ملخص
لم يمنع التزام هاريس المقعد الخلفي من تشكل صورتها أمام الرأي العام بطرق مختلفة ليست بالضرورة الأمثل في نظرها، ويمكن القول إن هذه الصورة تأثرت بعوامل ثلاثة، إدارتها لملف الهجرة غير الشرعية، وتوجهها كديمقراطية محسوبة على المعسكر التقدمي، وأخيراً ظهورها الإعلامي القليل وغير المبهر، لكن هذه الصورة شابها التغيير ولا نبالغ عندما نقول إن هاريس قبل الـ 21 من يوليو (تموز) الماضي، وهو تاريخ انسحاب بايدن من الانتخابات، ليست هاريس التي بعده.
كانت كامالا هاريس شخصية شبه مجهولة على المستوى الوطني عندما اختارها جو بايدن كرفيقة له في السباق الرئاسي عام 2020، وحتى بعدما أمضت أكثر من ثلاثة أعوام ونصف العام في منصب نائب الرئيس، كان القدر الأكبر من التركيز والتمحيص يلازم شخصية بايدن، وبالتالي ظلت صورة هاريس الحقيقية أو تلك التي تريدها لنفسها غير مكتملة.
ومع ذلك لم يمنع التزام هاريس المقعد الخلفي من تشكل صورتها أمام الرأي العام بطرق مختلفة ليست بالضرورة الأمثل في نظرها، ويمكن القول إن هذه الصورة تأثرت بعوامل ثلاثة، إدارتها لملف الهجرة غير الشرعية، وتوجهها كديمقراطية محسوبة على المعسكر التقدمي، وأخيراً ظهورها الإعلامي القليل وغير المبهر.
لذلك لا نبالغ عندما نقول إن هاريس قبل الـ 21 من يوليو (تموز) الماضي، وهو تاريخ انسحاب بايدن من الانتخابات، ليست هاريس التي بعد، إذ قادت حملتها الرئاسية جهداً مضاعفاً لإعادة تعريف نائبة الرئيس المتحدرة من أصول جامايكية وهندية كمرشحة ديمقراطية تسعى إلى التغلب على دونالد ترمب، ليس من أجل أن تصبح أول رئيسة من الإناث بل كي تعمل على تحقيق مصالح الأميركيين وتحافظ على مكانة واشنطن الدولية عبر تعزيز التحالفات شرقاً وغرباً.
وبالتوازي بدأت حملة هاريس بإعلان حماسي أطلق شعار "نختار الحرية" لجذب الأميركيين من شرائح مختلفة، وخصوصاً المحافظين، كما انتشرت مقاطع الفيديو التي تظهر هاريس وهي تلقي التحية العسكرية للجنود، وهو أمر أحدث جدلاً خلال الأشهر الأولى من عملها كنائبة للرئيس، إذ ثار انقسام داخل فريقها حول ما إذا كان يتوجب عليها رد التحية وخصوصاً بعدما تجاهلت في إحدى المرات التحية عند صعودها الطائرة، مما أدى إلى مهاجمتها من "المحافظين"، وفي نهاية المطاف تلقت هاريس مذكرة من أحد مساعديها حول بروتوكول التحية العسكرية، بل ويُقال إنها تمرنت على أدائها على انفراد.
لكن أولى خطوات "إعادة التعريف" الرسمية تمثّلت في خطاب هاريس أمام المؤتمر الوطني الديمقراطي في الـ 22 من أغسطس (آب) الماضي، إذ قبلت رسمياً ترشيح الحزب وتعهدت بأن تكون "رئيسة كل الأميركيين"، كما شمل المؤتمر خطابات من جمهوريين داعمين لها.
ثم جاءت مقابلة هاريس مع "سي أن أن" الخميس الماضي كتتويج لعملية التحول الدقيقة والمحسوبة التي تجلت في ضوابط المقابلة الأخيرة التي امتدت لـ27 دقيقة، إذ اختارت المرشحة الديمقراطية إجراء المقابلة في مقهى محلي في ولاية جورجيا المتأرجحة إلى جانب رفيقها في السباق تيم والز، فمن خلال مشاركة الأسئلة معه قلصت هاريس الأعباء المتوقعة من أول مقابلة تلفزيونية لها منذ الترشح، كما عكست ترتيبات المقابلة المسجّلة حذر هاريس المعروف وتحفظات حملتها مما أثار إشاعات ومنها أن "سي أن أن" حذفت 14 دقيقة من التسجيل لتحسين ظهور المرشحة الديمقراطية، وهو ما نفته الشبكة مؤكدة أنها بثت اللقاء كاملاً.
الزحف إلى "الوسط"
بدأت هاريس زحفها إلى منطقة الوسط بالتراجع عن بعض مواقفها الليبرالية والابتعاد من الفصيل التقدمي، على رغم أن صورتها كمدافعة عن السياسات التقدمية في الكونغرس كانت من أسباب اختيار بايدن لها لإيجاد بعض التوازن الأيديولوجي في بطاقة الحزب، لكن هاريس كما يتضح من خطابها الجديد أدركت أن الترشح للرئاسة يتطلب منها تبني أجندة توافقية وخطاباً أقرب إلى الوسط من اليسار، وهو ما عبر عنه الكاتب في "واشنطن بوست" بيري بيكن متسائلاً عما إذا كانت المرشحة الديمقراطية بالغت في استرضاء الوسط أم أنها تفعل ذلك بالقدر الصحيح اللازم للفوز بالرئاسة؟
وأعلنت هاريس قبل المقابلة أنها ستعين جمهورياً في حكومتها، مؤكدة أنها ستكون رئيسة للجميع، وقالت "سيكون من مصلحة الشعب الأميركي أن يكون في حكومتي عضو جمهوري، وبهذه الخطوة ستحيي المرشحة الديمقراطية في حال فوزها تقليداً شائعاً بأن يعين الرئيس عضواً من الحزب الآخر في منصب وزاري، كما فعل باراك أوباما بتعيين النائب الجمهوري راي لاهود من إلينوي وزيراً للنقل، وقبله جورج دبليو بوش الذي عيّن عضو الحزب الديمقراطي نورمان واي مينيتا في المنصب نفسه، في حين لم يرشح بايدن ولا ترمب أي أعضاء من الحزب الآخر في حكومتيهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن هاريس حافظت في مقابلة "سي أن أن" على نوع من الغموض المحمود حيال سياساتها لكنها صرحت بتراجعها عن بعض مواقفها الليبرالية تجاه الهجرة وتقنية "التكسير الهيدروليكي" المستخدمة لاستخراج النفط والغاز، وهو ما يصب في رحلة تحولها الضروري إلى الوسط لكسب أكبر قدر من الأصوات.
ويُنظر إلى الهجرة على نطاق واسع بأنها أحد أبرز نقاط ضعف هاريس لأن بايدن كلفها هذا الملف إلا أنها لم تقدم حلولاً كافية، بحسب منتقديها، بل استمر تدفق المهاجرين غير الشرعيين من المكسيك إلى الولايات المتحدة، وقد دخلت إدارة بايدن في صراع قانوني مرير مع ولاية تكساس بعد رفض حاكمها غريغ أبوت قرار المحكمة العليا بإزالة الأسلاك الشائكة التي نصبها على الحدود الجنوبية للولاية مع المكسيك.
وخلال حملتها للرئاسة عام 2019 أوضحت هاريس أنها تدعم إلغاء تجريم عبور الحدود بصورة غير قانونية، إلا أنها تراجعت عن هذا الموقف وقالت إنها تدرك المشكلة وستطبق القوانين المتعلقة بالحدود، كما تعهدت بتمرير تشريع شامل يخص الحدود من شأنه تشديد قوانين الهجرة إلى الولايات المتحدة، وقالت إن "لدينا قوانين يتعين اتباعها وتنفيذها وتعالج مشكلة عبور الناس حدودنا بصورة غير قانونية، ويجب أن تكون هناك عواقب".
ما الذي يميزها؟
تواجه هاريس تحدياً في تعريف النقاط المميزة لها عن بايدن والمفيدة لها في التغلب على ترمب والتي تظهر بأنها ستكون رئيسة مدركة لحاجات الأميركيين، فعلى صعيد السياسات من الصعب أن تتخذ هاريس مواقف خارجة عن سياسات إدارة بايدن لأنها كانت ولا تزال جزءاً في تشكيل هذه السياسات، ففي قضية غزة تبنت موقف الإدارة الداعم لإسرائيل ورفضت مطالب بعض الديمقراطيين إعادة النظر في الدعم العسكري لتل أبيب في ضوء عدد الضحايا المتزايد بين الفلسطينيين، وقالت إنها تدعم وجود "إسرائيل قوية"، لكنها أكدت أيضاً أهمية الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة وإخراج الرهائن.
وفي ما يخص التغير المناخي قالت هاريس موجهة حديثها إلى المذيعة "لقد ذكرتِ الصفقة الخضراء الجديدة، ولطالما اعتقدت، وأنا عملتُ على إعدادها، أن أزمة المناخ حقيقية وأنها مسألة ملحة يجب أن نطبق عليها مقاييس تتضمن إلزام أنفسنا بالمواعيد النهائية حول الوقت".
إلا أن حملتها كشفت لاحقاً عن أن هاريس لم تعد تدعم "الصفقة الخضراء الجديدة"، وهو مقترح شامل لتسريع الانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة أعلن مرة عام 2019 وتبنته إدارة بايدن، وفي محاولة لتبرير تغير مواقفها أكدت المرشحة الديمقراطية أن قيمها "لم تتغير" وأنه "من المهم بناء توافق وإيجاد أرضية مشتركة للتفاهم وحل المشكلات".
الإجابة الأضعف
وعندما سئلت عما إذا كانت تشعر بأي ندم حيال دفاعها عن قدرة بايدن على الحكم والخدمة لولاية ثانية، جددت هاريس إشادتها بقدرات الرئيس وسجله الرئاسي مما يشير إلى أنها ستكون امتداداً لقيادة بايدن وفق "نيويورك تايمز"، ومع ذلك كان لافتاً تعبير هاريس بأنها "ستطوي صفحة العقد الماضي"، ودفع ذلك المذيعة دانا باش إلى الإشارة إلى أن هذا العقد يشمل أكثر من ثلاثة أعوام ونصف العام من ولاية بايدن، لترد قائلة إنها تتحدث عن "عصر كان مخالفاً لروح بلادنا"، وقالت الصحيفة إن هاريس بهذا القول وضعت بايدن وترمب في الماضي.
أما مجلة "أتلانتيك" فعدت أن إجابتها عن بايدن هي "الأضعف"، وقالت إنها "لجأت إلى قول أشياء لطيفة عنه على رغم أن الإجابة الأبسط والأكثر إقناعاً هي أن "جو بايدن يعتقد بأن لدي فرصة أفضل للتغلب على دونالد ترمب، كان ذلك قراره، ولو قرر البقاء في السباق لكنت ما زلت داعمة له".
فخاخ ترمب
وعلى رغم أن هاريس لم تلتق ترمب وجهاً لوجه على الإطلاق لكنها حتى الآن تبلي حسناً في إدراك وتجنب فخاخه، ومنها ما يخص الجندر والعرق، إذ تجنبت خلال المقابلة تحوير الحديث نحو هويتها كأنثى أو أصولها الجمايكية والهندية، وردت على سؤال المذيعة حول هجوم ترمب عليها بأنها لطالما تجاهلت التركيز على هويتها كسوداء حتى ترشحت للرئاسة، وقالت "لعبة قديمة ومبتذلة، السؤال التالي من فضلك".
وانعكس نجاح نهج حملة هاريس الحذر على نتائج الاستطلاعات التي تكشف عن تقدمها، ومنها استطلاع مشترك لـ "رويترز" مع "إبسوس" هذا الأسبوع وأشار إلى تقدم هاريس على ترمب بـ 45 في المئة في مقابل 41 في المئة، ولفتت "رويترز" إلى أن اختيار هاريس للسيد والز كمرشح لمنصب نائب الرئيس أثار الحماسة بين الناخبين تجاه مرشحي الحزب الديمقراطي الجديدين.
وجاء ظهور والز في المقابلة متحفظاً، كما لم يفصّل في رده على الأسئلة المتعلقة بنوع النهج الذي اتبعه وزوجته للإنجاب، ففي وقت سابق تحدث والز عن استخدام "التلقيح الصناعي" مدافعاً عن هذا الحق الذي يريد الجمهوريون على حد رأيه تقييد تمتع الأميركيين به، لكن اتضح لاحقاً أن عائلته استخدمت طريقة أخرى للإنجاب وهي "التلقيح داخل الرحم"، كما اعترف حاكم مينيسوتا بأنه لم يكن دقيقاً في الحديث عن مدة خدمته العسكرية، محمّلاً إلمامه الضعيف بالنحو مسؤولية هذا الخطأ.
هناك المزيد لاكتشافه
وما أثبتته مقابلة "سي أن أن" هو أن هناك الكثير لاكتشافه حول المرشحين، وخصوصاً هاريس التي خاضت مراحل تحول عدة خلال الأسابيع الماضية منذ انسحاب بايدن، ومن المرتقب أن تكشف مناظرتها المقبلة مع ترمب في الـ 10 من سبتمبر (أيلول) الجاري بتفصيل أكبر وجهات نظرها حول السياسات الداخلية والخارجية، وما إذا كانت ستعلن مواقف مختلفة عن سياسات بايدن.
وبخلاف المقابلة الأخيرة فستكون المناظرة اختباراً جدياً وحقيقياً لقدرة هاريس على إثبات نفسها والتصدي للشكوك في قدرتها على إعطاء إجابات مرتجلة ومتماسكة من دون اقتراف الأخطاء أو تقديم استطرادات غير مفهومة.