ملخص
احتمالات الانشقاق تهدد الحزبين الكبيرين في السياسة البريطانية وتضع ريشي سوناك وكير ستارمر في وضع حرج
أظهر تحليل لاستطلاعات الرأي المجمعة في بريطانيا أن حزب العمال المعارض يتقدم على حزب المحافظين الحاكم بنحو 20 نقطة قبل أشهر من الانتخابات العامة المتوقعة في شهر مايو (أيار) العام المقبل، إلا أن غالبية المحللين يرون أن هذه النتائج قابلة للتغيير، بخاصة في ظل الانقسامات الحادة والخلافات داخل الحزبين الكبيرين في السياسة البريطانية.
الحكمة التقليدية المستقاة من التجارب السابقة تفيد بأن جماهير الناخبين لا يثقون بحزب لا تستطيع قيادته الحفاظ على وحدته، فكيف للجماهير أن تطمئن إلى قيادته لشؤون البلاد كلها.
وتشير الأرقام التي نشرتها أمس الأحد شبكة "سكاي نيوز" وأعدها فريق البيانات وتحليل المعلومات فيها إلى تقدم المعارضة على الحكومة بفارق كبير، ففي النتيجة النهائية حصل حزب العمال بقيادة كير ستارمر على نسبة 44.9 في المئة من أصوات الناخبين المستطلعة آراؤهم في مجموعة استطلاعات الرأي الأخيرة، ونال حزب المحافظين الحاكم بقيادة رئيس الوزراء ريشي سوناك نسبة 24.8 في المئة فقط.
وتتوزع توجهات النسبة الباقية من الناخبين على الأحزاب الصغيرة، وفي مقدمتها الحزب الثالث في السياسة البريطانية وهو حزب الليبراليين الديمقراطيين الذي حصل على نسبة 10.8 في المئة، يليه حزب الإصلاح اليميني المتشدد (حزب "بريكست" سابقاً لدى تأسيسه عام 2018) بنسبة 7.8 في المئة، ثم حزب الخضر بنسبة 6.2 في المئة والحزب القومي الاسكتلندي بنسبة 3.3 في المئة.
الحرب والانقسامات والانتخابات
وإذا كان جمهور الحزب القومي الاسكتلندي مقصوراً على اسكتلندا فإن حزب الخضر، وهو حزب يركز على قضايا البيئة والمناخ بالأساس، يجذب بعض الأصوات الاحتجاجية للناخبين المعترضين على أي من الحزبين الكبيرين ممن اعتادوا التصويت له، ويبدو أن الأصوات الاحتجاجية في الانتخابات المقبلة ستكون أكبر، وربما لا تتحول بين الحزبين الكبيرين، الحاكم والمعارض فقط، إذ يرجح أن يفوز حزب الليبراليين الديمقراطيين ببعض المقاعد في الدوائر التي تشهد تصويتاً احتجاجياً على الحزبين الكبيرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما حزب الإصلاح، فهو في الغالب سيحصل على مزيد من أصوات المحتجين على حزب المحافظين، مما يفتت أصوات اليمين السياسي عامة، ومع تراجع نسبة المؤيدين للمحافظين، كما تظهر بيانات تحليل استطلاعات الرأي المجمعة، لا يتوقع أن تتغير كثيراً نسبة المؤيدين لحزب الإصلاح ذي التوجه الشعبوي.
وشهد هذا الشهر مزيداً من الانقسامات داخل حزب المحافظين الحاكم، بخاصة مع التعديل الوزاري الذي أجراه سوناك وأقال بموجبه وزيرة الداخلية المثيرة للجدل سويلا برافرمان، وعلى رغم أن سوناك حاول من خلال التشكيل الجديد أن يبدو وكأنه يضم تياراً في حزبه، هو تيار الوسط المعتدل بأن أعاد رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون للحكومة وزيراً للخارجية، إلا أن الحزب ما زال ممزقاً.
وفي أقل من ثمانية أعوام غير حزب المحافظين قيادته، وبذلك حكوماته، خمس مرات، مما يدل بالنسبة إلى الناخب البريطاني على أن الحزب لا يسير بوتيرة مستدامة ولا يملك قيادة قادرة على توحيد صفوفه، فضلاً عن أن الغرق في الخلافات الداخلية وألاعيب السياسة الحزبية لا يجعل الحزب وحكومته متفرغين تماماً لإدارة شؤون البلاد بالصورة الجيدة.
أما كير ستارمر الذي انتخبه حزب العمال قائداً له عام 2020، فأظهر في البداية أنه قادر على توحيد الصفوف في الحزب الذي تأرجح منذ أيام رئيس الوزراء السابق توني بلير بين الوسط واليسار ليتجه الآن نحو اليمين، وخلال الأسبوع الأخير واجه ستارمر تمرداً قوياً من نحو ربع الكتلة البرلمانية للحزب بسبب موقفه من الحرب في غزة بعدما صوّت 56 نائباً من حزب العمال لمصلحة اقتراح الدعوة إلى وقف إطلاق النار في تجاوز صريح لتعليمات قيادة الحزب.
احتمالات الانشقاقات
بالنسبة إلى المحافظين، وإن كانت إقالة برافرمان جاءت بعد انتقاداتها الحادة للشرطة لأنها تسمح بتظاهرات تطالب بوقف إطلاق النار في غزة، إلا أن سوناك كان عازماً على إخراجها من فريقه الوزاري لإثارتها المشكلات باستمرار، ومع ذلك تظل الحرب في غزة والخلافات حولها القشة التي قسمت ظهر البعير داخل الحزب وإن كان معظم أعضائه يتفقون مع القيادة على دعم إسرائيل.
وفاقمت تطورات الأسبوع الماضي فقط من خلافات تتجذر داخل الحزب الحاكم، حتى من قبل حكومة بوريس جونسون عام 2019. وكانت فترة زعامة جونسون للحزب ورئاسته للحكومة، خلفاً لتيريزا ماي، فترة انقسامات متعددة وأيضاً فترة إضعاف لثقة الجماهير بالحزب وقيادته والحكومة بصورة عامة مع توالي فضائح انتهاك القانون والفساد والخلافات العلنية بين قياداته.
وحاول سوناك الذي اختير العام الماضي من قبل نواب الحزب فقط وليس حتى بانتخابات بين أعضائه لخلافة ليز تراس منذ البداية أن يبدو شخصاً توافقياً يعمل على توحيد حزبه وراءه استعداداً للانتخابات، لكن تيار اليمين المتشدد في الحزب لم يقبل به، وزادت الخلافات بعد إقالة برافرمان التي بدأت بتوجيه الاتهامات لسوناك علناً والتشكيك حتى في تفويضه للحكم.
برافرمان ومعها ما يصل إلى 40 نائباً من الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم دعت إلى طرح قانون للانسحاب من ميثاق حقوق الإنسان الأوروبي، بخاصة بعد الحكم بعدم قانونية ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، وذلك في مزايدة على سوناك الذي رد على القرار بأن الحكومة عازمة على المضي قدماً في خططها بتفعيل قانون طوارئ يتجاوز حكم المحكمة.
ويظل هناك احتمال أن تتزايد المعارضة لسوناك داخل حزبه ويتقدم عدد من النواب بطلبات سحب الثقة منه ومن حكومته، وفي حال حدث ذلك، فإن انشقاقات جديدة ستجعل أي قيادة يتم اختيارها قبل الانتخابات العام المقبل في وضع أسوأ من حيث ثقة الناخبين بها، لذا يمكن أن يفقد الحزب مزيداً من المقاعد في البرلمان التالي بأكثر مما تشير استطلاعات الرأي الحالية.
مشكلات المعارضة
تبدو الخلافات حتى الآن في حزب العمال المعارض أقل حدة من تلك التي يشهدها حزب المحافظين منذ أعوام وتتفاقم الآن قبل الانتخابات، وتستفيد المعارضة من بروز خلافات المحافظين بهذه الحدة، خصوصاً أنها جاءت في الأسبوع نفسه الذي شهد التمرد واحتمالات الانشقاقات في حزب العمال.
فمن استقالوا من الصفوف الأمامية للمعارضة، وعددهم 10 من قيادات الحزب، ليسوا من كبار وزراء حكومة الظل، لكن محاولات كير ستارمر والمؤيدين له في قيادة الحزب إظهار أن الحزب يظل موحداً، كما يؤكدون في مقابلاتهم الصحافية خلال الأيام الأخيرة، ليست مقنعة تماماً، فالخلاف في شأن الحرب بغزة ليس الأول، وإن لم يؤدِ إلى تمرد وانشقاقات، إذ يرى التيار اليساري المتبقي في الحزب أن ستارمر يكاد يكون محافظاً حتى أكثر من بعض المحافظين.
ولم يتحسن وضع الحزب في استطلاعات الرأي منذ أيام توني بلير إلا في الفترة القصيرة التي تولى فيها جيريمي كوربين رئاسته قبل إطاحته عام 2019 بتهمة انتشار معاداة السامية في صفوف الحزب. وإذا كان بلير وغوردون براون أخذا حزب العمال نحو الوسط في نهاية القرن الماضي، فإن إد ميليباند في 2010 لم يتمكن من قيادة الحزب نحو أرضية قوية إلى أن خلفه كوربين.
ويبدو ستارمر حتى الآن، بخاصة مع مغازلته الناخبين من اليمين بدعمه حتى بعض سياسات حزب المحافظين الحاكم، في وضع أفضل وإن لم يصل بعد إلى مكانة الحزب وقت انتخاب توني بلير في التسعينيات، ذلك أن القدر الأكبر من حظوظ حزب العمال في استطلاعات الرأي يعود لخسارة المحافظين أكثر منه لمكاسب العمال وستارمر.
ولأن استطلاعات الرأي لم تعد مؤشراً دقيقاً خلال الأعوام الأخيرة، فإن احتمالات التغيير تظل كبيرة، وربما يستفيد حزب الليبراليين الديمقراطيين أكثر من الأصوات الاحتجاجية، ويخسر سوناك وستارمر إمكان الحصول على غالبية كبيرة في انتخابات العام المقبل.