ملخص
ربع وفيات لبنان السنوية بسبب التدخين، حيث تنتشر أشكال مختلفة في أوساط الشباب من السجائر إلى النرجيلة، والسجائر الإلكترونية. فيما يحذر أخصائيون من انتشار السجائر الإلكترونية، لأنها "تبدو للبعض خياراً أقل ضرراً من التدخين التقليدي، لكنها تحمل العديد من الأخطار الصحية".
منذ شهرين، بدأت أعراض المشكلات التنفسية تظهر على الشاب ياسر، 47 سنة، بسبب تدخين السجائر الإلكترونية. يصف تلك التجربة بالصعبة، بعدما احتاج للبقاء تسعة أيام في إحدى المستشفيات. يروي قصته مع التدخين، التي تشبه أحوال آلاف الأشخاص، ممن يكافحون للإقلاع عن هذه العادة، قائلاً "بدأت متأخراً بالتدخين، ففي أيام الشباب كنت شديد التعلق بالرياضة، ولكن عندما سافرت للعمل خارج لبنان، بدأت أستعير السجائر من رفاقي في أوقات الفراغ إلى أن تعلقت بها، وأصبحت من عاداتي اليومية... وصلت بي الأمور إلى تدخين ثلاث علب سجائر في النهار الواحد".
سار ياسر على طريق الكثير من الشباب، ممن انتقل من السجائر العادية إلى تلك الإلكترونية، معتقداً أن "الأخيرة لا ضرر فيها إلا أن المفاجأة كانت معاكسة، حيث عانى من مشكلات تنفسية خطيرة". يتحدث الشاب عن "محاولات فاشلة للإقلاع عن التدخين، حيث توقف في إحدى المرات لمدة 28 يوماً، إلى أن عاد إلى سابق عهده بتأثير من المحيط"، ويقر أنه "بات مدمناً، ولا يمكنه التخلي عنها على رغم الكلفة الكبيرة المادية والصحية"، وقد بلغ الأمر درجة شراء كميات كبيرة ونقلها في الحقيبة أثناء السفر.
صغار السن أشد المدخنين
يشهد لبنان انتشاراً كبيراً لآفة التدخين في أوساط الشرائح العمرية المختلفة بمن فيهم صغار السن، فالطفل الذي لا يمكنه القيام بغالبية الأعمال القانونية، ولا يحصل على رخصة قيادة مثلاً، يمكنه دخول أي متجر وشراء السجائر والتدخين على الملأ وداخل المقاهي، لا بل التقاط الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث لا يوجد أي قانون يمنع المتاجر من بيع السجائر للأطفال أو حتى تدخينها.
يقر الكثير من المدخنين أن "الطفولة شكلت نقطة البداية في الاعتياد على التدخين"، ويستعرض باسم، 23 سنة، قصته "في سن 12 سنة، كنت أراقب أخي الكبير أثناء التدخين، وأنتظره إلى أن يطفئ السيجارة ويرميها في البستان"، و"كنا رفيقي وأنا نجمع تلك السيجارات التي ما زال فيها نصفها، ومن ثم نختبئ في إحدى الزاويا وندخنها"، و"أستذكر في المرات الأولى، كنت أشعر ضيقاً في الصدر، وثقلاً في الرأس، وكدت أغيب عن الوعي"، و"لكن اعتدت عليها على رغم ضررها الكبير، ومراجعتي طبيب الأمراض الصدرية بين الفينة والأخرى".
الكلفة الاقتصادية الهائلة
شكلت النرجيلة قفزة هائلة على مستوى عادة التدخين الضارة في لبنان. زارت "اندبندنت عربية" إحدى الحدائق التي يقصدها أهالي منطقة الكورة في شمال لبنان لقضاء أوقات الاستجمام. في الداخل، تستقبلك رائحة "الكاربون" الصادرة عن إشعال الفحم، وكان ملاحظاً مركزية النرجيلة في تلك الجلسات، حيث تحمل السيدات حقائب مزركشة تتدلى منها النراجيل. تمتلئ الحديقة بالزائرين، وتسيطر رائحة "المعسل" على الفضاء. في الأثناء، تحاول رشا، 22 سنة، الابتعاد والبحث عن مكان خال من الدخان، وتعبر عن استغرابها لغياب أية "طاولة من دون نرجيلة واحدة على الأقل".
يتضح أن ظاهرة التدخين أمر شائع، ولا يحتاج إلى كثير من البحث لأجل إثباته. وبحسب دراسة أطلقتها وزارة الصحة اللبنانية ومنظمة الصحة العالمية فإن "ما يقارب 9200 يموتون سنوياً في لبنان بسبب أمراض متعلقة بالتدخين، وهو عدد يمثل أكثر من 25 في المئة من مجمل الوفيات". أيضاً يتحمل لبنان فاتورة مالية كبيرة بسبب الإدمان على التبغ، وما يترتب عليها من نفقات الرعاية الصحية، وقلة الإنتاج، والخسائر في التنمية البشرية قدرها 5.3 تريليون ليرة كل عام، أي قرابة 140 مليون دولار أميركي، وهو ما يوازي 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للبلاد.
خلال كلمة له على هامش إطلاق دراسة تتعلق بآثار التدخين وتكلفته الباهظة، أكد وزير الصحة ركان ناصر الدين أن "تعاطي التبغ مدمر لصحة الفرد، ويزيد أعباء الأمراض غير المعدية كالسرطان وأمراض القلب والجهاز التنفسي، إلى جانب المعاناة الإنسانية، يُحمِل التبغ النظام الصحي تكلفة باهظة، ويُضعف الإنتاجية، ويستنزف موارد لم يعد لبنان قادراً على تحمل خسارتها". وتؤكد أوساط وزارة الصحة "كارثة التدخين ليست بجديدة على البلاد، وتتضاعف الخسائر بانتظام، ولكن الوزارة تسعى إلى رفع مستوى التوعية بين المواطنين نظراً للخسائر التي نتعرض لها، وتخفيف الفاتورة الاقتصادية والصحية".
الفاتورة الباهظة بالأرقام
وفق بعض التقارير، يتخطى عدد المدخنين في لبنان مليوناً و200 ألف مواطن، فيما تشير الدراسة التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة إلى أن نسبة المدخنين قاربت 38 في المئة وفق نتائج آخر مسح أجري بين عامي 2016-2017.
ويستهلك 82 في المئة من المدخنين أكثر من 10 سجائر في اليوم. وبلغت نسبة الأطفال المدخنين 36 في المئة على رغم أنه محظور عليهم التدخين. وتكشف هذه الدراسة الجديدة أن بإمكان لبنان تفادي خسائر اقتصادية تزيد قيمتها على 400 مليون دولار ناهيك عن إنقاذ حياة ما يصل إلى 40 ألف شخص على مدى السنوات الـ 15 المقبلة، وذلك من خلال تنفيذ سياسات مكافحة التبغ التي توصي بها اتفاقية منظمة الصحة العالمية.
وفقاً لهذه الدراسة، يمكن للبنان إعادة استثمار المدخرات الناتجة من انخفاض نفقات الرعاية الصحية الناتجة من أمراض التدخين، وزيادة عائدات الضرائب على التبغ، في أولويات التنمية الوطنية الحيوية، مثل التغطية الصحية الشاملة، وبرامج الحماية الاجتماعية، وجهود التعافي الاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعد باحثون في الجامعة الأميركية في بيروت دراسة سابقة تحت عنوان "كلفة التدخين على لبنان: أرقام تقديرية للآثار الاقتصادية لاستهلاك التبغ"، وتوصل البحث الذي شارك فيه الدكتور جاد شعبان، والباحثة ناديا نعماني، والدكتورة نسرين سلطي، إلى أن "900 ألف مدخن لبناني تقريباً يدخنون 7.8 مليار سيجارة سنوياً"، وتشير الأرقام إلى أن 53 في المئة من الراشدين اللبنانيين هم من المدخنين بشكل عام، فيما جزء كبير ممن هم بين 13-15 سنة يدخنون إما السجائر أو النرجيلة، و35 في المئة من الراشدين اللبنانيين يدخنون السيجارة، وتشكل اللبنانيات أعلى نسبة تدخين في منطقة الشرق الأوسط. وحسب الدراسة، يستهلك الراشدون اللبنانيون 12.4 علبة سجائر في الشهر، وهو من أعلى المعدلات في العالم.
كما تكشف الدراسة أن عدد "الأمراض المتعلقة بالتدخين يبلغ نحو 27 مرضاً"، و"يتعرض 79 في المئة من الأطفال لدخان غير مباشر في المنزل"، علماً أن "التدخين غير المباشر يزيد احتمال أمراض القلب بـ 25 في المئة". كما أن "1 في المئة من حرائق الغابات هي بسبب رمي السجائر، فيما تشكل السجائر وعلب السجائر 46 في المئة من النفايات في الشوارع"، وعليه "تصل الكلفة البيئة الناتجة من السيجارة إلى 13.2 مليون دولار أميركي سنوياً. ومن المفارقات التي أثبتتها دراسة الجامعة الأميركية أن التبغ "يكلف لبنان أكثر مما يستثمره كل سنة في تطوير بنيته التحتية".
الخطر المقبل
يزداد خطر التدخين مع انتشار أشكال جديدة ومبتكرة، بعضها قد يكون مغرياً، إذ لم يعد الأمر مقتصراً على سيجارة تدخن في أماكن مفتوحة، وتحتاج إلى جهد لإشعالها، وإنما تجاوزتها إلى تجربة النرجيلة بوصفها "عملاً تشاركياً"، وصولاً إلى "السيجارة الإلكترونية" التي توضع في الجيب، وترافق الجيل الشاب في المقام والترحال، في العمل وأوقات الراحة، حتى الصفوف الدراسية.
يحذر الدكتور جان الشيخ أخصائي الأمراض السرطانية من انتشار السجائر الإلكترونية، لأنها "تبدو للبعض خياراً أقل ضرراً من التدخين التقليدي، لكنها تحمل العديد من الأخطار الصحية". ويعدد قائمة طويلة من الأخطار، تبدأ بـ "الإدمان على النيكوتين" بخاصة لدى الشبان والمراهقين، بسبب احتواء الكثير من السجائر الإلكترونية هذه المادة. كما تضرر الرئتين بسبب البخار الناتج منها، واحتوائه على مواد كيماوية مثل البروبلين غلايكول والمواد المنكهة، والتي قد تسبب التهابات ومشكلات تنفسية، وربما أمراضاً مزمنة مثل EVALI، أي إصابة الرئة المرتبطة بالتبخير.
يكشف الشيخ عن استقبال حالات مصابة بسبب التدخين الإلكتروني، و"إن كانت الإصابة قد تستغرق سنوات طويلة قبل ظهور أعراضها"، منوهاً إلى تأثيرات عدة على صحة وسلامة القلب، حيث يمكن أن يتسبب النيكوتين بارتفاع ضغط الدم، ويزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب. وينبه إلى "آثار شديدة على المراهقين" والتي قد تصل إلى مستوى "تلف الدماغ"، عازياً ذلك إلى أن "النيكوتين يؤثر في تطور الدماغ، بخاصة في سن المراهقة، مما قد يؤثر في التركيز والذاكرة والتحكم في الانفعالات.
يؤكد الدكتور جان الشيخ وجود أخطار أخرى متعددة، تبدأ مع احتواء بخار تلك السجائر على مواد سامة ومسرطنة، مثل الفورمالديهايد، ولا تنتهي بخطر انفجار البطارية، متحدثاً عن "تقارير تثبت انفجار البطاريات في بعض الأجهزة، وتسببه بالحروق والإصابات الجسدية الخطيرة".
من التوعية إلى الطب التقليدي
ينشط المجتمع المدني في لبنان على مستوى التحذير من أخطار التدخين في لبنان، انطلاقاً من الفاتورة الصحية والاقتصادية الكبيرة التي يتعرض لها المجتمع. وتلجأ الجمعيات إلى حملات ميدانية إضافة إلى فيديوهات توعوية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في المقابل، يطور بعض العاملين في المجال الصحي طرقاً علاجية استناداً إلى الطب البديل، وقد تواصلت "اندبندنت عربية" مع البعض منهم للإطلاع على الطرق المعتمدة.
وتلفت السيدة ياسمين صبيح من جمعية "نجم" إلى تجربتهم في التوعية ضد أخطار التدخين في أوساط الشباب والراشدين. وتشير إلى عمل العيادة النقالة التي تتجول في المناطق اللبنانية وتقوم بتقديم إرشادات للمدخنين وناهيك عن نشر التوعية حول أخطار التدخين بأنواعه، إضافة إلى "تقديم رزنامة شهرية للإقلاع عن التدخين"، كنوع من التحفيز والتشجيع.
بدورها، تكشف السيدة ماغي عن "اعتماد عدة خطوات للتشجيع على ترك التدخين، بدءاً بحث المدخن على وقف مسك السيجارة، إلى جانب تنظيم أجهزة التلقي في الجسم لمركبات الأسيتيكول كولين لمنع الجسم من طلب المزيد من النيكوتين، والحفاظ على نظام الحرق في الجسم للحؤول دون ارتفاع الوزن، إضافة إلى القضاء على مصادر الضغط النفسي، والتي تدفع المدخن للعودة إلى عاداته القديمة".
فيما يشترط لنجاح العلاج عدم تواجد المريض في الأيام الأولى مع مدخنين بصورة مطلقة، وهو يتبع بعض مبادئ الطب الصيني لناحية مراكز الطاقة في الوجد والأذن، وتسليط الأشعة على تلك المواضع المحددة، وصولاً إلى "نسبة مرتفعة من الإقلاع عن التدخين".