ملخص
الأزمة السياسية في كوريا الجنوبية تهدد مكانتها كحليف استراتيجي للغرب، مما يضعف أمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ ويثير قلق واشنطن والناتو بشأن تأثيراتها المستقبلية.
يدرك المراقبون المتابعون للتطورات في شبه الجزيرة الكورية والمنطقة المحيطة بها، أن الأزمة التي وصلت أصداؤها إلى أوروبا عصر يوم الثلاثاء الفائت، لم تكن وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة تراكماتٍ طويلة الأمد.
وتعود جذور هذه الأزمة إلى الانتخابات التي أجريت في كوريا الجنوبية خلال أبريل (نيسان) الماضي، والتي أفضت إلى نشوء خلاف بين البرلمان والرئيس الذي يتولى السلطة منذ ما يقارب عامين ونصف، ما أدى إلى حالٍ من الجمود السياسي حالت دون تمكن الطرفين من تحقيق أهدافهما.
على الصعيد المحلي، أسهمت سلسلة فضائح طاولت زوجة الرئيس الكوري الجنوبي في تقويض مكانته وإضعاف سلطته. أما على الصعيد الإقليمي، فقد أضاف القرب الجغرافي لهذه الدولة من جارتها المتقلبة كوريا الشمالية - التي تبدو متحالفةً أكثر فأكثر مع روسيا - المزيد من التوتر. وإذا ما أخذنا هذين العاملين في الاعتبار، فيمكن أن ندرك بأثرٍ رجعي أن مكونات حال الطوارئ كانت موجودةً في الأساس.
لكن الأمر بدا بالنسبة إلى معظم دول العالم - ولا سيما في الغرب - وكأن هذه الأزمة ظهرت من العدم، وذلك في المقام الأول لأن كوريا الجنوبية كان يُنظر إليها بإعجاب كبير على أنها مكان مستقر وهادئ في منطقة صعبة وفي عالم سريع التغير. ومع استمرار النزاعات المسلحة في أوكرانيا والشرق الأوسط، والتقدم الميداني الجديد للمتمردين في سوريا، والفظائع المستمرة في الحرب الأهلية السودانية، كانت قضايا عالمية عدة أكثر مداعاةً للقلق، وكانت المخاوف على الساحة العالمية أكبر بكثير مقارنةً بأي اضطراباتٍ سياسية متصاعدة داخل كوريا الجنوبية.
ظلت الديمقراطية في كوريا الجنوبية فعالةً ومستقرةً منذ ثمانينيات القرن العشرين. وقد تعايشت تلك الدولة بسلام مع جارتها الشمالية التي لا يمكن توقع سلوكها والذي غالباً ما يتسم بالذعر والتقلب. وقد رفضت سيول الانجرار إلى استفزازات بيونغ يانغ، وبقيت المنطقة منزوعة السلاح التي تفصل بين الكوريتين - والتي يمكن أن تكون إحدى أكثر النقاط توتراً في العالم - هادئةً بشكلٍ غريب، باستثناء عددٍ قليل من الحوادث المنعزلة.
في المقابل، بنت كوريا الجنوبية نفسها وتطورت إلى اقتصادٍ صناعي مزدهر، وركزت على إنتاج السيارات والسلع الاستهلاكية وتصديرها. وفي الأعوام الأخيرة، اكتسبت أيضاً سمعةً ثقافية - بدءاً من السينما، مروراً بالفنون المعاصرة، وصولاً إلى "موسيقى البوب الكورية" (كي-بوب) K-pop - ما عزز مكانتها على خريطة السياحة العالمية، ومنحها قوةً ناعمة كبيرة. وكانت من بين أوائل الدول التي واجهت تأثير جائحة "كوفيد"، لكنها نجحت نسبياً في إدارة الأزمة، بعد وقوعها بأخطاء في مرحلةٍ مبكرة من تفشي الجائحة.
قد لا يكون مستغرباً في ظل هذه الخلفية، أن ينتشر خبر إعلان الرئيس الكوري الجنوبي عن فرض الأحكام العرفية بهذه السرعة في مختلف أنحاء العالم، مُحدثاً موجةً من الصدمات في مختلف الاتجاهات. ومع ذلك، فإن التطورات التي تلت ذلك، إلى جانب العواقب المستمرة، تقدم مزيجاً من الأسباب التي تدعو إلى الشعور بالارتياح والقلق في آنٍ واحد.
الشعور بالارتياح ينبع من رد الفعل السياسي والجماهيري السريع والثابت على إعلان الرئيس الكوري الجنوبي فرض الأحكام العرفية، التي جاءت فوريةً وحازمة. ففيما تجمعت حشود الناس خارج مبنى البرلمان، تحدى نواب المعارضة بشجاعة القوات العسكرية التي تم نشرها لتنفيذ الأمر الرئاسي. وعقدوا جلسةً طارئة، وقاموا بالتصويت على إلغاء الأمر الرئاسي، وهو ما كان في إطار صلاحياتهم.
المؤسسة العسكرية من جانبها أدركت الواقع الجديد واستجابت له - أو بعبارةٍ أبسط، التزمت القيادة العليا للقوات المسلحة موجبات الدستور - ما أدى في غضون ساعات إلى تراجع رئيس البلاد عن موقفه وإلغاء مرسومه - وسرعان ما استُعيد النظام، سواءٌ في الشوارع أو كما هو منصوصُ عليه في الدستور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما مصدر القلق على الوضع في كوريا الجنوبية، فيأتي من ثلاثة عوامل رئيسة. أولاً، عادت الحالة السياسية، على أفضل تقدير، إلى حال الجمود الذي كانت عليه، مع عدم وجود ضماناتٍ بعدم تصرف الرئيس بشكل متهور كما حدث في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع. فالشعب الكوري الجنوبي يدرك كما المجتمع الدولي أن ما حدث يمكن أن يتكرر مرةً أخرى. وفي أسوأ الأحوال، قد تواجه البلاد اضطراباتٍ سياسيةً لفترةٍ طويلة، وربما مدنية، مع احتمال التصويت على عزل الرئيس، وإجراء محاكمةٍ له بعد ذلك.
العامل الثاني المثير للقلق ينبع من أن إعلان الأحكام العرفية، يرتبط في ما يبدو بشعورٍ بالذعر لدى الرئيس الكوري الجنوبي إزاء نيات بيونغ يانغ. وعلى رغم أنه قد تكون لديه مخاوف من التقارب الأخير بين كوريا الشمالية وروسيا، إلا أنه لمن الخطورة بمكان أن يكون أولئك الذين يتولون مناصب قيادية وطنية عُرضةً لهذا النوع من الذعر.
أما العامل الثالث المقلق فيتمثل في الدور الحيوي الذي تضطلع به كوريا الجنوبية في استراتيجية الغرب الرامية إلى حماية أمنه في مواجهة القوة المتنامية للصين. وعلى رغم أن الاقتصاد الصيني يعاني اليوم من تباطؤ، فإن ذلك لا يوفر سوى شعور محدود بالارتياح، بحيث من غير المرجح أن يتأثر بذلك التوسع الصيني العسكري، ولا سيما في مجال القدرات البحرية. كما أن التحديات الداخلية قد تثير مخاوف لدى النظام غير المستقر من تهديدات، ما قد يدفعه إلى خوض مجازفاتٍ أكبر.
وتشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة التي لديها في كوريا الجنوبية 24 ألف جندي وأكبر قاعدةٍ أميركية في المحيط الهادئ، وتجري تدريباتٍ عسكرية متطورة هناك كل سنة، لم تكن على علم بقرار الرئيس يون سوك يول إعلان الأحكام العرفية، شأنها شأن بقية دول العالم. وفي وقتٍ تُعَد فيه الولايات المتحدة الضامن الأساسي لدفاع كوريا الجنوبية في مواجهة التهديدات المحتملة من كوريا الشمالية، فإن واشنطن تنظر إلى كوريا الجنوبية باعتبارها أحد العناصر الرئيسة الحاسمة في إبقاء الممرات البحرية في شمال منطقة المحيط الهادئ آمنةً للتجارة العالمية، أو في حماية استقلال تايوان.
في حال فقدت كوريا الجنوبية مكانتها كركيزة للاستقرار السياسي وحليفاً قوياً يعتمد عليه، فإن ذلك يُضعف أحد العناصر الأساسية في استراتيجية الولايات المتحدة للأمن في منطقة المحيط الهادئ، وربما يؤدي إلى فقدانه تماماً. وهذا الأمر قد يشكل ثغرة كبيرة في استراتيجية الولايات المتحدة، وعلى نحو متزايد في استراتيجية "حلف شمال الأطلسي"، في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
في الوقت الراهن، قد تكون هذه الفجوة نفسيةً أكثر منها عملية، بحيث بدا أن الأزمة المفاجئة في كوريا الجنوبية - التي نأمل في أن تكون قصيرة الأمد - قد هدأت بسرعة. لكن الأحداث التي تكشفت في كوريا الجنوبية من المؤكد أنها ستثير الشكوك حول استقرار تلك الدولة في المستقبل، وهو ما سيدفع بواشنطن وبمقر "حلف شمال الأطلسي" في بروكسل على الأقل، إلى إعادة تقييم الأمور وإجراء بعض المراجعات المقلقة.
وفي ظل الصراعات المتعددة التي تدور في أماكن أخرى من العالم، فإن آخر ما يحتاج إليه قادة الغرب - أو الرئيس الأميركي الجديد - هو نشوء مصدرٍ آخر لعدم الاستقرار في منطقةٍ كانت هادئةً إلى حد كبير في الأعوام الأخيرة، باستثناء تصعيدٍ غير متوقع من حين إلى آخر من جانب زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون. وتشير أحداث هذا الأسبوع إلى أن كوريا الجنوبية من غير المرجح أن تُعتَبر بسهولة حليفاً مسلماً به في المستقبل المنظور.
© The Independent