ملخص
لم يسبق أن بدت سيادة القانون في الولايات المتحدة الأميركية محفوفة بالأخطار إلى هذا الحد خصوصاً بعدما منح جو بايدن العفو لابنه هانتر وقدم هدية لدونالد ترمب.
يُحب السياسيون الأميركيون التحدث عن سبب اختلاف بلادهم عن جميع الدول الأخرى مع الإيحاء الواضح بأنها أفضل، وعندما يتحدثون عن فكرة الاستثنائية الأميركية فإنهم يميلون إلى استخدام عبارة من الكتاب المقدس، استخدمها للمرة الأولى أحد البيوريتانيين الذين جاءوا على متن سفينة "ماي فلاور"، ومفادها أن أميركا "المدينة الساطعة على التل".
هذا تلميح مجازي، ولكن في واشنطن العاصمة له معنى حرفي نوعاً ما، فأعلى تلة الكابيتول تسطع بالفعل بالرخام الرائع المتلألئ والحجر الأبيض لمبنى الكونغرس، وعلى الجانب الآخر من الطريق تقع المحكمة العليا المهيبة بالقدر نفسه، أعلى سلطة قضائية في الولايات المتحدة، وهي نفسها تحفة من تحف الحقبة المعمارية النيوكلاسيكية.
ولكن هل تبدى حكم القانون في أميركا في أي وقت مضى بهذا الشكل المهترئ والمتهالك؟ مدينة ساطعة؟ أحسبكم تضحكون الآن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ليلة الأحد الماضي وبشكل مفاجئ تماماً أعلن جو بايدن أنه سيصدر عفواً عن ابنه هانتر، وكان ينتظر صدور الحكم عليه بعد أن أقر بالذنب في تهمة الاحتيال الضريبي، وبشكل منفصل في قضية أخرى تتعلق بالكذب حيال تعاطيه للمخدرات عندما حاول شراء سلاح، وكان ينتظر الحكم في كلتا الجريمتين الفيدراليتين.
والآن اسمحوا لي أن أقدم حجة ما قام به الرئيس: التماس التخفيف، إذا كنا سنستمر في المصطلحات القانونية.
لقد عانت عائلة بايدن الويلات، توفيت زوجة جو بايدن وابنته في حادثة سيارة عندما أصبح سيناتوراً للمرة الأولى، أما ابنه الآخر بو الذي كان أمامه مسيرة سياسية واعدة، فقد توفي بسرطان الدماغ، ولذلك فمن المفهوم أن جو أراد حماية ابنه المضطرب هانتر، ألا نريد جميعاً حماية أبنائنا؟
لقد جادل موالون آخرون لبايدن بأن ترمب كان يخطط لتحويل وزارة العدل إلى وسيلة للانتقام، ولن تكون هناك عدالة لهانتر، لذا قام الأب اليائس والمحب بما كان عليه فعله،
إلا أن في هذه الحجة عدداً من الثغرات.
أولاً النفاق، فلقد صرح جو بايدن مراراً وتكراراً أنه لن يتدخل في القضية وأن العدالة يجب أن تأخذ مجراها، وأنه لن يصدر عفواً بشكل قاطع، وأن العملية القانونية كانت عادلة، وكما هو الحال في الانعطافة الكاملة فإن هذا انقلاب صادم.
ثانياً نطاق العفو يبعث على السخرية، إذ لم يصدر عفو عن هانتر في هاتين الجريمتين اللتين دين فيهما فقط، بل على مدى فترة تمتد لـ 11 عاماً، وبعبارة أخرى فقد صدر عفو عنه عن أي شيء قد يكون فعله، لماذا؟
لم يخفِ أصدقاء ترمب رغبتهم في معرفة سبب تعيينه مديراً لشركة طاقة أوكرانية في حين أن هانتر بايدن لم يكن يعرف شيئاً عن أوكرانيا أو قطاع الطاقة على حد علم الجميع، إلا أن ما كان يحمله هو كنية بايدن، وفي مايو (أيار) 2014 عندما انضم إلى مجلس إدارة شركة "بوريزما" Burisma، كان والده نائباً للرئيس أوباما.
إنه مجال استفسار مشروع لترمب لطرح بعض الأسئلة حول ما حدث هناك، أليس كذلك؟
ولنتخيل بشدة للحظة أنه إذا ظهر دليل على أن هانتر بايدن كان أسوأ قاتل متسلسل في تاريخ أميركا من الأول من يناير (كانون الثاني) 2014 وحتى الـ 31 من ديسمبر (كانون الأول) 2024 (أعزائي في القسم القانوني، أنا لا أقترح أو ألمح إلى ذلك بأي شكل من الأشكال) فإن العفو سيشمل ذلك أيضاً.
ولكن ربما يكون الجزء الأكثر فظاعة في ما فعله جو بايدن هو الإفراغ التام لأي مكانة أخلاقية رفيعة للحزب الديمقراطي، ولا عجب أن كثيرين يتفوهون بذلك، فكيف يمكن للديمقراطيين أن يتذمروا من محاباة ترمب أو إساءة استخدامه للنظام القانوني بعدما فعل بايدن هذا؟ إن حجة بايدن بأن مواطناً عادياً لم يكن ليواجه هذه التهم الجنائية (أي تهمة ذات احتمال قوي بالسجن) بالطريقة التي واجهها ابنه بسبب هذه الجرائم البسيطة، هي حجة واهية.
وهذه الجرائم ليست بسيطة، وعلى أية حال أليست هذه هي بالضبط الحجة التي استخدمها ترمب عندما كان يحاكَم خلال "محاكمة ستورمي دانيالز" في قضية رشوة الصمت في نيويورك؟
لقد جادلتُ حينها في هذا العمود بأن شكوى ترمب من كونها ملاحقة سياسية أمر سخيف عندما وُجهت إليه التهم، وقدم الادعاء والدفاع مرافعتهما وأصدرت هيئة المحلفين، 12 من نظرائه، حكمها بالإجماع بالإدانة، وكان لدى ترمب أيضاً وجهة نظر مفادها أنه في أفضل الأحوال كان ينبغي التعامل مع جريمته على أنها جنحة، وأنها لا تتطلب محاكمة كاملة.
عفواً، ولكن الأمر نفسه ينطبق على هانتر بايدن.
ثم نأتي إلى الأسلوب الأخرق الذي اتبعه الرئيس في ذلك، ففي ليلة الأحد الماضي بعد عطلة عيد الشكر، وبينما كان على وشك الصعود على متن طائرة متجهة إلى أنغولا، أصدر الرئيس هذا العفو الوحيد، والرئيس لديه بالفعل سلطة منح العفو وهي سلطة تُستخدم بشكل متكرر وتثير الجدل دائماً، ولكن لماذا لم يشمل بايدن بعض الأشخاص الآخرين الذين قد يكونون أيضاً عرضة لخطر استخدام وزارة العدل للانتقام في عهد ترمب؟
ماذا عن الدكتور أنتوني فاوتشي الذي قاد معركة "كوفيد" وهو في مرمى نيران "ماغا" تماماً؟ أو النائبة الجمهورية السابقة في الكونغرس ليز تشيني التي وقفت في وجه ترمب وحثت على دعم كامالا هاريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي؟ وإذا أردت أن تُظهر شهامة حقيقية فربما تمتد إلى ترمب نفسه.
في رأيي أن الكابوس الذي يسببه هذا الأمر للحزب الديمقراطي في القدرة على محاسبة ترمب هو أقل ما في الأمر، وما هو مفسد للغاية هو الشعور بأن ذلك سيجعل الرأي العام الأميركي يعتقد أنهم جميعاً على القدر نفسه من السوء، وجميعهم يسعى إلى تحقيق مصالحه الخاصة، وهناك نخبة ستبذل كل ما في وسعها لحماية نفسها، وهذا باعث على أعلى درجات السخرية.
وهي أيضاً أعظم هدية يمكن أن يحصل عليها ترمب وهو يستعد لولايته الثانية، فقد حصل الرئيس المنتهية ولايته على بطاقة "إخلاء السبيل" كتلك التي في لعبة "مونوبولي" [المقصود طريقة تسمح بالخروج من وضع صعب] من الرئيس المنتهية ولايته، وهو ما يعيدنا للنظام القانوني في أميركا.
تسند الأعمدة الرخامية البيضاء الضخمة اللامعة للمحكمة العليا للولايات المتحدة في الشارع الأول نورث إيست (شمال شرق) إفريزاً متقناً وأربع كلمات مكتوبة بأحرف كبيرة: عدالة متساوية بموجب القانون، وربما تنبغي الاستعانة بأحد الحجارين لنحت رمز تعبيري "اضحك بصوت عالٍ" بجانب هذه الكلمات، وقد تبدو الفجوة بين الاستثنائية الأميركية التي حلم بها الآباء المؤسسون وحكام اليوم الذين يخدمون أنفسهم بأنفسهم واسعة جداً.
© The Independent