ملخص
كان سكان الجبال والداخل في بلاد الشام وكذلك المزارعون والفلاحون ينصحون بالاستقرار في البيوت خلال شهر الشتاء الثاني، وبعدم السفر لتفادي التعرض للعواصف المفاجئة التي قد تتراكم الثلوج خلالها بصورة غير متوقعة، تؤدي إلى قطع الطرق وتوقف وسائل المواصلات بسبب الجليد والضباب الكثيف خصوصاً في المناطق المرتفعة.
تداولت المراصد الجوية في وسائل الإعلام اللبنانية والسورية والأردنية والفلسطينية أو بلاد الشام بصورة عامة خلال الأسبوع الجاري أنباء عن العاصفة القطبية المسماة (آدم) بصورة كثيفة، إذ بدأ الحديث عنها أولاً على وسائل التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار قبل أن تصل وتنشر بياض ثلوجها وصقيعها داخل هذه البلاد، ومنحت مذيعي نشرات الطقس مساحة واسعة بعد أن كانت أدوارهم تقتصر على دقائق تنتهي بها النشرات الإخبارية.
وسارعت المؤسسات والوزارات المعنية بالطقس في هذه الدول بتحذير مواطنيها من آثار العاصفة الواصلة مع درجات حرارة تصل إلى أدنى من الصفر داخل كثير من المناطق، وأعطت التعليمات باستخدام التدفئة والخروج في أوقات معينة والتموين المسبق خصوصاً في الجبال المرتفعة والمناطق الداخلية، حيث يمكن أن تنقطع الطرق بسبب الثلوج والجليد.
ما بدا غريباً أن هذا التضخيم الإعلامي لعاصفة تصل خلال فصل الشتاء أظهرها كما لو أنها تحدث للمرة الأولى في هذه المنطقة، على رغم أن بلاد الشام معروفة ببرودة شتائها وبالطقوس والعادات والتقاليد التي ترافق الفصل البارد منذ قديم الزمان. ففصل الشتاء في بلاد الشام لم يكن يوماً مجرد فصل كغيره من فصول العام، بل تجربة اجتماعية تتخللها طقوس الركون في البيوت واللجوء إلى استخدام المواد التموينية المتنوعة الغنية بالسعرات الحرارية والطاقة والبروتين، التي تُحضر منذ فصلي الصيف والخريف استعداداً للشتاء، إضافة إلى تحضير الحطب والمازوت والفحم والمواقد النقالة أو "المناقل" وغيرها من وسائل التدفئة، التي يتحلق حولها جميع أفراد العائلة في جلسات مسامرة الجدات اللاتي يروين القصص المتعلقة بالبرد القارس، بانتظار مرور العاصفة وخفوتها.
شهور الشتاء الباردة في بلاد الشام
يبدأ فصل الشتاء في بلاد الشام خلال ديسمبر (كانون الأول) وهو اسم استخدمه قديماً البابليون والآراميون ويليه شهر الشتاء الثاني ويحمل نفس الاسم أي يناير (كانون الثاني)، ومع الاستخدام الممتد لهذا لاسم صار معناه في اللغتين السريانية والعربية "المنقل" وهو الموقد النقال، وغالباً ما يصنع من الطين ومن الحديد ليشعل فيه الفحم أو الحطب، إلا أن قاموس لسان العرب ومؤلفه ابن منظور أعاد تسمية "الكانونان" إلى اللغة الرومية أو الرومانية التي باتت تسميهما بعد التقويم الغريغوري بديسمبر وجانيوري وجانفيه ويناير.
بات يناير أول شهر في العام الأوروبي منذ عام 1564، مع تعديل التقويم اليولياني إلى التقويم الغريغوري، ويسمى في اللاتينية جانواريوس أو ينواريوس، ويسميه أبناء المغرب وسائر أفريقيا الشمالية حتى مصر "يناير" وهو منسوب إلى الإله الروماني جانوس أو يانوس. وبحسب الأسطورة هو أقدم ملوك بلاد اللاتين الذي أحسن وفادة الإله ستورن أو زحل المطرود من السماء، فكافأه بأن وهبه معرفة المستقبل فكان الماضي والآتي أمام عينيه على مستوى واحد، ومن هنا تمثيله بشخص ذي وجهين متدابرين يتأمل أحدهما أحداث الماضي وينظر الآخر في الآتي من الأيام.
منح زمن البرد... مشاعر
كان سكان الجبال والداخل في بلاد الشام وكذلك المزارعون والفلاحون ينصحون بالاستقرار في البيوت خلال شهر الشتاء الثاني، وبعدم السفر لتفادي التعرض للعواصف المفاجئة والتي قد تتراكم الثلوج فيها بصورة غير متوقعة، تؤدي إلى قطع الطرق وتوقف وسائل المواصلات بسبب الجليد والضباب الكثيف خصوصاً في المناطق المرتفعة. واعتاد أهل بلاد الشام في لبنان وسوريا وفلسطين البقاء قرب مصادر الدفء في المنازل وتحت الأغطية الصوفية وهو ما يسمونه "الكنكونة"، ولهذا كان هذا البرد يدفعهم إلى الرفق بالفقراء من الناس فكان المثل الشعبي المعروف عندهم "في كانون كن وعلى الفقير حن".
أما الشهر الثاني من العام وثالث أشهر الشتاء أي شباط أو فبراير فيصفه السكان بالمزاج المتقلب، والمثل الشعبي المتداول والمعروف بينهم هو "شباط مهما شبط ولبط رائحة الصيف فيه"، ولهذا ينتظرون شمس شباط كي تريحهم من برد الشهرين السابقين، وليس من النادر أن تترافق فيه زوابع العواصف المجلجلة وسيولها الجارفة مع حرارة الشمس الحادة. ولهذا فإنهم يشبهون شهر شباط بشخص أعور العين وإذا أغمض عينه طبقت الغيوم الآفاق فاكفهر الجو وانهمر المطر الغزير، وإذا فتحها صفا وصح الطقس، ولهذا فإن تقلب شباط المزاجي لا يجعل غيومه دليلاً على مطر قريب ولا شمسه الحارة دليلاً على صحو طويل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا التعاقب السريع أو المفاجئ بين المطر والجفاف وبين البرد والحر يضر ويؤذي النبات والمزروعات والحيوانات الداجنة كما هو معروف لهم. ويؤثر في صحة العجائز والمسنين، وللمسنات أحاديث طريفة مع تقلبات شهر شباط وهو عدوهن اللدود بسبب الأمراض التي يسببها تقلب حرارته، فتستعين المسنات بالمؤن والملابس والوقود والركون في المنزل لمواجهة مزاجيته وتقلب حرارته المفاجئة، خصوصاً خلال أيامه الأخيرة والأيام الأولى من شهر مارس أو آذار الذي يليه والمسماة بالمستقرضات، أي الأيام الإضافية التي يقترضها شهر شباط من شهر آذار، فيحسب لها سكان الجبل كل حساب ويخافون فيها تراكم الثلوج وامتداد الصقيع.
تخزين المؤن استعداداً للبرد القارس
كان سكان القرى الجبلية في بلاد الشام يبدأون بتخزين المؤن أو "المونة" منذ أواخر فصل الصيف وأوائل فصل الخريف، وعلى رأسها القمح والبرغل والعدس والزيتون، والكشك وهو مزيج من اللبن والقمح المجفف، و"القاورما" وهو لحم مقدد مغموس بالشحم، وأنواع المخللات واللحوم المجمدة ومشتقات الألبان والحطب والملابس الشتوية. وكانت "الصوبيا" وهي المدفأة التقليدية مع الكانون أو الموقد النقال من الأدوات الأساس في البيوت والتي يجري الطبخ فوقها وتحديداً شوربة العدس الأكثر شيوعاً بسبب السعرات الحرارية العالية والدفء الذي تمنحه.
ومن أنواع المونة التي لا تزال تحضر في بلاد الشام حتى اليوم اللبنة المكعزلة التي تجفف في كرات صغيرة مغموسة بزيت الزيتون لتبقى شهوراً، والجبن القاسي أو "القريشة" الذي يجفف ليحفظ طوال الشتاء، وهو وجبة غنية بالبروتين، والزيتون المكبوس بالملح أو الزيت، وزيت الزيتون الذي كان يستخدم للطهي والتدفئة أحياناً، والسمنة الحيوانية التي تخزن في جرار فخارية، والمكدوس وهو عبارة عن باذنجان صغير محشو بالجوز والثوم والفلفل يُحفظ بزيت الزيتون ويستهلك طوال الشتاء، إضافة إلى المخللات مثل الخيار واللفت والملفوف والجزر والتي كانت تقدم مع كل وجبة تقريباً. ولا ننسى الزعتر المجفف الذي يخلط مع السمسم والملح والسماق ويؤكل بالخبز بعد خلطه بالزيت.
ويضاف إلى المونة المالحة الفاكهة المجففة والمربيات ومنها التين والمشمش المجفف وأنواع المربيات كمربى السفرجل واليقطين المنتشرين في لبنان وسوريا. ولا يزال يصنع الدبس من العنب أو الخروب أو التمر كبديل عن السكر ومصدر أساس للطاقة في الأيام الباردة.
وحتى في زمننا الحالي مع تطور وسائل المواصلات والطرق وانتشار المحال التجارية إلا أن بعض هذه العادات لا تزال قائمة وبخاصة في القرى التي تحافظ على تراثها على رغم تراجع دور الحطب و"الصوبيا".
العادات والتقاليد الشتوية في بلاد الشام
كانت العادات والتقاليد في استقبال الشتاء متشابهة إلى حد كبير بين شعوب لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، بسبب تقارب الطبيعة الجغرافية بين هذه البلدان والاشتراك الثقافي الواسع بين مجتمعاتها مع بعض الفروق البسيطة في أنواع التموين التي تعتمد على الزراعات المحلية وعلى الذوق الشعبي المتوارث في تحضيرها.
وفي لبنان تعد أشهر ديسمبر ويناير وفبراير الأشهر الأكثر برودة في العام خصوصاً في المرتفعات التي تزيد على 1000 متر، وقد تمتد فترات الصقيع من أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) حتى بدايات شهر مارس (آذار) على رغم أنه محسوب على فصل الربيع، خصوصاً في جبال لبنان الغربية المعروفة بارتفاعها عن سطح البحر، وهذا ينطبق على المناطق الداخلية البعيدة من الساحل مثل سهل البقاع والسهول الشمالية التي قد تنخفض فيها الحرارة إلى ما بين سالب خمسة وسالب 10 درجة مئوية. أما في القمة الجبلية الأعلى في لبنان والمنطقة أي القرنة السوداء (3088 متراً) فقد تصل إلى -20 درجة مئوية في الشتاء القاسي وفي العواصف الشبيهة بعاصفة آدم الحالية.
أما في فلسطين وتحديداً داخل الضفة الغربية والقدس، فقد تحدث موجات صقيع لا تدوم طويلاً، وقد وصلت درجات الحرارة في القدس والخليل أحياناً إلى ما دون سالب اثنين وسالب سبع درجات مئوية في الليالي الباردة. أما في قطاع غزة وسائر الساحل الفلسطيني فنادراً ما تنخفض عن خمس درجات مئوية.