ملخص
السوريون يبحثون بيأس عن أحبائهم المفقودين وسط مستشفيات، مشارح، وسجون مدمرة، حيث تظهر أدلة على التعذيب المروع، وفي نفس السياق تبرز دعوات دولية لاستخدام التكنولوجيا الجينية والتحقيق بالانتهاكات لتحديد مصير المختفين ومحاسبة المسؤولين.
10 سنوات مرت منذ غادر الشاب السوري مرهف صافي منزله لشراء بدلة عرسه، ولم يعد.
10 أعوام مرت على آخر اتصال بينه وبين عائلته في العاصمة دمشق. 10 أعوام منذ آخر مرة نظر فيها شقيقه عبدالظافر، وعمره 38 سنة إلى وجهه.
ثم يوم الثلاثاء، بعد أيام قليلة على العملية المذهلة التي أطاحت نظام بشار الأسد، أرسل صديق عبدالظافر له صورة جثة مشوهة: الوجه مجروح والفم ملتوٍ والعينان مجوفتان وعليهما كدمات.
ويقول الرجل وسط دموعه وهو يمسك بشاشة هاتفه وعليها الصورة "سألني صديقي إن كان هذا أخي". التُقطت الصورة داخل مستشفى حرستا العسكري في العاصمة "نعتقد أنه فارق الحياة قبل أيام قليلة من سقوط النظام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علم عبدالظافر أنهم وجدوا 35 جثة على الأقل تظهر عليها علامات التعذيب داخل غرفة مبردة في المستشفى- وقد تكون جثة أخيه الحبيب إحداها.
قال الثوار للصحافيين، إنهم تلقوا معلومات سرية من موظفي المستشفى عن إلقاء الجثث هناك، ثم نقلوا الجثث إلى وسط دمشق كي تتعرف إليها الأسر.
خارج المشرحة، عُلقت على الجدران صور الجثث المشوهة التي تعمل الأسر اليائسة على التدقيق فيها في الظلام باستخدام مصابيح الهواتف.
ومن بين هذه الصور، تعرف الأصدقاء ما يعتقدون أنه جثة مازن حمادة الذي أصبح أحد أبرز الناشطين السوريين في العالم بعد أن رفع صوته ضد استخدام نظام الأسد للتعذيب في أعقاب سجنه سنة ذاق فيها أصناف العذاب الجسدي والجنسي والنفسي الوحشي في صيدنايا.
بعد إطلاق سراحه عام 2013 ولجوئه إلى هولندا، شارك حمادة قصته المرعبة مع العالم. ولسبب غير معروف، قرر العودة إلى دمشق في مطلع عام 2020 ولم يُعرف عنه شيء منذ ذلك الحين.
داخل المشرحة، يتنقل الناس بين الجثث ويتفحصون الأشلاء المنتشرة على الأرض وهي في مراحل مختلفة من التحلل. كُتبت على بعض أكياس الجثث الملطخة بالدماء ملاحظات حول مكان العثور على الجثة وظروف العثور عليها.
ويقول عبدالظافر فيما يستعد لكي يلقي نظرة داخل الغرفة "لا زلنا حتى هذا اليوم لا نعلم سبب سجن أخي. عرفنا أنه مُحتجز في فرع الأمن السياسي لكنه نُقل بعد ذلك إلى سجن آخر وفقدنا كل اتصال به".
تقف وراءه السيدة أم حمزة التي تقول، إنه ليس وحده، فهي الأخرى تبحث عن شقيقها وزوجي ابنتيها الذين اختفوا منذ سنوات.
وتضيف، "في كل بيت سوري مفقودين أو ثلاثة. هذا هو كابوسنا".
يبذل الأقارب كل ما في وسعهم، من ملازمة محيط أسوأ السجون السورية سمعة إلى البحث في أروقة المستشفيات والمشارح المزدحمة، من أجل العثور على الذين اختفوا في ظل حكم الديكتاتور المخلوع.
إخوة وأمهات وآباء يمسكون بصور وهويات شخصية وصور هاتفية التقطوها عن صور ورقية قديمة، ويهرعون صوب أي شخص أو جهة يمكن أن يجدوا فيها معلومات عن أماكن وجود أقاربهم.
أكثر من نصف قرن من حكم أسرة الأسد البلاد وبطشها، بلغت ذروتها في حرب أهلية دارت رحاها آخر 13 عاماً، وبرزت خلالها الاعتقالات الجماعية والاختفاء القسري والقتل من دون محاكمة والإعدامات.
لا يعرف أحد ما هو العدد الحقيقي للمفقودين لكن تقديرات اللجنة الدولية لشؤون المفقودين تشير إلى أن مصير 150 ألف شخص على الأقل لا يزال مجهولاً، وقد فُقدوا في مختلف النزاعات التي عصفت بسوريا.
ومن بين هؤلاء أكثر من 3500 طفل وأكثر من 8500 امرأة كانوا لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري بحلول وقت الإطاحة بالأسد وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان.
وقد انهار رئيس الشبكة فضل عبدالغني بالبكاء على قناة تلفزيونية سورية مقرها في تركيا، الإثنين الماضي، وهو يفصح عن اعتقاده بأن معظم المفقودين قد لقوا حتفهم.
وفيما اجتمع شمل بعض العائلات، دعت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين المجتمع الدولي إلى المساعدة في العثور على باقي المفقودين.
وقالت المنظمة الدولية، الثلاثاء الماضي، إنها جمعت بالفعل بيانات من أكثر من 76200 شخص من أفراد أسر سورية أبلغت رسمياً عن اختفاء نحو 30 ألف شخص.
وتقول اللجنة، إن الوقت قد حان كي ينسق العالم جهوده باستخدام التكنولوجيا الجينية وقواعد المعلومات بغية العثور على المختفين.
وأضافت المنظمة وهي ترجو اعتبار مواقع الإعدامات وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان مسارح جريمة، "يجب إغلاقها وتفحصها في الوقت المناسب لحماية الحقيقة ومحاسبة المسؤولين أمام القضاء".
لكن هذا لم يحدث للأسف في سجن صيدنايا حيث وقفت العائلات الغاضبة واليائسة أمام شاشات الكاميرات المهشمة وشاشات المراقبة المحطمة والحواسيب العملاقة المدمرة، التي يبدو أن حراس النظام خربوها قبل فرارهم.
يلقب هذا السجن المعزول بـ"المسلخ البشري" و"مخيم الموت". وقد وصفت منظمة العفو الدولية هذا المكان الذي يقع على بُعد 30 كيلومتراً (19 ميلاً) إلى شمال العاصمة دمشق بـ"الوجهة الأخيرة" للمتظاهرين السلميين والمنشقين من الجيش.
بعد انتشار فيديو يظهر الثوار وهم يقتحمون السجن ويحررون نزلاءه، الأحد الماضي، استخدمت الأسر من أرجاء سوريا كافة ما تبقى لديها من وقود كي تقود سياراتها إلى المجمع سيء الذكر وتبحث عن أحبائها.
ويقبع كثيرون ليس لديهم أي مكان آخر يقصدونه على مراتب وضعت أرضاً خارج المجمع المخيف الذي تملؤه مياه المجاري ومقتنيات المساجين القليلة. يحفر البعض الأرض بأيديهم أو يحاولون ضرب الجدران بحثاً عن أقبية تحت الأرض وزنازين سرية يُشاع وجودها هناك.
ويقول والي صبحي نصار من حلب وهو ينهار بالبكاء "أخذ الحراس الشاشات التي تعمل وأقراص تخزين المعلومات للتستر على بشار الأسد ومجرميه. منذ شهر تقريباً، أخبرني جندي أن أخي موجود في صيدنايا. لكن ذلك الجندي اختفى الآن، وانقطع أي تواصل معه كلياً".
يحاول رجل آخر أن يواسي والي الذي يتابع بقوله، "سوف نواصل ملاحقة هؤلاء المجرمين حتى النهاية. لم أكن لهم أي كراهية ولا حملت سلاحاً في حياتي لكنني الآن سأطاردهم".
في الخارج، تستميت جموع العائلات في البحث عن أي أدلة. تمسك امرأة بذراعي وتجهش بالبكاء وتقول "أرجوكِ، أنا أحاول العثور على ابني عناد الذي اختفى منذ 12 عاماً". ويصيح رجل آخر اسمه زكريا وكان معتقلاً سابقاً "سبعة أشخاص من عائلتي مفقودين. صورهم موجودة في سجلات السجن هنا - ولا بد أنهم هنا".
في هذه الأثناء، تركض أسر أخرى من عنبر إلى آخر داخل مستشفيات العاصمة وهي تتوسل الموظفين الحصول على أي معلومات عن الذين أُفرج عنهم من السجون، وتسعى للاطلاع على تقارير حول مساجين عُذبوا بوحشية ذهبت بعقولهم وأنستهم أسماءهم.
يخرج أقارب المفقودين من غرفة في الطابق الرابع يتلقى فيها رجلان حُررا من سجون حمص ودمشق العلاج بعد تعرضهما لإطلاق النار والتعذيب - ليكتشفوا بأن عائلاتهما عثرت عليهما بالفعل.
تقول زوجة أحدهما، واسمها آلاء وهي أم لستة أطفال، إن زوجها محمد، وعمره 38 سنة، قضى العامين الأخيرين وراء القضبان بعد محاولته الفرار من التجنيد الإجباري. وقد عانى هناك من التعذيب وأُطلق عليه النار في الكتف فيما لاذت قوات النظام بالفرار. وقد حُرر من سجن صيدنايا الأحد الماضي.
وتقول آلاء وهي تبكي وتشرح كيف تواصل معها أحد مقاتلي المعارضة ليخبرها أن زوجها تحرر، "لم يسمحوا لي [نظام الأسد] أن أرى زوجي أبداً. كانوا يعذبونني كلما طلبت رؤيته. عندما علمت بتحريره من الأسر بدأنا أنا والأطفال بالبكاء".
في مستشفى ابن النفيس المجاور، يخرج خالد المعتقل المُصاب الذي تحرر من صيدنايا بعد سنتين أيضاً برفقة عائلته التي تصطحبه إلى المنزل. تعرض خالد إلى الضرب والتعذيب لدرجة أنه ما عاد يذكر كثيراً مما حصل معه كما يقولون، ولم يتمكن أقاربه من معرفة مكانه سوى بسبب صورة التُقطت له داخل المستشفى وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي.
في المشرحة، يعثر عبدالظافر على الجثة التي يعتقد أنها تعود لأخيه، لكنها تحمل وشماً غريباً على أحد الذراعين والوجه مشوه إلى درجة تفقده يقينه. يجب إجراء فحص حمض نووي للتأكد إن كانت جثة أخيه أم لا. لكن في الوقت الحالي، هذا يعطيه بعض الأمل.
ويقول، "لا يمكنني الجزم. ما آمله هو أن يعني هذا وجود فرصة ضئيلة بأنه لا يزال على قيد الحياة".
© The Independent