وحي اللحظة، وتحت ضغط مشاعر غاضبة تعتري الصارخ أو الصارخة.
أسمعك... شكراً
أحدث الصارخين مهندسة البرمجيات في قسم الذكاء الاصطناعي المغربية ابتهال أبو السعد التي "كانت" تعمل في شركة "مايكروسوفت" الأميركية ولكن في كندا. صراخ أبو السعد جاء أثناء مؤتمر للشركة عقد في واشنطن منذ فترة، إذ قاطع المدير التنفيذي لقطاع الذكاء الاصطناعي في "مايكروسوفت" مصطفى سليمان أثناء كلمته في مؤتمر ضمن احتفال الشركة بمرور 50 عاماً على تأسيسها. ومقاطعة أبو السعد جاءت احتجاجاً على علاقات الشركة مع إسرائيل، تحديداً ما وصفته بـ"استخدام الذكاء الاصطناعي الذي تطوره الشركة في الإبادة الجماعية"، في إشارة إلى حرب إسرائيل على غزة.
وصراخ أبو السعد في حينها أدى إلى ردود فعل آنية هادئة، بين مطالبة أفراد الأمن لها بالمغادرة، ورد سليمان عليها "أسمع احتجاجك. شكراً لك". واستمر الرد الهادئ بعدها، إذ أشارت تقارير صحافية إلى تلقيها دعوة مكالمة هاتفية مع قسم الموارد البشرية في الشركة، وأُبلغت بأنها ستُفصل فوراً.
وسارت على النهج نفسه زميلة لها تدعى فانيا أغراوال، وهي مهندسة برمجيات أميركية من أصل هندي، صرخت في وجه المتحدثين على المنصة خلال الاحتفالية نفسها ضد ما وصفته بـ"موقف الشركة الداعم لإسرائيل"، ولكن أثناء فعالية ضمت الرئيسين التنفيذيين السابقين للشركة بيل غيتس وستيف بالمر والرئيس التنفيذي الحالي ساتيا ناديلا.
تفاعلات وفصل
حظيت مقاطع الشابتين الصارختين بمشاهدات وتفاعلات مليونية ومناقشات بين معترضين ومؤيدين، وتعليقات عكست طرفي نقيض الرأي العام العالمي تجاه ما يجري في حرب القطاع.
وبعد فصلهما، خفتت حدة المشاهدات والتفاعلات، ولم يتغير شيء في أرض المعركة، لكن السؤال يبقى، هل يؤثر الصراخ أثناء المؤتمرات في مآل القضايا الكبرى؟ والرأي العالم المحلي والعالمي؟ وكيف؟
هناك عدد كبير من الدراسات والكتابات عن الصراخ السياسي، ولماذا تدفع القضايا السياسية كثيراً من الأفراد إلى الغضب؟ ولماذا يصرخ الساسة في الجولات الانتخابية وتحت قباب البرلمانات وأعلى منصات الخطابة والبلاغة؟ ولماذا يصرخ المرشحان المتنافسان في المناظرات؟ ولماذا يصرخ مؤيدو أحدهما في وجه مؤيدي الآخر؟ بل درس علماء نفس واجتماع العلاقة الوثيقة بين المشاعر واحتقانها، وبين السياسة وتوجهاتها وأهوائها.
أثر الصراخ
على رغم أن أحداً لم يدرس أثر الصراخ السياسي في المؤتمرات، فإنه يمكن إلقاء الضوء على جوانب هذا الصراخ وآثاره في ضوء المتاح، فضمن دراسة جمعت بين العلوم السياسية والنفسية للباحثين أستاذ العلوم السياسية الأميركي ستيفن وبستر وأستاذة العلم النفسي السياسي بثاني ألبرتسون عنوانها "العاطفة والسياسة: التحيزات النفسية غير المعرفية في الرأي العام" (2022)، جاء أن "السياسة المعاصرة تتميز بطابعها العاطفي. أصبحت العواطف تُشكل وتتأثر بدورها بالاستقطاب الحزبي والرأي العام والمواقف السياسية. وأصبحت العلاقة بين العاطفة والاستقطاب واضحة، وكذلك أثر العواطف على القضايا وسبل معالجتها والآراء التي تتشكل بناء عليها".
ويرى الباحثان أن الناس بصورة عامة أصبحوا أكثر تفاعلاً، سلباً وإيجاباً، مع القادة السياسيين والمؤسسات والقضايا السياسية من خلال حال عاطفية. ويمكن القول بصورة عامة إن الشعوب أطلقت العنان لقدر أوفر من الغضب تجاه السياسة والساسة. والساسة في الوقت نفسه أطلقوا العنان لتوجيه خطاب مفعم بالغضب لجموع المواطنين. والقضايا المثيرة للغضب أصبحت أكثر تعقيداً، أو ربما أصبحت أكثر شيوعاً لدى أعداد أكبر من الناس، مما يسهم في تأجيج الغضب.
من الخوف من المهاجرين، إلى القلق من التحولات الديموغرافية، إلى الوجل من الأوبئة، إلى التعاطف أو الانتماء أو الولاء لطرف من دون آخر في حرب أو صراع دموي مما ينجم عنه أيضاً غضب شديد، يهمين الغضب على الأجواء.
الصراخ وسيلة تواصل
وترصد الدراسة استخدام الزعماء السياسيين المتزايد للخطاب العنيف والشعبوي كوسيلة تواصل واتصال مع المواطنين على المستوى العاطفي، ولا سيما الساسة من المنتمين للأحزاب الشعبوية الذين وجدوا أو أخبرهم مستشاروهم بأن المشاعر، ولا سيما الغاضبة، باتت تقوم بدور متنامٍ في تشكيل السلوك السياسي وتوجيه الرأي العام. وتخلص الدراسة إلى أن النتيجة هي نشوء بيئة قابلة للاشتعال، تتسم بالانحياز العدواني والاحتجاج وهامش أكبر من قبول الانقسام والاحتجاج والصراخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وداخل قاعات المؤتمرات والفعاليات التي تحوي رموزاً سياسية أو اقتصادية أو تقنية (بحكم أن شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أصبحت ضالعة في عالمي السياسة والاقتصاد ومشكلة وموجهة لهما ومؤثرة فيهما)، يرى بعضهم فرصة ذهبية للصراخ السياسي لأغراض مختلفة، بين جذب الانتباه وشعور الصارخ أمام نفسه بأنه لم يكتفِ بالصمت أمام ما يعتبره ظلماً أو عدواناً، ورغبة محمومة في التعبير عن الغضب، وأحياناً فقدان القدرة على السيطرة على المشاعر أمام سماع أو متابعة ما يعتبره الصارخ رياءً أو كذباً أو أمراً غير أخلاقي، إضافة بالطبع إلى الصراخ المنظم والمقصود سواء مدفوعاً بقناعات سياسية أو بأموال نظير القيام بمهمة.
ليس جديداً
وإذا كان الصراخ خلال بعض المؤتمرات والفعاليات منذ اندلاع حرب القطاع أصبح متكرراً من قبل أشخاص ينتمون لطرفي النقيض، ولكن متعاطفي الطرف الفلسطيني أكثر عدداً، فإن الصراخ أو الاعتراض أو الغضب في المؤتمرات ليس جديداً، ولعل الحذاء الذي رشق به الصحافي العراقي منتظر الزيدي الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش أثناء مؤتمر صحافي في بغداد عام 2008 يظل أشهر سبل الصراخ الذي تحول إلى عمل مادي.
الزيدي نفسه الذي لم يعبر منذئذ عن ذرة ندم يقول إن ما فعله كان تعبيراً عن الغضب حيال ما نتج من الغزو الأميركي للعراق عام 2003، مما وصفه بالفساد والفوضى. ليس هذا فقط، بل إن الزيدي في كل مقابلة على مدى السنوات، يؤكد أن الغضب نفسه يلازمه حتى اللحظة!
وفي حادثة الرشق تجاهل بوش ما جرى، وقال "الأمر يشبه الذهاب إلى تجمع سياسي، وتجد الموجودين يصرخون في وجهك. هي طريقة للفت الانتباه".
رشق مصحوب بالصراخ
سواء كان الرشق بالحذاء المصحوب بالصراخ الغاضب أو بالكلمات أو الاتهامات، يظل الصراخ في زمن الاحتقان السياسي والتصعيد العسكري ووقوف طرف في خانة الضحية مقابل طرف آخر في خانة الجلاد، وارد الحدوث والتكرار خلال المؤتمرات.
ويظل قبول ذلك من عدمه، وطريقة التعامل مع الصارخ، سواء بالحبس كما حدث مع الزيدي الذي أمضى ستة أشهر في السجن بتهمة الاعتداء على رئيس دولة زائر، أو بالفصل من العمل كما حدث مع مهندستي "مايكروسوفت"، أو حوادث أخرى تراوح فيها رد الفعل ما بين طرف نقيض القبول والسكوت لحين انتهاء الصراخ، أو الطرف الآخر فالسكوت لحين استدعاء الأمن وعقاب الصارخ بين الاختفاء القسري أو السجن أو التوبيخ أو الإبعاد من الأمور التي تخضع لاختلافات ثقافية بين الدول وبعضها، وكذلك سياسية وأمنية في طرق التعامل مع المعارضة بالصراخ.
بيض وطماطم وفطائر
في سياق مشابه، ولكن مع إضافة عامل مواد غذائية ارتبطت بمشاعر الغضب، أصبح هناك ما يعرف بـ"رشق الساسة بالبيض" وربما الطماطم (البندورة) أو الحبر أو غيرها من المواد التي تترك أثراً على المرشوق، ومن بينها الفطائر والبروكلي والحليب والطين.
ويحدث هذا كثيراً في دول غالبيتها غربية مثل بريطانيا وفرنسا وأستراليا وبلجيكا وكندا والدنمارك وألمانيا واليونان وإيرلندا وإيطاليا وهولندا وإسبانيا والسويد، وبدرجة أقل في دول أميركا اللاتينية واليابان وتايوان والفيليبين.
الراشق والمرشوق
والغرض الرئيس من هذا النوع من الرشق الغاضب يكون التعبير عن الغضب الشديد عبر إهانة السياسي، ففي الغالبية العظمى من عمليات الرشق، يكتفي السياسي المرشوق بالسكوت، أو التظاهر بتفهم غضب الراشق، أو يصطحبه المرافقون له بعيداً من المكان.
وتظل واقعة رشق النقابي الراحل وعضو حزب العمال البريطاني ونائب رئيس وزراء بريطانيا السابق جون برسكوت ببيضة من أحد المتظاهرين الغاضبين أثناء جولة انتخابية في شمال ويلز عام 2001 الأشهر في عالم الرشق، فما إن استقرت البيضة على وجهه، حتى أمسك برسكوت بالرجل الذي رشقه ودفعه إلى الحائط وبدأ يلكمه قبل أن تتدخل الشرطة وأعضاء من حزب العمال للتفريق بينهما. وأصبحت الحادثة معروفة ليس بـ"بيضة برسكوت" بل "لكمة برسكوت".
وضمن كتاب مثير عنوانه "الدماغ السياسية: ظهور السياسة العصبية" للإعلامي وأستاذ العلوم السياسية التطبيقية والعلاقات الدولية البريطاني مات كفورتروب، جاء أن 10 في المئة من الناس يستخدمون جزءاً صغيراً في أدمغتهم يسمى "اللوزة الدماغية" حين يفكرون في السياسة. وهذه اللوزة الدماغية تتحكم في الجزء الأكبر من عواطف الشخص وطريقة إدارته لعمليات التفكير. ويقول كفورتروب أن عدداً من الأفراد لا يلجأون بالضرورة إلى التعقل والمنطق حين يفكرون أو يتفاعلون مع قضايا أو أمور سياسية.
بيولوجيا الانتفاضات
ودراسة هذا الجزء من الدماغ تمكن العلماء من توقع سلوك الناس، وتفسير ما يسميه "بيولوجيا الانتفاضات والثورات والحروب"، باعتباره الجزء الذي يتحمل قدراً من مسؤولية شعور بعضهم بأنهم لا يحظون بالمكانة والتعامل اللذين يستحقونهما، أو شعورهم بالتهديد، مما يفسر الغضب الشديد الذي يعتري بعض الناس من الموجودين في مؤتمرات أو محافل سياسية أو غيرها، وترجمتهم هذا الغضب إلى صراخ أو رشق بالبيض أو الطماطم أو ما يتسر من فطائر.
أما أثر الصراخ والرشق في لفت انتباه المتابعين لقضايا ما، أو زوايا قد تكون غائبة فيها، أو كوسيلة احتجاجية، فهو أمر يصعب قياسه أو التنبؤ به. وغالب الظن أن صوت الصراخ سيؤثر إيجاباً في من يعتنق وجهة نظره من الأصل، وسلباً في من يعتنق عكسها. أما تغيير الدفة، أو توضيح القضية، أو رد المظالم، ففي الأرجح تظل غائبة.