ملخص
لبضعة أسابيع أو شهور من الآن سنرى ما هو مصير المقاربة الأخيرة لترمب مع إيران، قبل أن تنتقل إدارته إلى تنسيق الجهود مع إسرائيل والدول العربية وأطراف أخرى لمحاصرة النظام وإملاء شروط عليه.
وأخيراً نُصبّ دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة من دون عقبات أو مقاومة ومن دون مشكلات على الأرض في واشنطن والمدن الأميركية، فالحملة التي تحدت جميع القوى السياسية منذ انطلاقها، بعد أن ترك ترمب واشنطن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 وحتى إعلان ترشيحه من جديد من مقره في فلوريدا وصولاً إلى آخر عام للحملة في 2024، أطلقت ضجة واسعة وكبيرة في الصحافة الأميركية، فقد انتخب المجتمع الأميركي ترمب بموجة عميقة بسبب المواجهات العدلية والسياسية والشرعية التي تعرض لها، وكان كثيرون داخل أميركا وخارجها قلقين جداً من المرحلة الأخيرة للحملة الانتخابية، أي منذ المؤتمر الانتخابي في الصيف الماضي وصولاً إلى يوم الانتخاب في الخريف الماضي، وبعد ذلك إلى آلية التنصيب والحفلات النهائية في هذا الشتاء الأسبوع الماضي.
خاف الأميركيون على مصيرهم وخافوا من احتمال اندلاع مواجهة تمنع وصول ترمب بعد انتخابه إلى سدة الرئاسة ولا تسمح له بأن يدخل البيت الأبيض، لكن كل هذا انتهى الآن وهو من الماضي، والسؤال الكبير هو حول الحاضر والمستقبل، وقد ركزنا في مقالات سابقة ومقابلات عدة على أن الوضع الإقليمي والدولي يرتبط بمن سينتصر في الانتخابات الأميركية وما يلحق ذلك، وكيف سيتصرف ترمب على الصعيد الداخلي والخارجي، وعرضنا سيناريوهات عدة وأهمها تلك التي باتت عملياً حقيقة في الوجود، وجاءت حقبة التسلم والتسلم بين ترمب وبايدن وحصلت خلالها أمواج في ما يتعلق بالبروتوكول وتفاصيل عدة بالنسبة للاستحقاقات القانونية والعدلية لن ندخل في تفاصيلها الآن، وقد جعل الانتقال السلس للسلطة معظم الأميركيين يشعرون بأن حقبة جديدة بالفعل قد حصلت، ووصفها بعضهم من مقربي ترمب بأنها المرحلة الذهبية للولايات المتحدة، وهو ما سنحكم عليه بعد أن تبدأ الفترة الرئاسية الجديدة، وهي الثانية، وأما الأهم فكان معرفة أولويات ترمب بعد أن أصبح رئيساً فعلياً ودخل البيت الأبيض وجلس في المكتب البيضاوي على كرسي الرئاسة وبيده قلم لتوقيع بحر من المراسيم التنفيذية.
يمكن تلخيص الاتجاهات الكبرى التي أعلنها الرئيس ترمب في خطابه لتسلم مقاليد السلطة وخطب أخرى ألقاها خلال الاحتفالات، وشاءت الظروف أن يكون ملخص المحاور الأساس مطابقاً لما كنا قد كتبناه في "اندبندنت عربية"، فكتبنا في مقالة سابقة أن أول ملف سيفتحه هو ملف الحدود الجنوبية مع المكسيك، وهذا يعني أن أول قرار قد صدر إنما ارتكز على سياسة جديدة نقيضة للسياسة السابقة، وهي إقفال هذه الحدود بصورة وثيقة لمنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى داخل البلاد، وأعلنها ترمب في خطابه يوم تثبيته في الـ 20 من يناير (كانون الثاني) الجاري، وإجراءاته ستكون على الشكل الآتي:
أولاً، إرسال قوات إضافية من وزارة الهجرة والأمن الوطني والحرس الوطني وربما حتى وحدات من الجيش الأميركي كي تنتشر على طول الحدود الأميركية - المكسيكية من أجل وضع حدد لعمليات التسلل التي تأتي من جنوب الحدود، وهو ما أكده ترمب بوضوح منذ إعلان ترشحه لولاية ثانية، وبالفعل عيّن توم هومان، أهم شخصية أميركية تعمل في مكافحة الهجرة غير الشرعية، كمدير عام لهذه العمليات، وباشر هومان ووزارتا الأمن الوطني والدفاع فوراً توزيع وحدات إضافية على طول الحدود، لكن قرار السلطة التنفيذية وإن جاء باكراً فهو يحتاج إلى عوامل كثيرة لينجح، وربما إلى بعض الوقت، وأهمها وضع وزارة الأمن الوطني ثقلها في الموضوع ليس فقط في ما يتعلق بالانتشار على الأرض، ولكن أيضاً في إقناع الكونغرس بدعم هذه الإجراءات مالياً، وكما ذكرنا سابقاً فإن إستراتيجية ترمب تعتمد على ما يسمونه وقف النزف الديموغرافي، أي السيطرة الكاملة على الحدود ومنع الدخول من المجموعات غير الشرعية التي تقف وراءها منظمات في أقصى اليسار، وهذا سيمنع تكاثر المهاجرين غير الشرعيين داخل الأراضي الأميركية وتشكيلهم غطاء لعناصر راديكالية، ومنهم المتطرفون الإسلاميون، حيث بإمكانها أن تخلق فوضى أمنية داخل الولايات المتحدة، وسيكون الإجراء حول كيفية كشف أماكن وجود هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين داخل الأراضي الأميركية وتسليمهم إلى الأجهزة المعنية تمهيداً لإعادتهم للدول التي أتوا منها، فإقفال الحدود شيء وملف إخراج المهاجرين غير الشرعيين شيء آخر متشعب، وقد يرجع ترمب لخطة تقسيم الملف الثاني من عملية التأكد من وجودهم ووضع لائحة بأماكن وجودهم وإخراج الأخطر من هم أو الذين ارتكبوا جرائم قتل، ثم التفاوض حول آليات بقاء عدد منهم، وبعدها تبدأ عملية الإخراج الكبير ولكن على مراحل، ومن المنتظر أن عملية السيطرة على الحدود وإخراج المهاجرين غير الشرعيين قد تطول أكثر من عام في الأقل وربما طوال عهد ترمب، ولكنها عملية لها دعم شعبي واسع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثانياً، تأتي مسألة إيقاف الحرب في أوكرانيا، وعلى هذا المحور سيعمل دونالد ترمب مع فريق عمله الجديد من خبراء ووزير خارجية جديد هو ماركو روبيو وممثلين خاصين في البيت الأبيض على ترتيبات سريعة للبدء في مفاوضات أولية هدفها إيجاد وقف إطلاق نار بين روسيا وأوكرانيا، ويبدو أن الكرملين قد تعرف إلى بعض الأفكار التي تقدم بها الفريق الأميركي وأولها شروط وقف إطلاق نار شامل على كل الجبهات في دولة أوكرانيا من شمالها إلى جنوبها وحتى ساحل البحر الأسود، وهذا الفصل قد يأخذ وقتاً لا بأس به خلال الشهور المقبلة، فمن غير الممكن البدء بالمفاوضات بين الطرفين ما لم يكن هناك وقف نار حقيقي، أما الطرف الأوكراني فقيل إنه يدرس الشروط المتفق عليها بالقبول بوقف إطلاق نار ولكن مع الاحتفاظ بالأراضي التي تحتلها روسيا، وقد يعطي ترمب أولوية لوقف الحرب في أوكرانيا على الصعيد الدبلوماسي، وستكون هناك مفاوضات بين أوروبا والولايات المتحدة للاتفاق على هذا الهدف الكبير.
ثالثاً، اتخاذ قرارات سريعة تتعلق بأجهزة العدل والاستخبارات الداخلية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، إذ أعلن ترمب أكثر من مرة أنه مفوض من قبل الشعب الأميركي بأن يعيد تنظيم كل هذه الأجهزة وإبعادها من التدخل في الشؤون السياسية وحماية المواطنين وحرياتهم من التدخل في شؤونهم السياسية، ليركز ترمب على الحريات الشخصية أولاً، وستبدأ السلطات الأميركية عبر إدارة ترمب باتخاذ الإجراءات داخل وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي وأجهزة أخرى، ولا سيما البدء بالتحقيق الروسي عام 2017، وسيكون هناك مشهد لتحقيق قومي يحاول أن يفهم لماذا وضع الرئيس ترمب في موقع المتهم والتحقيقات وإجراءات غير طبيعية ضده لأربعة أعوام؟
رابعاً، يأتي التحرك المالي الاقتصادي لوضع الضرائب على البضائع الخارجية لتوفير مدخولات وسيولة كبيرة من أجل إنعاش الاقتصاد الأميركي مع الأخذ بعين الاعتبار الصداقات والشركات الاقتصادية، ومن قراءة كل ما سبق فقد يتخذ ترمب قراراً حاسماً بفتح باب الإنتاج النفطي وإنتاج الغاز والمواد الأخرى المتوافرة في الولايات المتحدة بصورة تسمح للاقتصاد الأميركي بأن يعيد تموقعه عبر الإنتاج وبناء الآبار وتوسيعها، مع ضرورة أن يكون هناك احتياط نفطي عال جداً يسمح للولايات المتحدة بأن تستمر في حريتها الاقتصادية، وكما أعلن ترمب فسيقود مفاوضات شرسة مع الصين في ما يتعلق بالديون الأميركية.
خامساً، في الشرق الأوسط سيركز ترمب على أولوية إيجاد وقف إطلاق النار ومعادلة وقف المواجهات العسكرية بين الإسرائيليين و"حماس" من ناحية، وضمان عدم تجدد الاشتباكات بين حليفه الإسرائيلي و"حزب الله"، وعلى رأس تلك اللائحة تحرير الرهائن الإسرائيليين والأميركيين، على أن يجري التركيز على نقطتين، أولاهما تحرير الرهائن لإزالة عقبة الرد على "حماس" إذا لزم الأمر من قبل إسرائيل وحتى بمشاركة أميركية، وثانيهما أن المسألة الأعمق في طرح ترمب تتعلق بالجمهورية الإسلامية في إيران، فالرئيس الجديد القديم يعرف أن النظام الإيراني الآن تحت ضغط غير طبيعي من قبل إسرائيل والقوى الإسلامية السنيّة في المنطقة، ومن ناحية أخرى فالثورة الإيرانية المستمرة داخل الحدود، وقيل إن ترمب قد يحاول مرة أخيرة بأن يصل إلى اتفاق جديد مع القيادة الإيرانية لتتراجع عن دعمها الميليشيات في المنطقة والالتزام بمصالح اقتصادية ذاتية مشروعة، لأن معظم الخبراء حول ترمب يعرفون تماماً أن طهران لديها حدود في التنازل، إذ إن نظامها مبني على فرض القوة على الداخل الإيراني وعلى توازن إستراتيجي مع الدول العربية مما قد لا يسمح لها بأن تقوم بتنازلات ينتظرها ترمب.
لبضعة أسابيع أو شهور من الآن سنرى ما هو مصير المقاربة الأخيرة لترمب مع إيران قبل أن تنتقل إدارته إلى تنسيق الجهود مع إسرائيل والدول العربية وأطراف أخرى لمحاصرة النظام وإملاء شروط عليه، لكن الأهم في المرحلة الحالية هو استكمال تأليف إدارة ترمب الجديدة، وقد تقدم أميالاً في هذا الموضوع مع نجاح وتثبيت وزير الخارجية من ناحية ومستشار الأمن القومي مع مساعده في البيت الأبيض، والعمل جار على وزارة الدفاع لأنه يحتاج إلى حكومة قوية من حوله وقد بدأت تبرز، وعندها سيعمل مع أصدقاء أميركا وعلى رأسهم الدول العربية المعتدلة لإعادة بناء شراكة قوية مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد حصل على مليارات من الاستثمارات والالتزامات خلال 48 ساعة فقط ضمن العملية الانتقالية، مما يعتبر مؤشراً مهماً على المستقبل، فهناك أولويات كثيرة ولكن هذه هي أهمها، وسنستمر في تقييم السلسلة الثانية من الأولويات التي تميز الشهور الثلاثة الأولى من حكم ترمب العائد للبيت الأبيض.