Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

المعقول واللامعقول في الظاهرة الترمبية

يخوض الرئيس الأميركي مواجهات في الداخل والخارج مخاطراً بتقويض استقرار هش

لوحات فنية تظهر الرؤساء ترمب وشي جين بينغ وفلاديمير بوتين، في معرض بعنوان "يالطا 2.0" بشبه جزيرة القرم، في 8 فبراير الحالي (رويترز)

ملخص

لا تقتصر أخطار سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية، بل يظل السؤال الكبير وهو المتعلق بمدى رشادة وعقلانية فتح كافة جبهات العالم بهذه الصورة أمام الإدارة الجديدة.

تسير الأسابيع الأولى للإدارة الأميركية الجديدة بالصورة العاصفة المتوقعة منذ الحملة الانتخابية، وبما يتماشى مع خطاب ترمب لاستلام السلطة، والأسئلة المثارة في دول عدة في العالم وفي المنطقة العربية خصوصاً تتراوح ما بين المخاوف والقلق، وما بين التساؤل عن مدى اتساق ورشادة بعض هذه السياسات، ويتقدم عنصر القلق لدى شعوب المنطقة، تصريحات ترمب في شأن نقل الشعب الفلسطيني إلى مصر والأردن وزيادة مساحة إسرائيل، وضاعف الارتباك بالحديث عن مقترح سيطرة بلاده على غزة، وهي قضية نتابعها والكثير باهتمام كبير وتستحق وقفة مستقلة، ولكن ثمة سؤالاً جوهرياً نعتقد أنه منطقي في بدايات هذه العاصفة وهو عن مدى استقامة مكونات طروحات الإدارة الجديدة مع الحسابات الرشيدة واتساق هذه المكونات مع بعضها البعض وما يجب أن يتحسب له العالم وليس فقط المنطقة العربية.

المواجهة شاملة مع عدد كبير من دول العالم

شعار ترمب "أميركا قوية" ترجمه في عدد من السياسات والمحاور ويدور جانب مهم منه حول استعادة الهيمنة الاقتصادية والسياسية، ويهدف مثل كثير من دول العالم للتوصل إلى خفض العجز التجاري مع غالبية شركاء بلاده من منافسين وحلفاء، وهو يتحفظ مثل كثير حول العالم من وجود خلل في الميزان التجاري مع هذه الأطراف، وبدلاً من وضع سياسات مركبة تتضمن زيادة القدرة التنافسية للمنتج الأميركي من ناحية ورفع التسعيرات الجمركية على الواردات من ناحية أخرى، وبصورة تدرجية وانتقائية كما تفعل غالبية الدول، قرر ترمب أن يكون هجومه شاملاً من حيث شركاء التجارة أو غالبيتهم، وشاملاً كذلك من حيث غالبية السلع وبصرف النظر عن نوعيتها.
وحتى إذا تركنا جانباً مسألة أن هذا النظام التجاري الدولي القائم على العولمة كان مصمماً أميركياً لخدمة مصالح الدولة الأميركية، وأن كثيراً من هؤلاء الشركاء وبخاصة كندا والمكسيك والصين وحتى الاتحاد الأوروبي، أصبحوا كذلك شركاء مهمين لخدمة احتكارات دولية كبرى، كثير منها استثمارات أميركية، ثم انطلق بعضها محلياً، فالمشكلة الكبرى التي ينبه إليها الاقتصاديون هي أنه ستكون لهذا تداعيات عميقة على مستويات التضخم في الولايات المتحدة ذاتها، التي كانت أحد مكونات حملة ترمب الانتخابية، كما ستؤثر بالقطع في سلاسل الإنتاج دون الدخول في النقاش الاقتصادي المعمق حول تأثير الحرب التجارية وأخطاره على الأسواق العالمية والأميركية أيضاً.
ولا تقتصر أخطار هذه السياسات على أنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية، بل يظل السؤال الكبير وهو المتعلق بمدى رشادة وعقلانية فتح كافة جبهات العالم بهذه الصورة أمام الإدارة الجديدة، وما إذا كانت تقود الشركاء والحلفاء التدرجيين وبخاصة كندا وأوروبا إلى تعميق التنافر والتباعد عن الحليف الإستراتيجي، وهنا فالشركاء من أميركا اللاتينية سيكون من السهل أمامهم عودة التوجهات السلبية التقليدية التي كانت تعانيها هذه الدول من الجار ذي التوجهات الإمبريالية.
ويطل سؤال جوهري آخر: هل تقود هذه السياسات إلى استقطاب ضد الصين العدو الإستراتيجي لترمب، أم تشجع على تقارب وتنسيق بين عدد كبير من دول العالم يشملان الصين ضد واشنطن؟ وهل سيواصل ترمب هذه السياسات بالفعل وقد عقد صفقة تبدو هشة مع كل من المكسيك وكندا لتأجيل هذه الخطوات مقابل إجراءات تتخذها البلدان للسيطرة على حدودهما؟

أطماع إمبراطورية

نستعرض كل هذا دون أن ننسى الملفات الأخرى المتعددة التي أثارها بالنسبة إلى بنما وغرينلاند وكندا وأخيراً غزة بالضم بصور مختلفة ومن دون حصافة ولا تقدير لخطورة فكرة تكريس النزعة الإمبراطورية، حتى لو كان يستخدم هذه الورقة لأغراض تساومية لفرض مواقف تتعلق بالتسويات التجارية أو السياسية.

الوكالة الأميركية للتنمية الدولية

بلور علماء السياسة تصورات حول ذراع القوة الأميركية الناعمة منذ عقود استناداً إلى دور محوري للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وحصل آلاف من طلاب العالم على منح دراسية في الولايات المتحدة حققت أمرين، أولهما استقطاب آلاف العقول من حول العالم للهجرة وخدمة الاقتصاد والصدارة الأميركية، وثانيهما توفير أداة حققت كثيراً من المصالح الأميركية التي تشمل تلميع وتحسين الصورة الأميركية، وضمان ولاءات خارجية ونفوذ وتغلغل للمصالح الأميركية حول العالم.

واستفادت من تلك الوكالة بلاد عدة وملايين البشر، وأثارت قلقاً وتساؤلات عدة أيضاً في بلدان أخرى في مراحل معينة، ولكنها بالقطع كانت تشكل إحدى أهم أدوات السياسة والنفوذ الخارجي الأميركي، وكانت تخفف من وطأة ذراع أخرى مهمة وهي صادرات السلاح الأميركية وتعطي طابعاً حضارياً لنفوذ السياسة الخارجية الأميركية.
وتواصل هذا لعقود حتى في أقصى مراحل الحرب الباردة ولعب كما سبق دوراً بالغ الأهمية في تحسين الصورة السلبية للسياسات الأميركية التدخلية والعسكرية في كثير من أنحاء العالم، وتواصل ذلك في ظل إدارات ديمقراطية وجمهورية على السواء.
ومن هنا يجب توجيه الكثير من التنبه إلى دلالة هذه الخطوة المتعلقة بتجميد الهيئة ثلاثة أشهر وتكليف إيلون ماسك بمراجعة عملها، وما ترتب على ذلك من أزمة حادة أصابت آلاف الطلاب الأجانب، إضافة إلى برامج المساعدات الطبية والإنسانية والتنموية المتعددة بصورة درامية غير مسبوقة.

ومرة أخرى تأتي حماقة التنفيذ في وسط العام الدراسي وفي وسط تنفيذ مئات البرامج التنموية حول العالم، ليسجل ترمب مظهراً آخر للممارسات الخشنة غير الإنسانية المفهومة منه، ولكنها بالقطع ستكون لها آثار عميقة بعيدة الأجل على صورة الولايات المتحدة وعلى ما تبقى من أدوات قوتها الناعمة وما كانت تتمتع به من جاذبية ومكانة دولية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استكمال تقويض الأمم المتحدة

في الحقيقة أن السياسات الأميركية التي تقوض سياسات قديمة وممتدة منذ عقود للأمم المتحدة، وعلى رأسها الإطاحة بالقرارات الخاصة بإسرائيل وغيرها، ثم كانت المواجهة المتزايدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واستغلال واشنطن لوجود انتقادات حقيقية ضد بيروقراطية المنظمة وصعود كتلة الجنوب مثيرةً ضجة حول إصلاح هيكل المنظمة وصلت إلى قمتها خلال ولاية بطرس غالي كأمين عام للمنظمة، ومحاولتها فرض هيمنتها بالكامل، مما سبب توترات وصدامات مع المنظمة.

كما كانت هناك المواجهة الخاصة باليونسكو بسبب إسرائيل أيضاً، ولكن يجري ترمب الآن عدداً من الانسحابات تشمل اتفاقية مكافحة التغير المناخي، ومنظمة الصحة العالمية والأونروا ومجلس حقوق الإنسان، ويرفق ذلك بالقول إن المنظمة تمتلك إمكانات جيدة ولكنها بحاجة إلى إصلاح، وفي جميع الأحوال من الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة وهي تحاول فرض هيمنتها بصورة أكبر على المؤسسة الدولية التي تستضيفها وتعبر عن مكانتها الكبرى في النظام الدولي، فإنها تهدم أيضاً دلالاتها الرمزية والأساس الأيديولوجي لهيمنة الولايات المتحدة.

صدامات محتملة في الداخل

حرص ترمب على اختيار معاونين غالبيتهم من خارج دوائر صنع القرار السابقين ويدينون بالولاء الكامل له، إذ يأمل ألا تتكرر الاستقالات والانتقادات التي تعرض لها في ولايته الأولى، كما يضمن بذلك عدم تكرار المقاومة التي لقيها آنذاك من مؤسسات الدولة الأميركية في أكثر من حال ضد قراراته أو سياساته، ومنها مسألة التغير المناخي والصحة وأيضاً مسألة سحب القوات الأميركية من سوريا والعراق.

والواضح أنه لا يريد تكرار هذه الظواهر، وهنا أتوقف بصورة خاصة عند دلالات قرار ترمب إعادة فتح التحقيق في اغتيال الرئيس الأميركي السابق جون كيندي، وكأن هذه رسالة لمؤسسات الدولة الأميركية التي أحاطت بها اتهامات وتساؤلات حول ملابسات اغتيال كيندي، وهي اتهامات لا نؤكدها أو نرفضها، ولكن تصرف ترمب بالقطع يبدو وكأنه يؤكدها برسالة ضمنية لمؤسسات الدولة ومن خلفها المجمع الصناعي العسكري، بأن أية محاولة للمساس به ستكون مسؤولية هذه الأجهزة.
في الحقيقة إن الصورة التي تبدو في الأسابيع الأولى للإدارة الجديدة واضح أنها على درجة كبيرة من التعقيد والتناقض بين مكوناتها، وأنه إذا كان هدف ترمب هو فرض هيمنة بلاده المطلقة على العالم، فإنه يدفع في الوقت ذاته إلى نشوء تيارات متصاعدة مناوئة لهيمنة قوة غاشمة بلا أساس أخلاقي أو إيديولوجي أو حتى رسالة فكرية كانت تدعيها -عن غير حق– في قيادة العالم الحر، ومن دون دور كانت تمارسه من خلال مساعداتها الخارجية تخفف به من سياساتها الخشنة الأخرى.
ترمب يرفع كل الأغطية اليوم ويقود العالم المعقد الكثيف السكان إلى فوضى غير واضحة المعالم وتهديدات حقيقية لما تبقى من الاستقرار الدولي الهش.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل