ملخص
أكد مستشار الرئيس ترمب للأمن القومي أن الإدارة الأميركية الجديدة مدعوة إلى ترتيب الظروف الخاصة بالمفاوضات بين موسكو وكييف، وأن التسوية السلمية تتطلب مشاركة الطرفين.
شهدت الفترة الأخيرة تراجعاً حاداً في ميول الغرب تجاه الاستمرار بتأييد أوكرانيا وما تعلنه قيادات الاتحاد الأوروبي حول ضرورة حسم الموقف مع روسيا على أرض المعركة وبالقوة المسلحة. وجاء فوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية ليزيد الوضع حرجاً بما يدفع إلى ضرورة تغيير البلدان الغربية نهجها والتخلي عن دعوتها إلى ضرورة "تحقيق النصر على روسيا بأي ثمن"، بعدما أكدت تطورات الأحداث أن الاستراتيجية المختارة تبدو بالغة الخطر وتهدد باندلاع حرب نووية في أوروبا.
وكانت روسيا التي لوحت أكثر من مرة باستخدام الأسلحة النووية في الدفاع عن أراضيها وأجرت أكثر من "مناورة نووية" مع حليفتها بيلاروس تحولت، أخيراً، إلى استخدام صواريخ "أوريشنيك" ذات القوة التدميرية الهائلة كبديل للأسلحة النووية، كما وعدت بنشر هذه المنظومات الصاروخية المتوسطة المدى الفرط صوتية في روسيا وبيلاروس في النصف الأول من العام الحالي. وقد اعترف ألكسندر سيرسكي القائد العام للقوات الأوكرانية في مقابلة مع قناة "TSN" التلفزيونية بأن كييف غير قادرة على التعامل مع "أوريشنيك" نظراً إلى صعوبة اكتشافها وعدم القدرة على اعتراضها.
مبعوث ترمب
وكان من المفروض أن يتوجه الجنرال كيث كيلوغ المبعوث الشخصي للرئيس دونالد ترمب إلى أوكرانيا في أوائل يناير (كانون الثاني) الجاري لتقصي حقائق الأوضاع الراهنة على صعيد الأزمة الأوكرانية والحديث إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في شأن قضية وقف إطلاق النار وإنهاء الأعمال القتالية، لكن هذه الزيارة تأجلت، وفسرت وزارة الخارجية الأوكرانية ذلك بما سمته مقتضيات "التشريع الأميركي" الذي يحظر على ما يبدو مثل هذه الاتصالات قبل تولي الرئيس الجديد منصبه رسمياً، وهو تفسير غير مقنع تدحضه زيارة ستيفن ويتكوف الممثل الخاص لترمب في الشرق الأوسط إلى إسرائيل قبل تنصيبه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول المصادر، إن تأجيل زيارة كيلوج يعود إلى أن آراء زيلينسكي في شأن إنهاء الصراع المسلح لا تتوافق مع مقترحات ترمب. وكان الرئيس الأوكراني أشار في حديثه إلى المذيع الأميركي الشهير ليكس فريدمان إلى أن إنهاء القتال مستحيل من دون دعوة أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) أو من دون ضمانات أمنية موثوقة من الولايات المتحدة. وقال زيلينسكي أيضاً، إنه يريد مناقشة هذه الضمانات مع واشنطن والحلفاء الأوروبيين، وبعد ذلك الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
غير أنه ليس ثمة دليل على أن مثل هذه الأفكار يمكن أن تتوافق مع آراء ترمب بعدما ابتعد الرئيس الجديد عن الرواية الأميركية الافتراضية التي تقول، إن الصراع المسلح في أوكرانيا هو معركة بين الديمقراطية والاستبداد، وقال إنه "يتفهم" المخاوف الأمنية الروسية في شأن انجراف أوكرانيا الواضح نحو حلف شمال الأطلسي. كما أن ترمب ليس راغباً كثيراً في رؤية الحلفاء الأوروبيين على طاولة المفاوضات المستقبلية. وفي المقابل هناك من يخشى أن يتم استبعادهم من المشاركة في أية تسوية دبلوماسية محتملة. كما يدعون زيلينسكي إلى أن يحزم أمره ويتخذ قراره حول إجراء المفاوضات ’من موقع القوة’".
الجانب الأوكراني
يظل الجانب الأوكراني عند موقفه المتردد تجاه المفاوضات التي تدعو إليها الإدارة الأميركية الجديدة، وإن كان ثمة من يقول إن هناك من أعضاء فريق ترمب من يخرج عن الإجماع في شأن أوكرانيا، ومنهم مايك والتز مستشاره للأمن القومي الذي يقول إن "أوكرانيا يجب أن تقاتل بكل قوتها" من أجل الديمقراطية، مع ضرورة خفض سن التجنيد إلى 18 عاماً. وفي هذه الحال سيجد مزيداً من الشباب الأوكرانيين أنفسهم في طاحونة العمل العسكري من أجل الوصول إلى "مواقع قوة" لا يمكن الوصول إليها.
وننقل عن صحيفة "تيليغراف" البريطانية ما كتبته حول أن "زيلينسكي يطالب بتعزيز موقف أوكرانيا في ساحة المعركة قبل بدء المفاوضات، وأن إجبار البلاد على وقف مبكر لإطلاق النار سيكون خطأً"، كما أن هناك مسؤولين في العاصمة الأوكرانية أعلنوا عن تحذيراتهم قبل مراسم تنصيب ترمب في البيت الأبيض من أن إجبار أوكرانيا على التفاوض مع روسيا قبل أن تستعيد تفوقها في ساحة المعارك هو "خطأ كارثي"، فضلاً عما تردد في شأن ما يساور زيلينسكي من مخاوف تجاه أن تقوم الإدارة الأميركية الجديدة بقطع المساعدات العسكرية إذا رفض المفاوضات. لذلك فإن الرئيس الأوكراني يحاول يائساً إثبات أن أوكرانيا تحتاج إلى الوقت والدعم لتصعيد حملتها خلف الخطوط الروسية.
كما قال ميخائيل بودولياك كبير مستشاري زيلينسكي، إن "النقطة المهمة هي أنه لا توجد حلول بسيطة وسريعة هنا، إذ يجب أن تكون لديك المبادرة التي لا يمكن منحها لروسيا". ومن اللافت في هذا الشأن أن موعداً للمفاوضات المستقبلية بين روسيا وأوكرانيا لم يتحدد بعد، كما أن أحداً لم يكشف عن شكل هذه المفاوضات والأطراف التي يمكن أن تشارك فيها، إلى جانب ما تتناقله المصادر المحلية والعالمية حول ما عاد الرئيس ترمب ليقوله من أنه في حاجة إلى ستة أشهر، بينما سبق وحدد لتلك المهمة "24 ساعة فقط". ذلك في وقت أكد الجنرال المتقاعد كيث كيلوغ المستشار الشخصي الخاص للرئيس ترمب في أوكرانيا حاجته لـ100 يوم لحل النزاع.
وقالت المصادر الأوكرانية، إن مثل هذا التضارب في البيانات والتصريحات حول مثل هذه المواعيد النهائية التعسفية الضيقة تسبب "في إثارة القلق العميق داخل العاصمة الأوكرانية، حيث حذر المسؤولون من أن المفاوضات المتسرعة لن تصب إلا في مصلحة بوتين"، كما ينقلون عن ميخائيل بودولياك مستشار الرئيس الأوكراني ما قاله حول، "ضرورة أن يكون الجانب الأوكراني قادراً على مواصلة ما يمارسه من ضغوط في ساحة القتال إذا أردنا الدخول في المفاوضات من موقع قوة". وخلص بودولياك إلى القول، إن "روسيا لن تكون مستعدة لإجراء مفاوضات هادفة إلا إذا تكبدت خسائر"، وهو ما يبدو كأضغاث أحلام على ضوء ما تحرزه القوات الروسية من انتصارات يوماً بعد يوم، سواء على صعيد القتال في جنوب شرقي أوكرانيا أو ما تمارسه من ضغوط وتقدم في مقاطعة كورسك، وهو ما أسهم في استعادتها لما يزيد على نصف مساحة الأراضي التي احتلها الأوكرانيون في السابع من أغسطس (آب) من العام الماضي.
تقسيم أوكرانيا
صار قريباً ما سبق وتنبأ به الرئيس فلاديمير بوتين حول احتمالات تقسيم أوكرانيا. وذلك ما يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب اقتنع به، إلى جانب ما اعترف به الرئيس الأوكراني زيلينسكي حول عدم قدرة قواته المسلحة على استعادة شبه جزيرة القرم وأراضي منطقة الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا بالقوة المسلحة. وذلك ما تبدو ملامحه ظاهرة في أفق المحادثات المرتقبة تحت رعاية الرئيس ترمب. وإذا كان زيلينسكي عاد وقال، إن "أوكرانيا لا تزال غير مستعدة للتخلي عما فقدته من أراض بحكم القانون كما تطالب روسيا"، وإنه يعتقد بإمكانية إعادتها لاحقاً "دبلوماسياً"، فإن روسيا تظل عند قناعتها بأن ما استولت عليه من أراض، بحكم الدستور الروسي الذي جرى تعديله عام 2022، لا يمكن التنازل عنها.
ويتوقف المراقبون في هذا الصدد عند حالات سابقة كثيرة منها ما حدث ويحدث في فلسطين منذ إعلان الأمم المتحدة عن قرارها رقم 181 حول تقسيم فلسطين الصادر بتاريخ 29 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1947، وما تلا ذلك من قرارات تتوالى حتى اليوم من دون التزام إسرائيل بأي منها وعلى مرأي ومسمع وتحت رعاية بعض الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن الدولي. كما يذكر المراقبون جزيرة قبرص التي استولت تركيا على ما يقارب نصف أراضيها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وتستمر تركيا في فرض سيطرتها عليها حتى اليوم ومن دون اعتراف كل بلدان العالم بذلك. كما تشير مصادر كثيرة إلى جمهوريات البلطيق الثلاث التي آلت إلى الاتحاد السوفياتي السابق وظلت تابعة له منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية عام 1940 حتى تاريخ انهيار الاتحاد من دون أن تعترف الولايات المتحدة بضم الجمهوريات الثلاث، والأمثلة في هذا الصدد كثيرة.
وكانت المصادر الروسية أعلنت سيطرتها على ما يقارب 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية التي سبق وأعلنت انفصالها من جانب واحد عن أوكرانيا منذ بداية الأزمة الأوكرانية عام 2014. كما سبق وأعلن مسؤولون روس كثر عن أحقية روسيا في أوديسا التي شيدتها الإمبراطورة الروسية كاترينا الثانية التي نجحت في ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا بعد انتصارها في حرب القرم الثانية عام 1782. هذا إلى جانب ما أعلنته كل من بولندا والمجر ورومانيا حول أحقيتها في استعادة ما جرى انتزاعه من أراضيها إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، وهي الأراضي الواقعة في غرب أوكرانيا التي ضمها ستالين إلى أوكرانيا بموجب نتائج تلك الحرب العالمية الثانية.
وعود النصر
تقف أوكرانيا اليوم أمام خيار إجراء المحادثات مع روسيا في وقت يبدو الغرب وقد أدركه الملل من استمرار هذه الحرب بسبب ما تتحمله شعوبه من ضغوط وأعباء اقتصادية هائلة. وإذا كانت قيادات البلدان الغربية تسابقت في إبداء تأييدها القيادة الأوكرانية، فإن الشعوب لم تكن على الدرجة نفسها من التأييد والحسم. وها هي شعوب أوروبا تعود وتعلن تراجعها التدريجي عما سبق وأبدته من تعاطف ومواساة مع الجماهير الأوكرانية التي سارعت بالرحيل بحثاً عن الملاذ والسلوى خارج الوطن.
ويذكر المراقبون ما قطعه الرئيس الأميركي السابق جو بايدن وزعماء أوروبا من عهود على أنفسهم بالوقوف إلى جانب أوكرانيا وإمدادها بكل العتاد والسلاح حتى تحقيق النصر التام على روسيا في ساحات القتال وإطاحة زعيمها بوتين، فضلاً عن اتخاذ أقسي العقوبات لتأليب الشعب الروسي ضد بوتين غير راغبين في سماع أي شيء عن الحلول السياسية والدبلوماسية للأزمة، وعدم تقديم أية تنازلات في هذا الشأن. كما راح هؤلاء يؤكدون حتمية انضمام أوكرانيا إلى الـ"ناتو" والاتحاد الأوروبي. ولم يخرج عن هذا الإجماع سوى رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان الذي انضم إليه أخيراً روبرت فيتسو رئيس حكومة سلوفاكيا ليعلنا معاً عن موقف مغاير رافض لسياسات الـ"ناتو" والاتحاد الأوروبي، ومؤيد للمحادثات مع روسيا، وهو ما تناولته "اندبندنت عربية" في أكثر من تقرير لها من موسكو.
وها هو مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب للأمن القومي مايك والتز، يعلن أخيراً في حديثه على القناة التلفزيونية الأميركية "سي بي أس نيوز" عن استعداد الرئيس الأوكراني زيلينسكي للتفاوض مع روسيا. كما أكد والتز أن إدارة ترمب تواجه مسألة كيفية تهيئة الظروف للمفاوضات بين موسكو وكييف. وشدد على أن التسوية السلمية تتطلب مشاركة الطرفين في هذه العملية. وكانت شبكة تلفزيون "سي أن أن" أذاعت أن ترمب أمر فريقه بترتيب محادثة هاتفية مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتين بعد مراسم التنصيب التي أقيمت أول من أمس الإثنين. ومن المقرر أن يكون الموضوع الرئيس لهذا الاتصال التليفوني هو تنظيم الاجتماع الذي سيكون بمثابة بداية لتسوية سلمية للصراع في أوكرانيا.