على نمط الصيغ الشبابية المتبعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، قرر قسم كبير من شباب العراق أن يوجهوا نداءً إلى الحكومة العراقية بتلبية مطالبهم في مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، والبطالة والتردي في الخدمات وبقية المجالات. ولقد أمهلوا الحكومة طيلة شهر سبتمبر (أيلول)، وإلا في اليوم الأول من أكتوبر (تشرين الأول) سيكون منطلق تظاهراتهم السلميَّة والحضاريَّة، ووفقاً لِما يسمح به الدستور.
لم تبدِ حكومة عبد المهدي ذلك الاهتمام بمطالب الشباب، فنزلوا إلى الشارع، وانتشروا في مناطق عدة بالعاصمة بغداد وبعض المُدن الأخرى في المحافظات، خصوصاً الجنوبيَّة، البصرة وذي قار. ولكن تم مجابهتهم بالعنف الشديد، إذ سقط شهداء وجرحى، وازداد عدد الضحايا مع إصرار عزيمة الشباب على المواصلة والمثابرة، بغية تحقيق أهدافهم التي خرجوا في سبيلها.
يبدو من سياق الأسبوع الأول للتظاهرات والاحتجاجات، أن الشباب المنتفض لن يتراجع تحت ضغط العنف المفرط نهاراً، والمداهمات والاعتقالات ليلاً، ولم ترهبهم عمليات الاغتيال، وهم مستمرون نحو غايتهم المنشودة، إذ قدمت "تنسيقيَّة بغداد" للمتظاهرين، كما تم نشره على بعض المواقع، ورقة تتضمن مطالب إلى رئيس الجمهورية، بصفته ضامنا للدستور، وجاء فيها ما يلي:
إقالة الحكومة.
حل البرلمان.
تغيير مفوضيَّة الانتخابات.
سنّ قانون انتخابات جديد.
تحديد موعد لإجراء الانتخابات العامة.
عدم مشاركة الطبقة السياسيَّة التي أدارت العراق ما بعد 2003 في الانتخابات الجديدة.
تشكيل حكومة كفاءات مهنيَّة مؤقتة من المستقلين، وبإشراف الأمم المتحدة.
تشكيل هيئة من الكفاءات القانونيَّة، لتعديل العديد من فقرات الدستور، بعيداً عن المحاصصة والطائفية، وبما يتلاءم مع واقع العراق الديموقراطي الاتحادي.
وختمت التنسيقيَّة ورقة مطالبها بالقول "وهذا يتم بقيادتكم باعتباركم الحل الوسط، وفي حال عدم الاستجابة ستستمر ثورتنا إلى النهاية".
إن هؤلاء الشباب الذين كانوا أطفالاً عندما دخلت قوات الاحتلال الأميركي إلى بغداد في التاسع من أبريل (نيسان) 2003، فقد ترعرعوا في ظل الأحزاب الدينية السياسية، التي هيمنت على دفة السلطة بدعم إيراني عبر توافق أميركي. لكن تلك الأحزاب قدمت أسوأ وأحلك وأردأ صّورة عما يُعرف بالإسلام السياسي. إذ إن الفساد المالي والإداري يتصاعد بشكل مضطرد في هياكل الدولة كلها. وكذلك انعدام المشروعات التنموية وإهمال الصناعة الوطنية، فضلاً عن التأخر والتقهقر في المجالات والميادين التعليميَّة والصحيَّة والعلميَّة والخدميَّة... إلخ.
هذا إن لم نتطرق إلى آلية تمزيق النسيج الاجتماعي على أُسس طائفية، وما جرى من قتل على الهوية، ومجازر ارتكبتها المجاميع المسلحة التابعة لتلك الأحزاب الدينية الموالية لإيران، التي تم دمجها بقطعات الجيش والشرطة، لتضفي عليها غطاءً قانونياً. مجزرة الحويجة بتاريخ 24 أبريل 2013 نموذجاً.
إن علاقة الفرد بالدولة شبه معدومة تحت هيمنة الأحزاب الدينية الحاكمة، فالمواطن يزداد فقراً وفاقةً وحاجةً، بينما تلك الأحزاب، المتسترة بالإسلام، تزداد ثراءً وتخمةً وجشعاً، حتى وصل الوضع إلى حالة اللادولة.
وبعد سنوات من خديعة "وحدة المذهب" و"البيت الشيعي" و"مظلومية الشيعة"، وما قابلها من دمار وخراب وقتل وتهجير في المحافظات ذات الأغلبية السُّنية، بحجة محاربة الإرهاب، القاعدة سابقاً وداعش لاحقاً، وبعد كل تلك المراحل المريرة والداميَّة فقد رست الأوضاع لمصلحة الأذرع الإيرانية بالهيمنة على العراق وطناً وشعباً.
ومع استمرار الانحطاط والتدهور الذي تقوده الأحزاب الدينية السياسية، والمجموعات الطائفية المسلحة، وكلاهما بين تابع أو موالٍ لإيران. فمن هنا، انتفض هؤلاء الشباب، بعدما طفح الكيل وفاض بهم، ضد هذا الواقع المتردي والجاري لمصلحة إيران وأذرعها على حساب بلدهم وشعبهم، ومستقبلهم هم أنفسهم.
إن هؤلاء الشباب بالقدر الذي ثاروا فيه ضد الفساد والفاسدين، فإنهم إنّما يريدون وطنهم أن يتعافى أيضاً. إذ إن السنوات التي شبّوا فيها، وهم ينظرون إلى نتائج تلك المراحل الفتاكة، التي جاءت ضدهم كونهم عراقيين عرباً مستهدفين من المشروع الإيراني سواء أكانوا سُّنة أم شيعة، لذلك فإنهم لا يحفلون ولا يخضعون للتأثيرات الطائفية، التي تنتهجها الأحزاب الدينية والمجموعات المسلحة المرتبطة بإيران، مثل: بدر والعصائب والنجباء وغيرها كثير.
عودة إلى مسألة المستقبل، فهؤلاء الشباب بصفة عامة، والخريجون بصفة خاصة، عندما ينظرون إلى مستقبلهم فيجدونه معدوماً، فلا أمل في الأفق، ولا بصيص في نهاية النفق، البطالة والفقر والبؤس تزداد يوماً بعد آخر، خيرات بلدهم ليست لهم، الميزانيات السنوية الهائلة تُسرق عبر مشروعات ومناقصات وهمّية تتقاسمها الأحزاب السياسيَّة الحاكمة، تجعل نفسيَّة وعقليَّة هؤلاء الشباب أن تكون ثوريَّة، تهدف إلى تغيير الواقع ومهما كان الثمن، لذلك قدموا عشرات الشهداء وآلاف الجرحى قبل أن ينقضي الأسبوع الأول من ثورتهم الغاضبة.
بلا ريب، فإن إيران تجابه ثورة هؤلاء الشباب، وهناك خطان يتحركان منذ بداية التظاهرات، الأول يعمل على استخدام العنف بالقتل الخفي، أعني انتشار القناصة واستهداف المتظاهرين، علاوة على الاغتيالات والاعتقالات. والآخر يقوم بقتل رجال الشرطة والأمن، وحرق البنايات والمركبات لتشويه التظاهرات وإنهاء شريعتها. هذا إن لم نشر إلى الجانب الحكومي الداعي إلى الحوار مع المتظاهرين لتنفيذ مطالبهم، والغاية الحقيقيَّة ليست أكثر من امتصاص غضب الشباب ثم تفتيتهم.
ومهما ستحمل الأيام المقبلة من أحداث ووقائع، فمن المؤكد أن الشباب المنفض لن يستكين، وإن الحرية لوّنها بلوّن الدم، وإن التحرر من الهيمنة الإيرانية لا يعني المستحيل تجاه إرادة الشباب الذين يضحون بأرواحهم في سبيل تحقيق هذا الهدف، الذي ينشده كل عراقي أصيل. وإذا تعافى العراق، تعافت الأمة. وهذا ما لا يريده أعداء أمة العرب.