Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل نحن أمام نهاية الأعمال التلفزيونية البريطانية "المتفردة"؟

حقق مسلسل"السيد بيتس في مواجهة مكتب البريد" الذي عرض في يناير الماضي نجاحاً كبيراً على قناة "آي تي في"، إلا أن المحطة تعتقد أنه بات من الصعب إنتاج مسلسلات "ذات هوية بريطانية فريدة". في ما يأتي نستكشف الأسباب لاحتضار عروض كهذه

طغى فيلم "السيد بيتس في مواجهة مكتب البريد" على الأحاديث الوطنية، لكن قناة "آي تي في" وجدت مصاعب في تسويقه عالمياً  (استوديوهات آي تي في)

ملخص

تتمتع المملكة المتحدة بتاريخ طويل وغني بالأعمال الدرامية المؤثرة التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية في البلاد

عودوا بأذهانكم إلى مطلع العام الحالي، فقد تتذكرون كيف أن عرضاً تلفزيونياً واحداً استحوذ على الاهتمام الوطني في المملكة المتحدة. كان لمسلسل "السيد بيتس في مواجهة مكتب البريد" Mr Bates vs The Post Office الذي قدم تصويراً درامياً قوياً لفضيحة "هورايزون" Horizon - التي شهدت محاكمة مئات من المديرين الفرعيين في مكاتب البريد ظلماً بتهمة السرقة - تأثيراً قوياً ومحفزاً. وحصلت عريضة تطالب بتعويض الضحايا بشكل أفضل، على مئات الآلاف من التوقيعات، مما دفع بالحكومة البريطانية إلى تقديم تشريع حكومي جديد لتبرئتهم. حتى أن الرئيسة التنفيذية السابقة لمؤسسة البريد بولا فينيلز اضطرت في وقت لاحق إلى إعادة "وسام الإمبراطورية البريطانية"  CBEالذي كانت حازته (الوسام يمنح للأفراد لمساهماتهم الكبيرة في مجال الفنون والعلوم أو الخدمات العامة أو العمل الخيري). وتمت الإشادة بالعمل باعتباره مثالاً واضحاً على قدرة التلفزيون على إحداث تغيير في العالم الحقيقي، وأصبح مسلسل "السيد بيتس" أيضاً الدراما الأكثر مشاهدة على قناة "آي تي في" منذ أكثر من عقد من الزمن، متجاوزاً حتى إطلاق مسلسل "داون تاون آبي" Downton Abbey في عام 2010. وشاهده حتى الآن 13 مليوناً و500 ألف شخص.

يمكن وصف ما تحقق بشكل عام بأنه نجاح باهر، أليس كذلك؟ لكن بعيداً من الإشادة النقدية بالعرض والتغطية الإخبارية التي حظي بها وأرقام المشاهدة المرتفعة التي سجلها، فإن الواقع يبدو أكثر تعقيداً. فالقناة البريطانية خسرت في الواقع نحو مليون جنيه استرليني (مليون و270 ألف دولار) نتيجة هذا المسلسل، ويعزى السبب إلى حد كبير إلى صعوبة بيعه لمحطات بث أجنبية. وكانت قناة "آي تي في" أبلغت في وقت سابق من هذا الأسبوع لجنة الثقافة والإعلام والرياضة البرلمانية المختارة من مختلف الأحزاب البريطانية، بأن "ارتفاع تكاليف الإنتاج، والركود في الموازنات المخصصة لإنشاء عروض جديدة، تعني أن هوامش الربحية المالية لإنتاج محتوى بريطاني متفرد، آخذة في الانخفاض. وفي الوقت نفسه، هناك طلب جماهيري دولي متزايد على المحتوى الذي يمكن أن يجذب المشاهدين على المستوى العالمي".

يشار هنا إلى أن المملكة المتحدة تتمتع بتاريخ طويل وغني بالأعمال الدرامية المؤثرة التي تسلط الضوء على القضايا الاجتماعية في البلاد، بدءاً بـ"هيلزبره"  Hillsborough للمخرج جيمي ماك غفرن الذي تناول مسألة النضال من أجل تحقيق العدالة لضحايا كارثة ملعب هيلزبره لكرة القدم عام 1989، مروراً بالمسلسلات الأحدث مثل "إنها خطيئة" It’s A Sin الذي استكشف تأثير أزمة مرض الإيدز، و"تايم" Time، وهو عرض آخر لماك غفرن، يلقي الضوء على نظام السجون المنهار لدينا. والسؤال، هل يمكن أن تصبح مثل هذه العروض في وقت قريب ضرباً من الماضي؟

الإجابة عن هذا التساؤل تتطلب درس التحديات والبحث في ما تسمى "العاصفة المثالية" Perfect Storm (التقاء مجموعة من الظروف غير المواتية) التي ضربت قطاع الإنتاج الترفيهي ذا التقدير الكبير في المملكة المتحدة. وكانت هذه السوق قبل بضعة أعوام مزدهرة، مع تقاطر منصات البث على المملكة المتحدة من أجل إنتاج أفلام ومسلسلات تلفزيونية راقية، أسهمت في اجتذاب طواقم فنية ماهرة، ومرافق مؤثرات بصرية من الدرجة الأولى، وحوافز ضريبية سخية.

وكان الطلب على طواقم العمل مرتفعاً للغاية إلى درجة أنه بات من الشائع بالنسبة إلى العاملين البريطانيين في هذا القطاع، مغادرة العمل في منتصف التصوير من أجل المشاركة في مشاريع البث التي تقدم أجوراً أفضل. وفي عام 2022 وصل مجموع الإنفاق على الإنتاج المشترك للأفلام والأعمال التلفزيونية المتطورة - المعروفة بالمسلسلات التي تكلف الحلقة منها أكثر من مليون جنيه استرليني (مليون و270 ألف دولار) - إلى رقم قياسي مقداره 6 مليارات و270 مليون جنيه استرليني (7 مليارات و963 مليون دولار) في المملكة المتحدة، 86 في المئة منه يأتي من استثمارات أجنبية. وبدا القطاع أحد القطاعات القليلة التي خرجت من الوباء أقوى من أي وقت مضى.

إلا أنه منذ ذلك الحين، حدث تغيير مهم لم يكن متوقعاً في قطاع الترفيه في المملكة المتحدة الذي شهد تراجعاً كبيراً. ليس هناك في الحقيقة سبب واضح لهذا التراجع، بل مجموعة من الظروف الصعبة التي يؤثر عدد منها على قطاع الترفيه العالمي ككل. فقد أسهمت أزمة ارتفاع كلفة المعيشة - بما فيها فواتير الطاقة المرتفعة - في زيادة تكاليف الإنتاج بالنسبة إلى صانعي الأفلام والبرامج التلفزيونية في كل مكان. وأثارت المخاوف المتعلقة بتقلص عدد الجماهير التي تعاني ضائقة مالية على مستوى اشتراكات البث المباشر، الهلع في سوق "وول ستريت" المالية العام الماضي، ما أدى إلى تخفيضات في موازنات عدد من شركات الترفيه الأميركية الكبرى، وإلغاء عروض مختلفة (والمفارقة أن هذه الشركات هي نفسها التي كانت تقود طفرة الإنتاج في المملكة المتحدة). ثم جاءت ضربة تاريخية مزدوجة تمثلت في إضراب كتاب السيناريو في هوليوود، عقبه تحرك احتجاجي مماثل على مستوى القطاع برمته من جانب أعضاء "نقابة ممثلي الشاشة - الاتحاد الأميركي لفناني التلفزيون والراديو" Screen Actors Guild-American Federation of Television and Radio Artists (SAG-AFTRA) (أكبر اتحاد للنقابات في الولايات المتحدة ويمثل نحو 160 ألف إعلامي من مختلف أنحاء العالم)، مما أدى إلى توقف التصوير في جميع دول العالم.

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، هنا في المملكة المتحدة، واجهنا بعض التحديات الخاصة. أولاً، تم تجميد الرسوم التي تدفعها الأسر في بريطانيا لقاء مشاهدة محطات "بي بي سي" BBC License خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 2022 و2024، وأكدت الهيئة التي تعتمد على هذا التمويل، أن الزيادة الأخيرة، التي تظل ما دون معدل التضخم، تؤثر في موازنات المحتوى، وتنعكس بالتالي سلباً بشكل كبير على القطاع الإبداعي الأوسع في جميع أنحاء المملكة المتحدة. وكان التباطؤ في تشغيل "القناة الرابعة" تصدر عناوين الأخبار في العام الماضي، كما أن الإنفاق على الإعلانات التلفزيونية وصل في الوقت الراهن إلى مستوى منخفض بسبب عادات المشاهدة المتفرقة في المملكة المتحدة، مما أدى إلى خفض التمويل المتاح لإنتاج برامج جديدة.

في أواخر العام الماضي، لفت الرئيس التنفيذي لـ"القناة الرابعة" أليكس ماهون إلى أن "هذا المستوى من التراجع في الإعلانات لم يكن أكثر عمقاً إلا أثناء الركود الذي حدث في عام 2008". وتشعر غالبية العاملين لحسابهم الخاص في هذا القطاع بالمقدار الأعظم من وطأة هذه التحديات. وبحسب دراسة أجراها اتحاد قطاع الترفيه والإعلام "بيكتو"  Bectu في فبراير (شباط) الماضي، فقد كان نحو 68 من العاملين في السينما والتلفزيون عاطلين من العمل، وهو ما يشكل تحسناً بنسبة سبعة فقط منذ سبتمبر (أيلول) العام الماضي (عندما كان إضراب الممثلين مستمراً). وأعرب 88 في المئة عن مخاوفهم في شأن استقرارهم المالي على مدى الأشهر الستة المقبلة.

هذا الوضع القاتم يدفع بالإنتاج البريطاني للأعمال التلفزيونية إلى الاعتماد أكثر فأكثر على المبيعات الدولية التي تعد حاسمة، (أو في بعض الحالات، على عقد شراكات مع محطات بث أجنبية لتقاسم التكاليف). لكن عندما تكافح تلك الشركات الدولية هي الأخرى، لخفض موازناتها، يصبح من الصعب إقناعها بالاستثمار في روايات وسرديات بريطانية تتميز بثقافة محلية للغاية، وبممثلي شخصيات فريدة من نوعها. ولفتت قناة "آي تي في" إلى أنه "بات من الصعب على نحو متزايد تحقيق نجاح مالي للإنتاجات التلفزيونية البريطانية مقارنة بالدراما التي تتمتع بجاذبية أوسع على المستوى العالمي".

 

في هذا المشهد المليء بالمصاعب، يبدو مفهوماً لماذا تتردد هيئة بث تلفزيوني في الاستثمار في قصة بريطانية "مميزة" لا تنسجم تماماً مع النوع القابل للتسويق تجارياً (على عكس مثلاً مسلسل التشويق "حارس شخصي" Bodyguard الذي تدور أحداثه في لندن، الذي من المحتمل أن تنجح مواضيعه الأوسع صدى حتى في بيئة مختلفة)، فقد لا تجتذب مثل هذه القصص جمهوراً خارج حدودها الوطنية. لنأخذ على سبيل المثال مسلسل "السيد بيتس"، فكما أكد بصراحة كيفن ليغو رئيس قسم الإعلام والترفيه في محطة "آي تي في" قائلاً: "إذا كنت في ليتوانيا، هل تمضي أربع ساعات أمام الشاشة تتابع ما يدور داخل "مكتب البريد البريطاني؟ لا أعتقد ذلك، شكراً جزيلا".

بات من الصعب أكثر فأكثر أن نجعل الاقتصاد يعمل بطريقة لا تنطبق على الأعمال الدرامية التي تحظى بعامل جذب عالمي واضح

"آي تي ​​في" 

 

هنا يبرز المسلسلان الدراميان عن السجون "تايم" والوصية السادسة The Sixth Commandment، اللذان بثتهما شبكة "بي بي سي". والأخير هو تصوير درامي دقيق لجريمة وقعت في قرية "مايدس موريتون"، ويعد العمل الذي حاز أخيراً الممثل الرئيس فيه تيموثي سبال "جائزة الأكاديمية البريطانية للفنون" British Academy Film Awards (BAFTA)، أحد أفضل العروض وأكثرها إثارة للمشاعر في الأعوام الأخيرة. ومع ذلك، فإن تصويرها الدقيق للسرديات البريطانية الفريدة يجعل هذه المسلسلات تبدو وكأنها غير ملائمة إلى حد ما. ومن الصعب أن نتخيل أنها قد تحظى بمستوى المشاهدة نفسه في أي مكان آخر.

 

يبدو أن ظروف السوق الراهنة الصعبة، ربما تسهم في تسريع وتيرة الاتجاه السائد والمتمثل في جعل محتوى التلفزيون أكثر تشابهاً أو توحيداً، ويمكن القول إنها جارية منذ ظهور عصر خدمات البث التلفزيوني القائمة على الاشتراك. وربما تكونون لاحظتم ذلك التأثير الغريب، من خلال بعض البرامج التي، على رغم أن أحداثها تدور في مواقع محددة، إلا أنها تفتقر لإحساس قوي بالمكان. فلنأخذ مثلاً مسلسلات الإثارة لهارلان كوبن على خدمة "نتفليكس"، التي صورت في شمال غربي إنجلترا، لكنها في شكل عام أميركية الطابع. كذلك مسلسل "التعليم الجنسي" Sex Education، حيث المدرسة الثانوية فيه تشبه إلى حد ما تلك التي في مسلسل "غلي" Glee (أميركية الطابع مع التركيز على الموسيقى) بدلاً من "غرانج هيل" Grange Hill (البريطانية الواقعية).

مما لا شك أن فكرة "الأعمال التلفزيونية البريطانية المميزة" هي موضع خلاف (ومن الممكن أن تتحول في كثير من الأحيان إلى لعبة كرة قدم سياسية). ففي عام 2021، أعلن الوزير عن حزب "المحافظين" جون ويتينغديل نيته إجبار محطات البث العامة على إنتاج مقدار معين من "المحتوى البريطاني المميز"، على غرار برامج مثل "داون تاون آبي" Downton Abbey، و"ذا غريت بريتيش بيك أوف"   The Great British Bake Off، و"أونلي فولز أند هورسيز" Only Fools and Horses، و"فلي باغ" Fleabag. إلا أن خططه لم تسر بشكل جيد. فقد رأى كثيرون أن هذه الأعمال لم تكن تمثل بشكل كامل ثقافتنا المتنوعة في المملكة المتحدة، وأن القطاع كان يعاني أساساً عرض قصص محددة ومبدعين معينين فقط. وما زاد في تعقيد حجة ويتينغديل أنه أضاف مسلسل "ديري غيرلز"  Derry Girls، وهو عرض أعد على خلفية الاضطرابات في إيرلندا الشمالية.

هناك كثير من الإنتاجات التلفزيونية الأخرى في الأعوام الأخيرة التي لم تصل إلى القائمة الضيقة للوزير، لكنها لا تزال تظهر قوة الإبداع البريطاني واتساعه، منها: "قد أدمرك" I May Destroy You و"الوادي السعيد" Happy Valley، و"الفأس الصغيرة" Small Axe لستيف ماكوين، وحتى "جزيرة الحب" Love Island في ذروة عرضه. وبعيداً من هذه الحروب الثقافية، سيكون من العار الحقيقي أن نرى العروض البريطانية تفقد طابعها المميز - وليس فقط لأنها يمكن أن تمنع قصصاً مهمة مثل "السيد بيتس" من الوصول إلى جمهور أوسع.

إن التركيز على طابع "الجذب العالمي" في إنشاء المحتوى التلفزيوني، قد يحد من إبداع كل من كتاب السيناريو الجدد والمتمرسين الآخرين على حد سواء، مما قد يضغط عليهم لالتزام صيغة نمطية وقابلة للتطبيق تجارياً. ويبدو أن هذا النهج قصير النظر، لأنه يتجاهل قيمة "المسلسلات المتخصصة" التي غالباً ما تتيح للكتاب الموهوبين فرصاً للازدهار وإظهار مهاراتهم. وبدأ جيسي أرمسترونغ المشرف الإبداعي على مسلسل "خلافة" Succession - الحائز "جائزة إيمي"، الذي تعرضه شبكة "إتش بي أو" - شق طريقه في "بيب شو"  Peep Show، وهو عرض لم يكن من الممكن أن يكلف إلا من "القناة الرابعة" (ويمكن القول إنه يجسد جوهر نفسية الذكور البريطانيين "المميزة").

عندما قررت قناة "آي تي في" تكليف إنتاج مسلسل "السيد بيتس"، كانت تعلم أن الأمر سيكون صعباً، لأنها "شعرت بأهمية مسؤولية سرد قصة مديري "مكتب البريد". ومن الواضح أن إدارتها أقدمت على اتخاذ القرار الصحيح، فمن الصعب تحديد سعر لتأثير العرض. لكن إلى متى ستظل مؤسساتنا التلفزيونية قادرة على تحمل هذه الأنواع من الأخطار؟

© The Independent

المزيد من فنون