Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وقف المساعدات الأميركية الخارجية يخلط الإنسانية بالسياسة

إلغاء ترمب "وكالة التنمية" يلقي ظلاله على الفقراء والمرضى في عشرات الدول والصين مرشحة لاستغلال الفجوة التمويلية

أنفقت الوكالة الأميركية للتنمية مليارات الدولارات على برامجها الممتدة في 130 دولة حول العالم (أ ف ب)

ملخص

على رغم صدور حكم قضائي يوقف قرار ترمب وقف التمويل لمئات من المنظمات العاملة في مجال المساعدات الخارجية، إلا أن نهاية المنظمة المانحة الأكبر عالمياً تبدو على الأبواب مع توالي إجراءات الإدارة الأميركية الجديدة حيالها.

لم تقتصر قائمة المتضررين من سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب على حلفائه في أوروبا والشرق الأوسط، بل صارت تضم أطفالاً ونساء ومرضى في دول فقيرة ربما لا يعرفون اسم الرئيس الأميركي، لكنهم بالتأكيد سيتذكرونه على أنه من أوقف برامج للمساعدة الإنسانية كانت تمولها الولايات المتحدة على مدى سنوات، ويثير ذلك تساؤلات عن البديل لمساعدات أكبر دولة مانحة في العالم.

ترمب بدأ عهده بتوقيع أمر تنفيذي يوقف المساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً، مع استثناء مصر وإسرائيل، بهدف مراجعة أوجه الإنفاق بعد استحداث "وزارة الكفاءة الحكومية" بقيادة الملياردير إيلون ماسك، التي كان من أولى توصياتها إلغاء الوكالة الأميركية للتنمية، باعتبارها مؤسسة "إجرامية لا يمكن إصلاحها"، بحسب وصف ماسك، فيما اعتبر ترمب من يديرون الوكالة أنهم "مجموعة من المتطرفين المختلين عقلياً".

وعلى رغم صدور حكم قضائي لاحقاً يوقف قرار وقف التمويل لمئات من المنظمات العاملة في مجال المساعدات الخارجية، إلا أن نهاية المنظمة المانحة الأكبر عالمياً تبدو على الأبواب مع توالي إجراءات الإدارة الأميركية الجديدة حيالها.

خلال السنة المالية 2023، صرفت الولايات المتحدة نحو 72 مليار دولار من المساعدات الخارجية بحسب وكالة "بلومبيرغ"، على مجالات واسعة مثل توفير المياه النظيفة وصحة المرأة والطفل ومكافحة الفساد، وغيرها، كان من بينهم 43.4 مليار دولار أنفقتها الوكالة الأميركية للتنمية على برامجها الممتدة في 130 دولة حول العالم.

ووفق تقرير للكونغرس الأميركي فقد كانت الدول الـ10 الأكثر استفادة من برامج الوكالة هي أوكرانيا وإثيوبيا والأردن والكونغو الديمقراطية، وكذلك الصومال واليمن وأفغانستان، إضافة إلى نيجيريا وجنوب السودان وسوريا، واحتل مجال الحوكمة صدارة الإنفاق بـ16.8 مليار دولار، ثم المساعدات الإنسانية بـ10.5 مليار، والصحة بـ7 مليارات دولار.

ضحايا القرار

ومن كولومبيا حتى أفغانستان، تأثر الأشخاص الأكثر فقراً بقرار ترمب، حيث أوردت وكالة "أسوشيتد برس" نماذج للبرامج التي ستتوقف بانتهاء تمويل الوكالة الأميركية للتنمية، ومنها جهود الحفاظ على البيئة في غابات الأمازون بالبرازيل، ومكافحة الكوكايين في بيرو، وأشارت الوكالة إلى أن مرضى فيروس نقص المناعة "الإيدز" في دول أفريقيا جنوب الصحراء وجدوا العيادات مغلقة منذ قرار ترمب، ونقلت عن وزير الصحة في جنوب أفريقيا آرون موتسواليدي، قوله إن الولايات المتحدة كانت تمول ما يقرب من 20 في المئة من 2.3 مليار دولار هي الموازنة السنوية لمكافحة الإيدز في جنوب أفريقيا، الدولة التي تضم أكبر عدد من الأشخاص المصابين بالفيروس، وحذرت المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة المعني بفيروس الإيدز، ويني بيانيما، من أن قرار واشنطن قد يتسبب بوفاة الملايين.

كذلك، أدت المساعدات المجمدة إلى وقف أنشطة لمنظمات عاملة في مجال حقوق الإنسان في ميانمار، وتعليق جهود إزالة الألغام في كمبوديا.

المتضررون العرب

أما في السودان، فقد يعني تجميد المساعدات الأميركية أن 600 ألف شخص معرضون لخطر الإصابة بأمراض الكوليرا والملاريا والحصبة، فيما توقفت برامج تعليمية في مالي كانت تعتمد على الوكالة الأميركية للتنمية، وفي شمال سوريا اضطرت منظمة "أطباء العالم" التركية إلى خفض الاستشارات في مستشفياتها الميدانية بنسبة 90 في المئة، حيث تعتمد على الوكالة الأميركية للتنمية في 60 في المئة من تمويلها.

وفي العالم العربي أيضاً، تضررت العديد من الدول بسبب إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية، حيث كان الأردن وقع مذكرة تفاهم مع الولايات المتحدة لتلقي 1.45 مليار دولار مساعدات سنوية عبر الوكالة في الفترة بين 2024 و2029، كما تعد الوكالة الأميركية أحد أكبر المانحين للبنان في مجالي التعليم والمياه، وفي مصر تضرر مئات الطلاب الذين كانوا يستفيدون من منح تعليمية بتمويل أميركي.

 

 

ومنذ وقف إدارة ترمب تمويل برامج التنمية الدولية ظهر السؤال بشأن البديل، فالأرقام تشير إلى صعوبة سد فجوة التمويل التي تتركها واشنطن، فحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD فإن الفارق كبير في قيمة التمويل بين الولايات المتحدة في صدارة قائمة المانحين لعام 2023 بنحو 64.7 مليار دولار؛ ومن يليها وهي ألمانيا بـ37.9 مليار دولار، ثم مؤسسات الاتحاد الأوروبي بـ26.9 مليار دولار، ثم اليابان وبريطانيا على الترتيب بأكثر من 19 ملياراً، وفرنسا بـ15 ملياراً، ويليها كندا وهولندا وإيطاليا والسويد، في قائمة  الدول الـ10 الأكثر تمويلاً للتنمية الدولية.

سد الفجوة

صعوبة تعويض الأموال الأميركية أشارت لها منسقة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس، التي صرحت بأن الاتحاد لا يملك الأموال التي تمكنه من سد فجوة التمويل الأميركي تلقائياً، وأضافت في مقابلة صحافية أن الاتحاد الأوروبي يعتزم تعويض المساعدات الإنمائية الأميركية في ظل "ظروف معينة وفي حالات مختارة".

أما ألمانيا، ثاني أكبر الممولين الدوليين، فمن المستبعد أن تقوم بسد الفجوة، إذ قلصت برلين مخصصات المساعدات الإنسانية إلى النصف في موازنتها لعام 2025، بحسب ما ذكرته شبكة "دويتشه فيله" الألمانية العام الماضي، والتي نقلت في مطلع فبراير (شباط) الجاري عن مدير "المعهد الألماني للتنمية والاستدامة"، شتيفان كلينغبيل، قوله "حتى لو كان لدى هذه الدول المال، فلن تتمكن خلال فترة قصيرة من التعامل مع الأمور اللوجستية والسيطرة على البنية التحتية من أجل تعويض كل شيء".

تقليص مستمر

ويزيد من أزمة التمويل الإنمائي تقليص عدة دول مساعداتها في السنوات الأخيرة لأسباب تتعلق بالموازنات المحلية، وتحديداً منذ تفشي جائحة كورونا، وهو ما يشير إليه مقال في موقع مركز كارنيغي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حيث خفضت الولايات المتحدة أكثر من ملياري دولار من مساعدات التنمية الرسمية، وفي موازنتها الإجمالية بين عامي 2022 و2025 خفضت ألمانيا أكثر من 5.3 مليار دولار من مساعداتها الإنمائية والإنسانية الأساسية، فيما خفضت فرنسا أكثر من مليار دولار، وبريطانيا أكثر من 900 مليون دولار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأكد المركز المتخصص في دراسات السلام أن تلك التخفيضات ستبعد الدول المانحة أكثر عن هدف إنفاق 0.7 في المئة على الأقل من الدخل القومي على المساعدات الإنمائية، وهو الهدف الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 1970، لكن بعد 50 عاماً على إقراره لم تصل معظم الدول التي وافقت على ذلك الهدف بتعهداتها، باستثناء عدد قليل معظمه من دول شمال أوروبا، مثل النرويج التي تخصص 1.09 في المئة من موازنتها، ولوكسمبورغ بـ0.99 في المئة والسويد 0.91، فيما تبتعد الدول الكبرى عن ذلك الهدف مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، باستثناء ألمانيا التي تخصص 0.79 من دخلها القومي لتمويل مشاريع تنموية في العالم.

وخلال عام 2023 خصص أعضاء لجنة المساعدة الإنمائية (تضم 32 دولة من كبار المانحين) متوسط 0.37 في المئة فقط من دخلهم القومي الإجمالي لتمويل المساعدات الخارجية، ما يجعلهم بعيدين للغاية من هدف إنفاق 0.7 في المئة الذي حددته الأمم المتحدة، وتأتي هذه التخفيضات في وقت طوارئ دولية، حيث اجتاح انتشار الجدري أجزاء من أفريقيا وتسبب الأزمات الإنسانية في انعدام الأمن الغذائي الشامل.

الصين تستغل الفرصة

في المقابل، زادت الصين تعهداتها بالمساهمة في تمويل التنمية بخاصة في أفريقيا، حيث أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ، العام الماضي المساهمة بـ50 مليار دولار خلال ثلاث سنوات في التنمية الاقتصادية والبنية الأساسية في أفريقيا، ما يمثل زيادة قدرها 10 مليارات دولار عن آخر التزام معلن في عام 2021، كما تبرز الصين كمصدر للاقتراض للدول النامية، بحسب "كارنيغي".

وتوقعت وكالة "بلومبيرغ" أن تكون الصين الرابح الأكبر من انسحاب الولايات المتحدة من مجال تمويل التنمية، كما نقل موقع "بيزنس إنسايدر" عن المحلل البارز في مجموعة Eurasia الاستشارية للمخاطر، جيريمي تشان، قوله إن نهاية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية سوف تعود بلا شك بالفائدة على الصين، "حتى وإن كان من غير المرجح أن تغير استراتيجية بكين للتنمية الدولية في الأمد القريب".

وقال أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة سوكا اليابانية، تاي وي ليم "إذا أغلقت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، فقد تكون هناك فرص لمقدمي مساعدات آخرين مثل الصين لممارسة نفوذ القوة الناعمة من خلال توزيع المساعدات".

كسب النفوذ

وأشارت شبكة CNBC الاقتصادية إلى أن الصين تركز على مشاريع البنية التحتية عبر مبادرة "الحزام والطريق"، أكثر من تمويل مشروعات تنموية إغاثية، ونقلت الشبكة عن تقديرات لأكاديميين يابانيين بأن مساعدات الصين في 2022 بلغت 7.2 مليار دولار، ما يجعلها بعيدة للغاية من قيمة التمويل الأميركي، لكن الفراغ الذي خلفته واشنطن قد يغري بكين باكتساب نقاط قوة في مناطق نفوذ كانت محل تنافس بين البلدين، بخاصة في آسيا.

وتشير وكالة "أسوشيتد برس" إلى أن وقف التمويل الأميركي لمنظمات حقوق الإنسان في ميانمار من شأنه أن يدعم "النفوذ الاستبدادي للصين" وفق تعبير مسؤول بإحدى تلك المنظمات، إذ تعد بكين حليفة لنظام الحكم العسكري في الدولة الواقعة في جنوب شرقي آسيا.

وفي مثال على تدخل الصين لسد فجوة التمويل الأميركي، خصصت 4.4 مليون دولار لدعم إزالة الألغام في كمبوديا، بعد أيام من وقف واشنطن التمويل، ما يوضح الأثر الجيوسياسي للمساعدات الإنسانية في منطقة تتنافس فيها بكين وواشنطن على النفوذ.

ويرى المحلل الألماني شتيفان كلينغبيل أن ترمب يمنح فرصة إضافية للصين لكسب مزيد من النفوذ، كما لم يستبعد أن تدخل روسيا على خط استغلال الانسحاب الأميركي، بخاصة في القارة الأفريقية، وهو ما يعني أن واشنطن سيكون لها تأثير أقل على العالم لأن أموال المساعدات تستخدم في تشكيل السياسات بما فيه مصلحة الدول المانحة، وفق كلينغبيل.

 

 

واستخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين احتياج دول أفريقية للقمح في إطار حشده الدعم الدولي لبلاده التي عانت على مدار العامين الماضيين من محاولات غربية لعزلها، وذلك من خلال إعلانه خلال القمة الروسية- الأفريقية عام 2023 عن تقديم شحنات قمح مجانية إلى ست دول أفريقية، هي الصومال وأفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو وزيمبابوي وإريتريا.

منظمات خيرية

وإلى جانب الدول المانحة، هناك أيضاً منظمات وجهات خيرية قد تتحرك لسد الفجوة التمويلية الناتجة من القرار الأميركي، إذ تبرز منظمة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، التي عملت على مدار 60 عاماً في تمويل مشاريع التنمية والمساعدات الإنسانية في 100 دولة حول العالم، وخلال العام الماضي تعهدت مؤسسة التمويل الدولية بتقديم 56 مليار دولار للشركات والمؤسسات المالية الخاصة في البلدان النامية، للمساعدة في مكافحة الفقر.

من المنظمات غير الحكومية الأكثر سخاء، مؤسسة "غيتس" التي أنشأها مؤسس شركة "مايكروسوفت"، بيل غيتس وزوجته السابقة ميليندا، التي قدمت عام 2023 منح بقيمة 7.7 مليار دولار، لتمويل 44 مشروعاً في مجالات التنمية الشاملة والصحة العامة وغيرها، وتعد ثاني أكبر المانحين لمنظمة الصحة العالمية بعد الحكومة الأميركية، كما منحت منظمة "نوفو نوردسيك" الدنماركية نحو 1.3 مليار دولار لتمويل مشاريع خيرية عام 2023.

بدائل التمويل

بدأت منظمات دولية في البحث عن بدائل تمويلية، منها منظمة الصحة العالمية التي شكلت أموال الولايات المتحدة خُمس تمويلها الإجمالي، كما تسهم واشنطن بـ34 في المئة من تمويل حالات الطوارئ الصحية، لكن انسحاب ترمب من المنظمة تركها في أزمة تمويلية حادة، فالولايات المتحدة دفعت في موازنة المنظمة للعام المالي 2022/2023 نحو 1.3 مليار دولار، بفارق كبير عن ثاني الممولين ألمانيا التي خصصت 856 مليون دولار. وكان الانسحاب الأميركي الثاني من نوعه متوقعاً بعد فوز ترمب بانتخابات العام الماضي، في تكرار لما فعله عام 2020، ما دفع المنظمة لإطلاق نداء عالمي لجمع 1.5 مليار دولار، ما يوازي تقريباً ما تدفعه أميركا سنوياً، وذلك قبل 3 أيام فقط من تنصيب ترمب.

وخلال المجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية في وقت سابق من فبراير الجاري، دعا رئيس المنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس إلى تقليص الإنفاق، وأكد الحاجة إلى زيادة رسوم العضوية بمقدار 20 في المئة، لتغطية نصف موازنة المنظمة على الأقل حتى عام 2030، لتقليل الاعتماد على عدد قليل من المانحين.

ومع تقلص المساعدات الإنمائية الخارجية، يبدو أن الدول النامية عليها الانتباه لتنمية مواردها وتقليل الاعتماد على الخارج، إذ اعتبر الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، الذي قال في مؤتمر الشهر الماضي "لماذا تبكون؟ فهذه ليست حكومتكم وهذا ليس بلدكم، ولا يوجد لديه (ترمب) أي سبب ليمنحكم شيئاً، فأنتم لا تدفعون ضرائب في أميركا، وهذا مُنبِّه لتستيقظوا وتتساءلوا: ماذا نفعل نحن لنساعد أنفسنا؟".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير