ملخص
ليست خطبة البرهان هذه غلظته أو أركان حربه، الأولى على الإسلاميين كما نبه إلى ذلك ضياء البلال. فخطبة البرهان في معسكر حطاب قبل الحرب، لم تكن أقل فظاظة. كما كانت كلمة الفريق الركن شمس الدين كباشي في الفرقة الثانية مشاة في مدينة القضارف خلال الحرب عن الميليشيات الداعمة للجيش، وأبرزها "البراء" الإسلامية، حازمة وحاسمة حول أن القيادة للجيش في الحرب لا مناص.
بدا أن الفريق الركن عبدالفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة، أضاع بخطابه السبت التاسع من فبراير (شباط) الجاري، سانحة انتظرها حتى خصمه السياسي ياسر عرمان من قادة "تقدم" (تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية)، وهي أن يترجم نصره على "أرض المعركة إلى تقدم على أرض السياسة". خلافاً لذلك ارتفعت بخطابه الحمى السياسية في أوساط الصفوة السياسية واصطفت على ضفتي الخطاب تعيد إنتاج معركتها التاريخية. فأزعج الناس، والإسلاميون بالذات من خطابه، "النبرة والتوقيت" كما قال الصحافي ضياء الدين البلال.
"صرفت له بركاوي"
البرهان من جهة ضحية تقليد في الخطابة السياسية قائم في الارتجال يخاطب فيه القائد حشداً لا جمهوراً والتعبير فيه لا بمقتضى الحال بل بأقصى العبارة. وهو تقليد تشكل من أعراف الخطابة في القوات المسلحة التي خرج منها قادة السودان لأكثر سنوات استقلاله. واللغة في أعراف الجيش عقوبة في حد ذاتها. فيقال "صرف لهم عربي" إذا أوقف الضابط جماعة من الجند يوبخهم على خطأ ما. فيظل يتحدث إليهم بما يطرأ على لسانه لا زابط ولا رابط. واشتهرت عبارة عن الرئيس السابق حسن أحمد البشير وهي "صرفت له بركاوي". والبركاوي صنف تمر مرغوب. فقال مرة إنه التقى مسؤولة غربية أساءت في الحديث معه فـ"صرف لها بركاوي"، أي إنه أفحمها. وعليه فليس من وراء الخطابة تحضير، بل هي من وحي اللحظة. وأظهر ما يكون من ذلك أنك لا تعرف متى سيفرغ الخطيب من كلمته. فكان البرهان على وشك أن ينهي خطبته هذه مرات ثلاث ثم تطرأ له فكرة فيعاود الحديث من جديد. أما ما أفسد على البرهان سانحة أن تكون كلمته ترجمة سياسية للنصر العسكري كما تقدم، فهو تفرجه باللغة. فحذر في خطابه من المزيدات السياسة والتجاذب فيها. ووجه فيه للمؤتمر الوطني رسالة واضحة ألا يحلموا بعودة إلى الحكم "على دماء وأشلاء السودانيين" مرة أخرى لأنه لا أحد يريد ذلك. ولا يعرف المرء حاجة البرهان لهذه الكلمة القصية ودونها الكثير الذي يغني عنها.
تهمة التزلف لـ"تقدم"
حاول قادة من المؤتمر الوطني من مثل أمين حسن عمر صرف خطاب البرهان كـ"عفو كلام" أراد به البرهان "ريحاً لتملأ أشرعته لتمضي قدماً" ولكنه اختار جبلاً كالمؤتمر الوطني لأن الهجوم على الصغار لا يصنع زوبعة. ولم يكن مع ذلك من مهرب للبرهان من استثارة خاطر الإسلاميين في خطابه الأخير طالما بدا منه أنه يمد يده لتنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية "تقدم". فقال إن الباب مفتوح أمام جماعاتها ما رفعت يدها عن الجنجويد. وزاد بأن طلب من السلطات ألا تقف عثرة دون حصولهم على أوراقهم الثبوتية. وهذا ما فهم منه أهل "تقدم" أن عليهم التوبة عما هم فيه وهي مذمة، بينما فهم الإسلاميون أن وراء عرض البرهان هذا مشروع أكبر. فثمن بيان المؤتمر الوطني الرسمي قيادة البرهان للحرب، غير أنه قال إنه يربأ به أن يتزلف لـ"تقدم" التي "لا تملك سوى صكوك الولاء لقوى الشر التي تحارب الوطن". وقال فتح الرحمن النحاس الصحافي الإسلامي، إن في هذا العرض رسائل للمجتمع الدولي، مجتمع الهيمنة. ودعا لرفع اليد عن هذا المجتمع فلا سمع له علينا على حساب الولاء والخضوع لله ولديننا الإسلام".
استبعاد الإسلاميين
ولا يعرف المرء لماذا حمل الدرديري محمد أحمد، الوزير السابق والقيادي بالمؤتمر الوطني، خطبة البرهان على أنها استبعدت الإسلاميين من العملية السياسية المنتظرة في حين فتحت باب المشاركة لـ"تقدم" دونهم متى تابوا عن دعم الميليشيات. مع أن البرهان لم يزد أن قال إن مشاركة الطرفين في هذه العملية رهينة بنهاية الحرب والفيصل فيها صندوق الانتخابات. ولم ير الدرديري في مقالة البرهان هذه، الكسب الإسلامي الذي رآه الصحافي ضياء البلال. فقال البلال إن المؤتمر كاسب باستبعاده و"تقدم" معاً من الفترات الانتقالية، وهذا ما يحدث لـ"تقدم" للمرة الأولى. وكسب "المؤتمر الوطني" من كلام البرهان بإعلانه حزباً منتظراً منه أن ينزل الانتخابات بينما كان الديدن منذ الثورة أن يستثنى من العملية السياسية جزاء وفاقاً. كما لم ير راشد عبدالرحيم الصحافي الإسلامي، هذه المكاسب لأنه استنكر على البرهان أن يساوي بينهم وبين "تقدم" المنافسة في الانتخابات. فمتى دوى الرصاص في الغد، في قوله، سيتبخر خطاب البرهان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صدام وشيك مع الإسلاميين
أما دوائر" تقدم" فأرضاها إغلاظ البرهان في خطبته على الإسلاميين ورأت بوادر صدام وشيك بينهما. وسموا ضيق الإسلاميين بالخطبة والهجوم عليها "مناحة" لأنهم أرادوا العودة للحكم بالحرب مما لم يتفق مع البرهان. وكان كسب البرهان من نهره لـ"الكيزان" أن استرد شخصيته الاعتبارية في أعين "تقدم". فرأت الصحافية رشا عوض في الخطاب صراعاً في معسكر الحرب. فالبرهان يريدها ديكتاتورية عسكرية على نهج مصر ونجاحه في مشروعه في حاجة إلى قوة عسكرية ضاربة تكسر شوكة "الكيزان". ولم يكن لا للجيش ولا البرهان هذا المشروع المستقل عن "الكيزان" عند "تقدم" منذ قيام الحرب بصورة أخص. فالجيش، في قول قديم لرشا عوض نفسها، تحول طوال عهد الإسلامويين إلى مجرد "حصان طروادة" الذي يختبئ داخله الكيزان لإضفاء الطابع الوطني على مشروعهم الحزبي البغيض، وذلك استناداً إلى الأساطير الوطنية المنسوجة حول الجيش من دون وجه حق." وكانت العبارة السائغة عن الجيش عندهم بأنه "ميليشيات الكيزان". ولم يكن للبرهان مشروع قبلاً. فقيادة الجيش هي بالاسم عند القيادي بالمؤتمر الوطني، علي كرتي، يأمر فيطاع. وهكذا بين غمضة عين وانتباهتها صار الجيش عند "تقدم" جيشاً والبرهان برهاناً.
ليست خطبة البرهان هذه غلظته أو أركان حربه، الأولى على الإسلاميين كما نبه إلى ذلك ضياء البلال. فخطبة البرهان في معسكر حطاب قبل الحرب، لم تكن أقل فظاظة. كما كانت كلمة الفريق الركن شمس الدين كباشي في الفرقة الثانية مشاة في مدينة القضارف خلال الحرب عن الميليشيات الداعمة للجيش، وأبرزها "البراء" الإسلامية، حازمة وحاسمة حول أن القيادة للجيش في الحرب لا مناص، ويأخذ كل الآخرين "الحزا" في لغة الجيش.
وليست هذه المخاشنة علة في الجيش كما صورها كثير من الإسلاميين، أو فسرها إلا من النبرة التي كشفنا عنها الغطاء في أدب خطاب الدولة السياسي. فالعلة يبدو أنها في الحركة الإسلامية في جانب إدارة كتائبها في الحرب بما يزعج الضابط المهني والسياسي في يومنا. فرد الدرديري محمد أحمد، مخاشنة اليوم إلى تفاهمات اتفقت للبرهان بعودة بعض عناصر "تقدم" إلى المشهد السياسي وإقصاء الإسلاميين. فلم يقصر الدرديري الأمر على مخاشنة مقدور عليها، بل جعلها مؤامرة. وذكر البرهان بالرئيس نميري وحتى الرئيس البشير اللذين متى ما تخليا عن الإسلاميين، ذهبت ريحهما.
دور "البراء"
وربما الأمر أهون مما صور الدرديري. فحتى المراقب للحرب من المسطبة يرى من "البراء" كتيبة الإسلاميين في الحرب، خروجاً على الانضباط، عظم ظهر القوات المسلحة. فمع تصريحات المصباح أبوزيد، بكريزماه وفدائيته في قيادة "البراء"، بأن كتائبه تعمل تحت القوات المسلحة، وأنهم سيخلعون الكاكي وينصرفون إلى أشغالهم بعد الحرب، تجد لهم مع ذلك إعلاماً مستقلاً بشعارهم ينقل أخبارهم على رغم تعميم تكرر للجيش ألا ينشر شيئاً عن العمليات الحربية منسوب لها لم يؤخذ منها، ناهيك بنشر فتوح كتائب تحت إمرتها. وأكثر ما ظهر قائدهم المصباح، وهو يحمل عصا كمثل ما يحمله قادة القوات المسلحة، ليذيع خبراً عن فتوحاتهم. فظهر مرة يعلن انتصارهم على "الدعم السريع" عند مدخل كوبري توتي جهة مدينة الخرطوم بحري، بينما كانت القوات المسلحة قد سبقت إلى إعلانها هي نفسها عن ذلك النصر. وظهر في مرة أخرى يعلن تسلمهم معسكر المظلات بالخرطوم بحري وأنصاره يمزقون لافتة كان "الدعم السريع" كتب اسمه عليها ونصبها عند مدخل المعسكر. ولم يبد عليهم أنهم في أعقاب معركة. وكان الدكتور عشاري محمد محمود والناشط عثمان ذو النون معاً تساءلا منذ وقت مضى إن كانت "البراء" تحرر ما تزعم تحريره، أم إنه يأتي في أعقاب تحرير الجيش لموقع ما وتزعم تحريره. ويعلن من جهة أخرى المصباح مرات عن سيره لموقع لتحريره كأنه سيقع غداً ويطول الزمن دونه. مثل وقوفه يوماً يعلن الزحف إلى مدينة ود مدني. ولم تتحرر المدينة إلا بعد أكثر من شهر من ذلك. وانزعج الناس أخيراً لإنذاره "الدعم السريع" إخلاء الخرطوم خلال 12 ساعة وهو ما دونه خرط القتاد بعد. وظهر أخيراً فرد إسلامي ملتح في زي عسكري في مين (الشارع الرئيس داخل جامعة الخرطوم)، وهو منصة الزخم السياسي في الجامعة، ليعلن سقوط "أهل الباطل" من ليبراليين ونسويين وأصحاب أفكار هدامة من منافسي الإسلاميين التقليديين في "تقدم" اليوم ممن أدخلوا السودان في أنفاق المتاهة. وحقه في التعبير متاح بالطبع بعد خلع البزة العسكرية التي يقاتل بها للوطن كله.
إن ما يقوم به شباب مستنفري "البراء" عن محبة للسودان مما يحتاج لإدارة سياسية أفضل مما قد تجده من "المؤتمر الوطني" الذي تصطرع أطرافه على العلن. فالحرب لا تجري في ميدان الوغى وحده. فهي تدور خارجه على مشهد من العالم ومسمع. ولنعترف أن سمعة الإسلاميين ليست فوق الشبهات عند هذا العالم. فهم حليف فادح الكلفة للجيش. فدعوة الإسلاميين للكفر بالعالم واستدباره هرباً للأمام من عالم إقليمي وعالمي موغر عليهم. فلا يزال فينا، ومن حولنا، من يتربص لإعلان القوات المسلحة منظمة إرهابية بقرينة وجود "البراء" في أوساطها. ومتى نجحوا في هذا وقعت مشقة كبرى علينا. كما أن كسب الحرب ربما أغرى غيرنا بدفعنا إلى مفاوضات ليس من سبب واحد أن يصرفها بعض الإسلاميين كـ"مؤامرة". وحساب كل ذلك متروك لقيادة الجيش والدولة. فقبول "تقدم" في العملية السياسية بعد مراجعة نفسها كما عرض البرهان عليهم براح لا أعرف كيف سوغ للصحافي الإسلامي بكري المدني تحريمه بقوله إن الحكم القادم "لن تشكله قوى سياسية ليس لها مقاتلين في الميدان" مثل "البراء"، مما يطعن في خلوص نية الإسلاميين إن كانت حربهم للوطن أما إنها مما أهل لغيره.
عاد البرهان، الأربعاء الماضي، ليقول في أم درمان إنهم لن يتخلوا عن الناس الذين قاتلوا معهم، وإنهم شركاء في أي مشروع سياسي منتظر. وهذا تراجع غير منتظم بالطبع كنا في غنى عنه لو سلس له زمام الخطابة يومها. وعموماً رمى البرهان بخطابه لحماً نيئاً (عبيطاً) لفرق الصفوة السياسة، كما تقول الفرنجة في استثارة الجماعات للقتال، وأخرجت أثقالها.