ملخص
أدى عدم اليقين إلى هرب المستثمرين من الدولار وسندات الخزانة، فانخفض مؤشر الدولار أكثر من 9 في المئة حتى الآن هذا العام
خلاف غير مسبوق بين البيت الأبيض برئيسه دونالد ترمب ورئيس مجلس الاتحاد الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) جيروم باول، وقد تتفهم الأسواق هذا التناحر الاقتصادي، خصوصاً أن الرئيس الأميركي يتمتع بنظرة اقتصادية مختلفة عن غيره من الرؤساء السابقين.
وشهدت فترة رئاسة ترمب الأولى (2017-2021) توتراً غير ساخن، تحديداً مع رئيسه جيروم باول الذي عينه ترمب نفسه في فبراير (شباط) 2018 عام خلفاً لجانيت يلين.
وعلى رغم التعيين، سرعان ما تصاعدت حدة الخلافات بين الطرفين، خصوصاً في ما يتعلق بسياسات أسعار الفائدة ودور "الفيدرالي" في دعم الاقتصاد الأميركي.
الخلاف العلني
بدأ الخلاف العلني عام 2018 عندما رفع "الفيدرالي" أسعار الفائدة مرات عدة، في وقت كان ترمب يضغط لتحفيز النمو الاقتصادي من خلال معدلات فائدة منخفضة، إذ رأى ترمب آنذاك أن الزيادات في أسعار الفائدة تهدد الزخم الاقتصادي الذي تبناه كرئيس، خصوصاً مع سياسته القائمة على الخفوض الضريبية والإنفاق على البنية التحتية.
وعام 2019، أصبح انتقاد ترمب أكثر وضوحاً وشراسة، إذ وصف سياسة باول بأنها "مجنونة" و"تبطئ الاقتصاد"، بل ذهب إلى حد القول إن "الفيدرالي" هو "الخطر الأكبر" على الاقتصاد الأميركي، وأشار في أكثر من مناسبة إلى رغبته في "إقالة" باول، على رغم الجدل القانوني حول مدى صلاحية الرئيس في ذلك.
الحياد المؤسسي
في المقابل، التزم باول الحياد المؤسسي، مؤكداً مراراً استقلالية البنك المركزي عن الضغوط السياسية. وعلى رغم الضغوط بدأ "الفيدرالي" خفض الفائدة تدريجاً في النصف الثاني من عام 2019، في محاولة للتعامل مع تباطؤ الاقتصاد العالمي والحروب التجارية، خصوصاً مع الصين.
وعادت العلاقة للتوتر مجدداً في بدايات جائحة كورونا عام 2020، حين طالب ترمب بمزيد من التدخل النقدي الجريء، فيما كان "الفيدرالي" يتحرك بحذر وفق أدواته التقليدية وغير التقليدية، مثل خفض الفائدة إلى مستويات قريبة من الصفر وشراء السندات لدعم السيولة.
وعلى رغم الخلافات، يحسب لباول تمكنه من الحفاظ على استقرار البنك وسمعته كمؤسسة مستقلة، في وقت كانت الضغوط السياسية عند أعلى مستوياتها.
وانتهت ولاية ترمب فيما بقي باول في منصبه، ليعاد ترشيحه لاحقاً من قبل الرئيس جو بايدن، في إشارة إلى احترام المؤسسة الفيدرالية على رغم العواصف السياسية.
تراجع الدولار
في هذا الوقت تراجع الدولار الأميركي بصورة ملحوظة هذا العام، مما أحدث سلسلة من التأثيرات المتباينة في العملات العالمية، إذ مثل مصدر ارتياح لبعض البنوك المركزية وصداعاً للبعض الآخر، فقد أثار الغموض المحيط بالسياسات الاقتصادية في الولايات المتحدة موجة نزوح من الأصول الأميركية، بما في ذلك الدولار وسندات الخزانة، مما أدى إلى انخفاض مؤشر الدولار أكثر من تسعة في المئة منذ بداية العام، وسط توقعات بمزيد من التراجع.
ووفقاً لأحدث استطلاع أجراه "بنك أوف أميركا" لمديري الصناديق العالمية، فإن 61 في المئة من المشاركين يتوقعون هبوطاً في قيمة الدولار خلال الأشهر الـ12 المقبلة، وهو أكثر التقديرات تشاؤماً بين كبار المستثمرين منذ نحو عقدين.
ويُمكن أن يعكس هذا الانسحاب من الأصول الأميركية أزمة ثقة أوسع، مع تداعيات محتملة مثل ارتفاع معدلات التضخم المستورد مع ضعف الدولار.
وقال كبير محللي العملات في "فوركس لايف" آدم باتن لشبكة "سي أن بي سي" إن "معظم البنوك المركزية سترحب بانخفاض الدولار الأميركي بنسبة تراوح ما بين 10 في المئة و20 في المئة".
وهذا التراجع في العملة الأميركية أدى إلى ارتفاع قيمة عملات أخرى مقابلها، ولا سيما عملات الملاذ الآمن مثل الين الياباني والفرنك السويسري واليورو.
ووفقاً لبيانات "أل أس أي جي"، ارتفع الين الياباني أكثر من 10 في المئة مقابل الدولار منذ بداية العام، بينما صعد الفرنك السويسري واليورو نحو 11 في المئة.
وشهدت عملات أخرى في الأسواق الناشئة والقريبة منها أيضاً ارتفاعاً مقابل الدولار، مثل البيزو المكسيكي الذي زاد بنسبة 5.5 في المئة والدولار الكندي الذي صعد أكثر من أربعة في المئة، وارتفعت العملة البولندية "زلوتي" أكثر من تسعة في المئة والروبل الروسي أكثر من 22 في المئة.
إلا أن بعض عملات الأسواق الناشئة شهدت تراجعاً على رغم ضعف الدولار، مثل الدونغ الفيتنامي والروبية الإندونيسية اللتين سجلتا مستويات تاريخية منخفضة هذا الشهر، في حين هبطت الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها الأسبوع الماضي، وسجل اليوان الصيني أدنى مستوى له مقابل الدولار قبل أسبوعين تقريباً، لكنه عاد وحقق بعض التعافي منذ ذلك الحين.
هل هناك مجال لخفض أسعار الفائدة؟
وباستثناءات قليلة مثل البنك الوطني السويسري، يعد تراجع الدولار الأميركي مصدر ارتياح للحكومات والبنوك المركزية حول العالم، بحسب ما أفاد به محللون لـ"سي أن بي سي".
وقال آدم "معظم البنوك المركزية سترحب بانخفاض قيمة الدولار الأميركي بنسبة تراوح ما بين 10 في المئة و20 في المئة"، مضيفاً أن "قوة الدولار كانت تمثل تحدياً دائماً لأعوام، ولا سيما للدول التي ترتبط عملاتها بالدولار بصورة مباشرة أو غير مباشرة".
ويمثل ضعف الدولار فرصة ثمينة لاقتصادات الأسواق الناشئة التي تعاني مديونية كبيرة مقومة بالدولار، إذ يخفض من العبء الحقيقي لهذه الديون، كذلك تراجع قيمة الدولار مقابل العملات المحلية يجعل من الواردات أقل كلفة، مما يسهم في خفض معدلات التضخم ويفسح المجال أمام البنوك المركزية لخفض أسعار الفائدة وتحفيز النمو الاقتصادي.
وأشار باتن إلى أن موجة بيع الدولار الأخيرة منحت البنوك المركزية "هامشاً أكبر للمناورة" وخففت عنها القيود، مما يعزز فرص التيسير النقدي في الفترة المقبلة.
وعلى رغم أن قوة العملة المحلية تساعد ربما في كبح التضخم من خلال خفض كلفة الواردات، فإنها تعقد قدرة الدول على المنافسة التصديرية، ولا سيما في ظل الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة التي تؤثر بصورة خاصة في آسيا بوصفها أكبر منتج للسلع في العالم، بحسب الرئيس المشارك لبنك "في بي" في سنغافورة وكبير مسؤولي الاستثمار في آسيا توماس روبف.
من جانبه يرى رئيس قسم الأبحاث الاقتصادية في "مونكس يوروب" نيك ريس أن "مسألة خفض قيمة العملة ستصبح محور اهتمام أكبر في الأسواق الناشئة خصوصاً في آسيا، في إطار محاولات الحفاظ على القدرة التنافسية"، مستدركاً "لكن البنوك المركزية في تلك الدول ستضطر إلى السير على خط رفيع لتجنب هرب رؤوس الأموال وأخطار أخرى قد تترتب على ذلك".
وقال كبير استراتيجيي الأسواق المالية في "إكسنس" وائل مكارم لـ"سي أن بي سي" إن "الأسواق الناشئة تواجه تحديات كبيرة من ناحية التضخم المرتفع ومستويات الدين وأخطار هرب رؤوس الأموال، مما يجعل خفض قيمة العملة خطوة محفوفة بالأخطار"، مضيفاً أن "مثل هذا الخفض قد يفسر من قبل الإدارة الأميركية كإجراء تجاري غير عادل، مما قد يستدعي ردود فعل انتقامية".
واستغل البنك المركزي الأوروبي فرصة تراجع معدلات التضخم ليقوم بخفض جديد في أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس خلال اجتماعه في أبريل (نيسان) الجاري.
وأشار البنك في بيانه الخميس الماضي إلى أن "معظم مؤشرات التضخم الأساس تشير إلى أن التضخم سيستقر عند هدف المجلس الحاكم البالغ اثنين في المئة على المدى المتوسط وبصورة مستدامة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدورها حذرت وكالة "فيتش" من أن الاقتصادات الناشئة قد تتردد في خفض أسعار الفائدة لأن ذلك قد يؤدي إلى تفاقم عبء الدين على الأسر والشركات المقترضة بالدولار الأميركي، وأن ضعف العملة المحلية قد يؤدي إلى خروج رؤوس الأموال نتيجة لتراجع الفارق بين أسعار الفائدة المحلية ونظيرتها الأميركية.
وفي هذا السياق يرى مدير قسم الاقتصاد في "فيتش" أليكس موسكاتيلي أن "البنك المركزي الإندونيسي لن يمضي قدماً في خفض كبير للفائدة بسبب تقلبات العملة الأخيرة، بينما قد تكون لدى كل من كوريا والهند مساحة أكبر لاتخاذ خطوات مماثلة".
من جهة أخرى لفت آدم باتن إلى أن البنك الوطني السويسري يواجه تحدياً طويل الأمد يتمثل في قوة الفرنك التي استمرت لما يزيد على 15 عاماً.
وتمثل صادرات السلع والخدمات أكثر من 75 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لسويسرا، مما يجعل قوة الفرنك تحدياً كبيراً نظراً إلى أنها تجعل المنتجات السويسرية أكثر كلفة في الأسواق الخارجية.
وأضاف باتن "إذا استمرت تدفقات رؤوس الأموال إلى البلاد، فقد يضطر البنك إلى اتخاذ إجراءات حادة لخفض قيمة العملة".
ويقبل المستثمرون على الفرنك في أوقات عدم اليقين، كما حدث خلال الأسابيع الأخيرة، مما يزيد من قوة العملة ويعمق التحدي أمام الاقتصاد السويسري.
البنوك المركزية تتجنب خفض قيمة العملة
وتعد سياسة خفض قيمة العملة محفوفة بالأخطار، إذ قد تؤدي إلى تسارع نمو الأسعار، مما يدفع السلطات النقدية إلى الحذر خوفاً من بقاء معدلات التضخم أعلى من أهدافها المعلنة.
وأوضح المتخصص في الشأن الاقتصادي الدولي واستراتيجي العملات في "ويلز فارغو" بريندان ماكينا أن "أخطار ارتفاع التضخم نتيجة تراجع قيمة العملة، إلى جانب الضغوط الناتجة من الرسوم الجمركية، في ظل الردود المتوقعة على تعريفات أميركية جديدة، قد تجعل البنوك المركزية أقل ميلاً لانتهاج سياسة خفض طوعي لقيمة عملاتها".
وأضاف أن "معظم البنوك المركزية الأجنبية تملك نظرياً القدرة على إضعاف عملاتها، إلا أن احتمال لجوئها إلى ذلك لا يزال ضعيفاً مع الظروف الاقتصادية الراهنة".
وقال ماكينا إن "الدول المصدرة التي تملك احتياطات كافية ولا تعتمد بصورة كبيرة على الديون الخارجية قد تكون لديها مساحة أكبر لخفض قيمة عملاتها"، مستدركاً "لكن حتى هذه الدول من المرجح أن تتعامل بحذر".
وأشار إلى أن الاتجاه العام للمفاوضات التجارية سيكون عاملاً حاسماً في كيفية تصرف الدول، مضيفاً أن دولاً عدة باستثناء الصين أبدت استعداداً للدخول في محادثات تجارية، وإذا أسفرت هذه المحادثات عن خفض الرسوم الجمركية، فإن البنوك المركزية قد لا تجد ضرورة للجوء إلى تراجع العملة.
من جانبه نبه الرئيس المشارك للاستثمار في آسيا لدى بنك "في بي" توماس روبف إلى أن خفض قيمة العملة في ظل المناخ الجيوسياسي الراهن قد يثير ردود فعل انتقامية ويعرض الدول لاتهامات بالتلاعب بالعملة.
وعلى رغم احتمال أن تؤدي التوترات التجارية إلى نتائج أكثر حمائية تدفع البنوك المركزية نحو تراجع عملاتها، يرى ماكينا أن "الخيار المفضل في الوقت الراهن هو تجنب حرب عملات من شأنها أن تضيف مزيداً من عدم الاستقرار على الصعيدين المحلي والعالمي".