ملخص
ما زلنا في حاجة إلى عمل كثير في مجال مكافحة القرصنة البيولوجية، وفرض قيود أكثر صرامة إذا كنا لا نريد رؤية نسخ من جميع الكائنات النباتية والحيوانية، وربما من أنفسنا في المستقبل، وفي كل مكان.
انتشر أخيراً على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لسيدة كندية، تشارك فرحتها التي لا توصف بالحصول على قطتين مستنسختين من قطتها التي ماتت عام 2022. فبعد محاولات فاشلة عدة على مدار سنتين ودفع مبلغ 50 ألف دولار، تمكنت شركة "فيا جين بيتس" من تقديم نسختين طبق الأصل إلى كريس ستيورات من قطتها الراحلة العزيزة على قلبها.
وأثار الخبر ردود فعل متنوعة، لكن سؤالاً واحداً كان قاسماً مشتركاً تقريباً بين معظم المتفاعلين مع مقطع الفيديو، من أعطى السيدة الحق في استخدام جينات كائن ميت من المفترض أنه أنهى دورته في هذه الحياة؟
ولم يكن هذا الحدث مجرد فصل في تاريخ البيولوجيا الحديثة، بل كان نقطة تلاق بين التقنيات الحديثة والأخلاقيات البيولوجية. وبينما تثير عملية الاستنساخ هذه تساؤلات حول مفهوم الحقوق الأخلاقية والقانونية للكائنات الحية، ينبغي لنا أيضاً أن نفكر في كيف يمكن لتقنيات الجينات أن تسهم في القرصنة البيولوجية، وكيف يمكن أن تكون هذه التجارب، عند إساءة استخدامها أو توظيفها بطريقة غير مسؤولة، جزءاً من التحديات التي نواجهها في مجتمع متقدم تكنولوجياً.
ما القرصنة البيولوجية؟
يستخدم مصطلح القرصنة البيولوجية، أو البيوبايرسي Biopiracy، للإشارة إلى النقل غير القانوني أو الاستغلال غير المصرح به للموارد البيولوجية والمعرفة التقليدية المرتبطة بها من البلدان النامية إلى الدول المتقدمة أو الشركات الخاصة. ويتم هذا الاستغلال عادة من دون الحصول على موافقة أو تعويض السكان المحليين الذين طوروا وأداروا هذه الموارد على مدى قرون. ويمكن أن تشمل القرصنة البيولوجية سرقة النباتات والحيوانات والجينات والمعرفة التقليدية التي تتعلق باستخدامها الطبي أو الزراعي.
ومصطلح "القرصنة البيولوجية" صاغته الناشطة الهندية والباحثة في مجال البيئة فاندانا شيفا في تسعينيات القرن الماضي. وبدأت شيفا باستخدام هذا المصطلح لوصف كيفية استغلال الشركات متعددة الجنسيات للموارد البيولوجية والمعرفة التقليدية من الدول النامية، من دون موافقة السكان المحليين أو تقديم تعويض عادل لهم.
وبدأ استخدام المصطلح يكتسب شهرة في عقد التسعينيات ذاته، إذ سلط الضوء على قضايا حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالموارد الجينية والمعرفة التقليدية، وبخاصة في سياق المناقشات العالمية حول التنوع البيولوجي والتكنولوجيا الحيوية.
أمثلة على القرصنة البيولوجية
شجرة النيم الهندي معروفة بخصائصها الطبية والزراعية الواسعة. وحصلت في التسعينيات، شركات غربية على براءات اختراع لإنتاج مبيدات حشرية ومبيدات فطرية مشتقة من زيت النيم ومستخلصاته. وقاد هذا إلى احتجاجات من قبل المزارعين والباحثين الهنود، الذين جادلوا بأن استخدامات النيم معروفة في الهند منذ قرون. وفي نهاية المطاف، ألغي عدد من براءات الاختراع بعد اعتراضات قانونية.
وخلال عام 1995 حصل مركز الدراسات الطبية في جامعة مسيسيبي على براءة اختراع أميركية لاستخدام الكركم في إنتاج مستحضرات تساعد على التئام الجروح، وكان هذا الاستخدام أيضاً معروفاً على نطاق واسع في الطب التقليدي الهندي.
نبات الكينوا الذي يعد غذاء رئيساً في منطقة الأنديز في أميركا الجنوبية، إذ كان يزرع ويستخدم لآلاف السنين، وتعرض للقرصنة البيولوجية في التسعينيات، عندما حاولت شركات في الولايات المتحدة وأوروبا تسجيل براءات اختراع على أنواع معينة من الكينوا أو استخداماتها التجارية، مما أدى إلى قلق كبير في دول الأنديز، حيث رأى السكان المحليون أن هذه المحاولات تهدد تراثهم الزراعي والمعيشي.
وفي صحراء كالاهاري يستخدم السكان الأصليون منذ قرون نبات الهوبيا لتخفيف الجوع والعطش. وفي أوائل العقد الأول من القرن الحالي، حصلت شركة "فايتوفارم" البريطانية على براءة اختراع لاستخدام مستخلصات الهوبيا كمكمل غذائي لفقدان الوزن.
وفي أستراليا يستخدم السكان الأصليون في غرب البلاد نبات اللافندر الأسترالي في ممارساتهم الطبية التقليدية. لكن خلال عام 1999، حصلت شركة يابانية على براءة اختراع لمركبات كيماوية مشتقة من هذا النبات. وأعربت المجتمعات الأصلية عن قلقها في شأن عدم الاعتراف أو التعويض المناسب لاستخدام معرفتهم التقليدية.
تأثيرات وتحديات
ويمكن أن تؤدي القرصنة البيولوجية إلى استنزاف الموارد البيولوجية في مناطق معينة، مما يؤثر في التنوع البيولوجي ويهدد بقاء الأنواع النادرة. وكذلك قد يتسبب نقل الموارد البيولوجية من بيئتها الأصلية إلى اضطرابات في النظم البيئية، إذ تلعب هذه الموارد أدواراً حيوية في توازن البيئة المحلية.
كما أن الخطر يمتد ليطال السكان المحليين الذين يعتمدون على الموارد البيولوجية لكسب عيشهم والحفاظ على تقاليدهم الثقافية، وقد تؤدي القرصنة البيولوجية إلى فقدان هذه الموارد والمصادر التقليدية للمعرفة.
وليست مكافحة القرصنة البيولوجية مسألة سهلة، ويعد نقص الوعي بين المجتمعات المحلية في شأن حقوقهم في الموارد البيولوجية والمعرفة التقليدية من أبرز التحديات، إذ يترك الناس عرضة للاستغلال. كما أن القوانين المتعلقة بحماية الموارد البيولوجية في كثير من البلدان النامية تفتقر إلى الصرامة أو التطبيق الفعال، مما يسهل الانتهاكات غير القانونية. ومن ناحية أخرى يجعل التقدم التكنولوجي وتطور البحث العلمي، من تحديد وتتبع القرصنة البيولوجية، مسألة معقدة وصعبة.
وعلى صعيد البشر، تحمل سرقة الجينات البشرية أخطاراً متعددة، إذ تؤدي إلى انتهاكات الخصوصية والأمان الشخصي مع احتمالية تجارة الأعضاء والتمييز الجيني. وهو موضوع مثير، ألهم كتاب روايات الخيال العلمي وصناع السينما كما في فيلمي "الجزيرة" The Island، و"المستردون" Repo Men اللذين يتناولان مواضيع ذات صلة. ومع أن عمليات سرقة الجينات البشرية تتم في أماكن مختلفة، فإنها تحدث على الأرجح في المستشفيات والمراكز البحثية وشركات التكنولوجيا الحيوية.
قوانين واتفاقات دولية
ويهدف اتفاق التنوع البيولوجي، الذي تم تبنيه عام 1992 خلال "قمة الأرض" في ريو دي جانيرو، إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي والاستخدام المستدام لمكوناته، والتقاسم العادل والمتساوي للفوائد الناتجة من استخدام الموارد الجينية. أما "بروتوكول ناغويا" الذي اعتمد عام 2010، فيسعى إلى توفير إطار قانوني لضمان التقاسم العادل والمتساوي للفوائد الناتجة من استخدام الموارد الجينية وتشجيع التعاون الدولي وتطوير نظم الرصد والمراقبة. ثم جاءت في نهاية مايو (أيار) الماضي المعاهدة الدولية لمكافحة القرصنة البيولوجية التي تعد محورية في هذا السياق، إذ تهدف إلى وضع إطار قانوني دولي أكثر صرامة وشمولية لمنع استغلال الموارد البيولوجية والمعرفة التقليدية من دون موافقة وتعويض عادل، مما يشمل حقوق الملكية الفكرية والتعاون الدولي والتدابير القانونية والشفافية والمراقبة.
وبعد مفاوضات استمرت أكثر من عشرين عاماً، وافق أكثر من 190 دولة عضواً في الأمم المتحدة على المعاهدة الجديدة. ووصفت الأمم المتحدة في بيان لها هذا الاتفاق بالخطوة "التاريخية". وتلزم المعاهدة مقدمي طلبات براءات الاختراع بالكشف عن مصادر الموارد والمعارف المستخدمة في اختراعاتهم، ومن المتوقع أن يدخل الاتفاق حيز التنفيذ بمجرد مصادقة 15 دولة عليه، ويشمل عقوبات على تقديم معلومات زائفة أو غير كاملة في طلبات براءات الاختراع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تدابير وقائية
بادئ ذي بدء، ومن أجل حماية التنوع البيولوجي والحفاظ على المعرفة التقليدية، يجب على الجميع إدراك أهمية هذه الموارد وقيمة الحفاظ عليها. ويعد التثقيف حول تأثيرات القرصنة البيولوجية وكيفية مواجهتها أمراً ضرورياً لتحقيق هذا الهدف.
ويعد تعزيز الوعي بين المجتمعات المحلية في شأن حقوقهم من أهم أدوات حماية مواردهم البيولوجية ومعرفتهم التقليدية. ومن ناحية أخرى يضمن إنشاء نظم فعالة لرصد وتتبع استغلال الموارد البيولوجية وعدم استخدامها بصورة غير قانونية، وكذلك تعزيز وتفعيل القوانين والتشريعات الوطنية والدولية التي تحمي الموارد البيولوجية والمعرفة التقليدية، وتشجيع التعاون بين الدول لمكافحة القرصنة البيولوجية من خلال تبادل المعلومات والخبرات.
وتتضمن التدابير الوقائية لحماية البشر من سرقة جيناتهم خطوات عدة، منها التوعية بأخطار الحفظ الرقمي للبيانات الجينية وضرورة اتباع إجراءات أمنية صارمة لحماية هذه البيانات. ويمكن اتباع تدابير تقنية مثل استخدام كلمات مرور قوية، وتشفير البيانات لمنع وصول غير المصرح لهم إلى المعلومات الجينية الحساسة، وتقليل مشاركة بياناتهم الجينية مع الأطراف الثالثة وتجنب الموافقة على الاستخدامات غير المحددة والمشبوهة لهذه البيانات. إضافة إلى ذلك، يجب على الأفراد توخي الحذر عند الخضوع إلى علاجات طبية أو تجميلية في مراكز غير معتمدة، والتحقق من سمعة المركز وتقييم صدقيته، إذ يمكن أن تكون هذه المراكز مصدراً لاستغلال البيانات الجينية من دون موافقة صريحة.
حقوق الملكية في الموروثات الجينية
وتشمل حقوق الملكية الفكرية الموارد الجينية للنباتات، وحماية التنوع الجيني وتأكيد حقوق المزارعين والمجتمعات المحلية في حفظ واستخدام وتبادل البذور والموارد النباتية. وتضمن الاتفاقات مثل "المعاهدة الدولية في شأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة"، حقوق المزارعين وتحافظ على التنوع الجيني.
وفي عالم الحيوان، تشمل حماية الموروثات الجينية الحفاظ على السلالات المحلية وحقوق المجتمعات التي تعتمد على هذه السلالات في معيشتها، وتتضمن الاتفاقات ضمان حقوق الاستخدام التقليدي ومعايير الحفاظ على التنوع الجيني الحيواني.
أما في ما يتعلق بالموارد الجينية البشرية، فتشمل الحقوق حماية المعلومات الجينية للأفراد والمجتمعات، وتتطلب المعاهدات والاتفاقات موافقة مستنيرة من الأفراد أو المجموعات قبل استخدام عيناتهم الجينية، وتضمن المشاركة العادلة في الفوائد الناشئة عن استخدام هذه الموارد.
ومن أبرز هذه الاتفاقات "إعلان هلسنكي" وهو عبارة عن مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي وضعتها الجمعية الطبية العالمية عام 1964، وتم تحديثها منذ ذلك الحين مرات عدة كان آخرها عام 2013. ويهدف الإعلان إلى توجيه الأبحاث الطبية التي تشمل البشر، بما في ذلك استخدام الموارد الجينية البشرية، نحو ضمان احترام حقوق المشاركين وسلامتهم.
وخلال عام 1997 صدر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة الإعلان العالمي في شأن الجينوم البشري وحقوق الإنسان. ويهدف الإعلان إلى حماية الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان في سياق البحوث الجينية، وينص الإعلان على أنه لا يمكن استخدام الموارد الجينية البشرية لأغراض تجارية من دون موافقة مستنيرة من الأشخاص المعنيين وتقاسم الفوائد بصورة عادلة.
قضايا وصلت إلى المحاكم الدولية
وواجه الرز البسمتي الذي يزرع تقليدياً في الهند وباكستان، محاولة تسجيل براءة اختراع من قبل شركة أميركية. ففي عام 1997 حصلت شركة "رايس تك" على براءة اختراع في الولايات المتحدة لأرز تم تطويره على أساس سلالات البسمتي، وأثارت هذه القضية غضب الهند وباكستان اللتين قدمتا اعتراضات قانونية على براءة الاختراع. وفي النهاية، تم تعديل البراءة لتشمل فقط أصنافاً معينة وليس كل أنواع الرز البسمتي، مما عُد نجاحاً للدولتين في حماية مواردهما الجينية.
وفي تسعينيات القرن الماضي، حصلت شركة "دبليو. آر. غريس" الأميركية على براءة اختراع لمبيد حشري مشتق من شجرة الصابون، التي تستخدم في الطب التقليدي في الهند. وواجهت هذه البراءة اعتراضات قوية من قبل الحكومة الهندية والمنظمات غير الحكومية، بحجة أن استخدام شجرة الصابون كان معروفاً للسكان المحليين منذ قرون. وفي عام 2000 ألغى مكتب البراءات الأوروبي براءة الاختراع بناء على الاعتراضات المقدمة.
وفي عام 2015 تبين أن شركة "مونسانتو" الأميركية كانت تستغل مورداً جينياً من بذور اليارو التقليدية في جنوب أفريقيا من دون الحصول على موافقة مسبقة أو اتفاق تقاسم الفوائد، ورفعت حكومة جنوب أفريقيا والمنظمات المحلية قضايا ضد الشركة، مما أدى إلى تسوية قانونية تضمنت تعويضات مالية للمجتمعات المحلية.
وتعد قضية "ميرياد جينيتكس" واحدة من أشهر القضايا المتعلقة بالملكية الجينية البشرية. إذ حاولت الشركة الأميركية المتخصصة في مجال البيولوجيا الجزيئية والتشخيص الجيني تسجيل براءة اختراع على الجينين البشريين BRCA1 وBRCA2، المرتبطين بسرطان الثدي والمبيض. وفي عام 2013، حكمت المحكمة العليا في الولايات المتحدة بأن الجينات البشرية لا يمكن أن تكون موضوعاً لبراءة اختراع لأنها منتجات طبيعية، مما شكل سابقة قانونية مهمة في حماية الموارد الجينية البشرية من الاحتكار التجاري.
وتسلط هذه القضايا القانونية الضوء على حجم الأخطار المرتبطة بالقرصنة البيولوجية، والتهديد الكبير الذي تشكله للتنوع البيولوجي والمعرفة التقليدية. ومن خلال التشريعات القوية والتعاون الدولي وزيادة الوعي يمكننا العمل معاً لحماية هذه الموارد الثمينة وضمان استخدامها بصورة عادلة ومستدامة.
صحيح أن المعاهدة الدولية الجديدة لمكافحة القرصنة البيولوجية تمثل خطوة مهمة نحو تحقيق حماية الموارد الثمينة وضمان استخدامها بصورة عادلة ومستدامة، وتعزيز حقوق الملكية الفكرية للموارد الجينية، لكننا ما زلنا في حاجة إلى عمل كثير وفرض قيود أكثر صرامة، إذا كنا لا نريد رؤية نسخ من جميع الكائنات النباتية والحيوانية، وربما من أنفسنا في المستقبل، في كل مكان.