ملخص
يثير الأمر تساؤلات حول مدلولات توقيت الخطوة من الجانب الكردي السوري ومدى ارتباطها بالمساعي الجارية إلى إعادة التطبيع بين أنقرة ودمشق بمباركة عراقية تزامناً مع التصعيد العسكري ضد "العمال الكردستاني" في شمالي العراق.
منذ أيام يخيم القلق على محافظة نينوى جراء تسلل مئات من معتقلي تنظيم "داعش" أفرجت عنهم أخيراً سلطات الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرقي سوريا الموالية لحزب العمال الكردستاني، في حين بدأت السلطات العراقية اتخاذ إجراءات احترازية من خلال خطوط صد متينة على الحدود المشتركة مع الجانب السوري.
ولّد هذا التطور هواجس لدى الجانب العراقي الذي قد يجد نفسه في موقع إجراء مراجعة لموقفه خلال مفاوضاته الجارية مع واشنطن لسحب قوات التحالف الدولي من البلاد، في وقت صعد التنظيم من وتيرة هجماته. ويثير الأمر تساؤلات حول مدلولات توقيت الخطوة من الجانب الكردي السوري ومدى ارتباطها بالمساعي الجارية إلى إعادة التطبيع بين أنقرة ودمشق بمباركة عراقية تزامناً مع التصعيد العسكري التركي ضد "العمال الكردستاني" في شمالي العراق.
مخاوف واحترازات
وكانت سلطة "قوات سوريا الديمقراطية" المعروفة اختصاراً بـ"قسد" المدعومة أميركياً أصدرت في وقت سابق عفواً عاماً يشمل نحو 1500 معتقل من الذين "لم تتلطخ أياديهم بالدم السوري، ومن ثبت تأهيله وإصلاحه"، مع أهمية الإشارة إلى أن المجموع الكلي للمعتقلين يقدر بنحو 5 آلاف معتقل بينهم من يحمل جنسيات أجنبية، وصدرت محاذير من سياسيين وشخصيات عشائرية في محافظة نينوى العراقية من إمكان تسلل مئات من العراقيين ضمن المفرج عنهم إلى المحافظة.
وفي المقابل دعا رئيس اللجنة الأمنية في حكومة نينوى محمد الكاكائي خلال مؤتمر صحافي عقب اجتماع أمني موسع السكان إلى "عدم التوجس لأن أوضاع المحافظة اليوم تختلف عن عام 2014"، في إشارة إلى تاريخ سيطرة التنظيم على المحافظة، وأكد أن "الحدود مؤمنة من خلال ثلاثة خطوط صد لمسافة تتجاوز 140 كيلومتراً"، موضحاً أن "المفرج عنهم جميعهم سوريون وأتراك وليسوا عراقيين".
جاء هذا التطمين منسجماً مع تصريحات صدرت عن قادة عسكريين ونواب تفيد باتخاذ الجانب العراقي احتياطات أمنية على الحدود مع سوريا "يصعب اختراقها"، مؤكدين "عدم رصد أي تحرك أو اختراق مريب"، بموازاة تسريب وثيقة صادرة عن إحدى فرق قيادة عمليات نينوى تطالب فيها تشكيلاتها باتخاذ الحيطة بعد صدور قرار العفو من قبل قوات سوريا الديمقراطية.
ووفق المعطيات الأمنية والعسكرية فإن السلطات العراقية مع استمرار وجود تحركات لـ"داعش" ستواجه تحديات في تأمين حدودها مع سوريا التي يصل طولها إلى نحو 600 كيلومتر، على رغم إنشاء سياج إسمنتي بطول 170 كيلومتراً وخندق عريض ووضع كاميرات للمراقبة.
رسالة تحذيرية
إزاء طبيعة التحديات يعتقد المحلل الاستراتيجي والمستشار العسكري السابق صفاء الأعسم أن "قرار العفو يمس أمن العراق، وكان الأجدر أن يأتي بتوافق عراقي - سوري، إذ من غير المنطق إطلاق سراح معتقلين من دون محاكمة في أكثر من ستة معسكرات قريبة من الحدود، معظمهم كانوا عناصر في (داعش). وصحيح أن للعراق حرس حدود لكن من الصعب جداً السيطرة على حدود بهذا الطول، وهي ما زالت ملتهبة بسبب هذا التنظيم، وقد حذرت بالأمس السفيرة الأميركية في بغداد إلينا رومانوفسكي من أن التنظيم ما زال يشكل خطراً حقيقياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت إلى أن "هذا التطور حتماً سينعكس سلباً على نينوى بل وعلى القاطع الغربي من البلاد، ولا ننسى أنه ما زال هناك عدد من الخلايا النائمة في المدن والمجتمعات غالب أعضائها من أبناء العراق الضالين، وهناك توقعات بأن يزداد نشاطها".
تذهب بعض القراءات والرؤى السياسية إلى أن رسالة "قسد" تحذيرية مرتبطة بالعملية العسكرية التركية الجارية لإنشاء حزام أمني بعد قطع خط إمداد حزب العمال بين شمالي العراق باتجاه سوريا، وذلك في موازاة مساع تركية لإبرام تفاهمات مع دمشق مع دور تلعبه بغداد في هذا الجانب، إذ عممت أخيراً تعليمات تلزم اعتماد تسمية "العمال الكردستاني" كحزب "محظور" في المخاطبات والكتب الرسمية في إطار تفاهمات سابقة مع أنقرة، بينما تصعد بغداد من ضغوطها على واشنطن لسحب قواتها من البلاد، ولها حضور محوري أيضاً في شمال وشرق سوريا من خلال دعمها لقوات "قسد".
وفي هذا السياق يشير الأعسم إلى أن "سبب وجود قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق منذ عام 2014 كان باتفاق رسمي لمحاربة ’داعش‘، بالتالي فإن استمرار هذا الوجود من عدمه مرهون بالوضع الأمني الذي إذا ما استقر فإنه سيشكل مبرراً لإنهاء هذا الوجود، لذا أعتقد أن هذه النقطة هي ورقة ضغط على حكومة بغداد التي تدرك مدى الأخطار المحدقة في ما يتعلق بتنظيم قادر على إيجاد الأدوات للعودة والاستمرار من خلال التواصل مثلاً مع معسكر ’الهول‘ الذي لا تبدو حركة الدخول والخروج منه منضبطة كلياً بداعي أنه يؤوي أسر عناصر التنظيم، وتكمن الخشية اليوم من أبنائهم الذين أصبحوا اليوم يافعين قادرين على حمل السلاح والقتال ومشحونين بالفكر المتشدد، وهذا يمثل خطراً يحتاج إلى تقويم وإجراءات مشددة على مستويات عدة".
تجانس إقليمي
وكان الجيش الأميركي كشف الأسبوع الماضي عن أن تنظيم داعش يحاول "إعادة تشكيل نفسه" بعد أن صعد من هجماته في كل من سوريا والعراق، إذ تبنى تنفيذ أكثر من 150 هجوماً خلال الأشهر الستة الماضية، فيما أعلنت السلطات في إقليم كردستان الأربعاء الماضي اعتقال 11 عنصراً من "داعش" بينهم أمراء وقادة ميدانيون خطرون كانوا في طور تنظيم أنفسهم والتخطيط للقيام بعدد من العمليات الإرهابية واغتيال عدد من القادة والضباط الكبار في القوات الأمنية.
ويتفق الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية رنج نوزاد مع فكرة وجود انسجام تركي - إيراني - عراقي للتضييق على حزب العمال، ويظهر ذلك عبر "توغل أنقرة بعمق 40 كيلومتراً في محافظة دهوك والسيطرة على مواقع جبلية استراتيجية، بالتالي الفصل بين جنوب كردستان (إقليم كردستان العراق) وغربها (المناطق الكردية السورية)".
وأضاف أن "التوسع التركي وضرب حزب العمال يشكل تهديداً لنفوذ طهران في المنطقة، لكن صمتها مع بغداد يظهر أنها موافقة وقد حصلت مساومة عبر مساعي أنقرة الملحة إلى المصالحة مع النظام السوري، وهنا فإن أي انسحاب تركي من سوريا سيعزز نفوذ طهران فيها على حساب الكرد وإنهاء سلطة الإدارة الذاتية الكردية مقابل توسع النفوذ التركي في إقليم كردستان".
ومنذ منتصف يونيو (حزيران) الماضي يشن الجيش التركي هجوماً موسعاً على شمالي العراق في إطار عملية "المخلب – القفل" المستمرة منذ أبريل (نيسان) عام 2022، لضرب المعاقل التاريخية لحزب العمال الكردستاني بعد إرساله تعزيزات عسكرية كبيرة والتوغل في العمق مع إنشاء نقاط تفتيش ومراقبة وممرات وقواعد عسكرية جديدة يتجاوز مجموعها الكلي 70 قاعدة.
ضرورة الدعم الدولي
وعلى رغم التحسن في قدرات العراق العسكرية، فإن الجدل ما زال يدور حول ما يمكن أن يشكله تنظيم "داعش" من تهديد جدي على أمن البلاد ومدى الحاجة إلى المضي في الإبقاء على قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن لمواجهة التحديات المتمثلة بالانقسام السياسي القائم داخلياً، والإخفاق في اتباع استراتيجية أمنية ثابتة ومستقرة بسبب التدخلات الخارجية.
في هذا الإطار يرى المحلل الاستراتيجي علاء النشوع أن العراق ما زال "في حاجة إلى إسناد دولي لمحاربة الإرهاب لأسباب عدة منها أنه ما زال يعاني مشكلة الطائفية والتطرف من قبل كل الأطراف على حساب غياب الهوية الوطنية، إذ ينعكس الواقع سلباً على الخطط والجهود الأمنية في وقت تشهد المنطقة ككل حرباً تمثل فيها إيران طرفاً عبر أذرعها ومن ضمنها فصائل عراقية (الفصائل الشيعية)، بما لذلك من تبعات على الأمن القومي العراقي الذي طالما خضع لتأثيرات وإملاءات خارجية، كما أن بعض هذه الفصائل يتبنى موقفاً رافضاً لاستمرار الوجود العسكري الأميركي في البلاد".
ولفت إلى صعوبة فصل العراق عن محيطه "جراء خضوع قراره للنفوذ الإيراني من خلال الفصائل، فضلاً عن وجود قواعد لطهران وإن كانت غير معلنة مثل القواعد التركية والأميركية، ومن شأن هذا التشعب في النفوذ الخارجي أن يدمر الصفحة الأمنية في العراق، إذ كيف يمكنه رسم خطة أمنية وهو في الواقع منتهك أمنياً".
فوضى خلاقة
تنسجم رؤية النشوع مع ما يعكسه الواقع من استخدام الأطراف المعنية لتنظيم "داعش" كأداة ضمن الصراع والتنافس الدائر في المنطقة، وذلك "بالعودة إلى بداية ظهور ’داعش‘ وكيف انطلقت مسيرته من سوريا إلى العراق وليس العكس، وهو لا شك يعد تنظيماً دولياً لما تلقاه من دعم في بداية صعوده عام 2014، واستخدم كورقة من قبل دول المنطقة بصيغة أو بأخرى، سواء أنقرة وغيرها وحتى دول الخليج، وكان لهذا الواقع دوافع أمنية واقتصادية".
وختم النشوع بالقول إن التنظيم "قد يكون عاملاً مفاده أن المنطقة لا يمكن أن تستقر من دون وجود الولايات المتحدة التي تمتلك مجمل خطوط اللعبة، حتى إن طهران عن دراية أو جهل تخدم نظرية الفوضى الخلاقة التي تطبقها واشنطن في المنطقة بعد عام 2023، ومن نتائج هذه النظرية أنها بدأت تتحول إلى سياسات الاحتواء المزدوج واستخدام العصى الغليظة أحياناً، وهناك تقوية للتطرف والعمل لدول على حساب دول أخرى، أي إن مشروع الشرق الأوسط الكبير لا يمكن أن يتحقق من الخوض في هذه الصفحات من ’داعش‘ والميليشيات والجماعات المسلحة".