Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مآسي النزوح الصومالي خلال الحرب الأهلية في رواية أولى

يرصد صالح ديما مآسي في "مواسم القرابين" العنف في الداخل والتشرد بين البلدان العربية والأفريقية

من مشاهد الحرب الأهلية الصومالية (منظمة الأمم)

ملخص

يسرد الروائي الصومالي صالح ديما في روايته "مواسم القرابين" مآسي الشعب الصومالي خلال الحرب الأهلية وحكايات نزوحه وتشرده بين البلدان العربية والأفريقية.

على رغم أن "مواسم القرابين"، الصادرة عن دار الآداب، هي الرواية الأولى للكاتب الصومالي صالح ديما، فإن إحكام بنيتها، وواقعية أحداثها، وتعدد حكاياتها، وتماسك خطابها، وتقشف لغتها، تجعلها بمنأى عن تعثر البدايات، فتشكل خطوة أولى واثقة لصاحبها على درب الرواية، لا سيما أنه كاتب ومترجم ويكتب في مواقع ثقافية عربية وصومالية وأفريقية مختلفة.

في العنوان يشي التركيب الإضافي بين المضاف "مواسم" والمضاف إليه "القرابين" بأننا إزاء أضحيات معينة تقدم على مذبح الآلهة في مواسم معينة لنيل رضاها أو درء غضبها، وهي طقوس دأبت على ممارستها الشعوب في الأزمنة القديمة، غير أن اقتفاء العنوان في المتن الروائي، من خلال أحداث الرواية، ومن خلال القول "كلنا قرابين وطن متخم بكل الطرق، عدا دروب الحب. وطن كل فصوله فصل واحد، وكل مواسمه موسم واحد، إنه موسم القرابين" (ص 380)، يضعنا إزاء الأثمان الباهظة التي تدفعها الشعوب، من هجرة ولجوء ونزوح، على مذابح الأوطان المبتلاة بالحروب، من خلال التجربة الصومالية، وهو ما نقع عليه في غير مكان من العالم العربي، في هذه اللحظة التاريخية، مما يمنح الرواية راهنيتها وواقعيتها في الوقت نفسه.

يرصد صالح ديما جلجلة اللجوء في الصومال، إثر الحرب الأهلية التي مزقت أوصاله، في تسعينيات القرن الماضي، ومعاناة اللاجئ الذي يلفظه وطنه ولا تقبله أوطان الآخرين، فيلبث معلقاً بين رحيل قسري عن وطن تهجر منه والترحيل عن وطن لجأ إليه، لا يستطيع العودة إلى الأول ولا يسمح له البقاء في الثاني، ويعيش في قلق مقيم. وهو يفعل ذلك من خلال رصد حركة مرقان، بطل الرواية وراويها، بين كيسمايو الصومالية ونيروبي الغينية، مروراً بمحطات داداب، نيروبي، جدة، ممباسا. مع الإشارة إلى أن الكاتب يطلق على كل من هذه المحطات كلمة "التيه" مرقمة، من الأول إلى الرابع، وما قبلهما، مما يشي بأن اللجوء هو نوع من التيه، يتيه فيه اللاجئ عن وطنه ونفسه.

تبدأ الرواية بكابوس يرى فيه بطل الرواية الأربعيني نفسه معلقاً بـ"حبل مشنقة يتدلى من لا نهايات سماء موغلة في البعد"، بتهمة قتل رفيق طفولته محمادي الذي أودى به القصف. وتنتهي بكابوس يرى نفسه فيه يغوص في الأرض، ويحول محمادي دون أن تقوم حبيبته بإنقاذه. وبين البداية والنهاية سلسلة من الأحداث، يطغى فيها الكابوسي على الحلمي، يتمظهر فيها اللجوء بصوره المختلفة، من محطة إلى أخرى، مما يعانيه اللاجئون حول العالم. غير أن هذه التمظهرات، في حالة مرقان وأسرته، تشكل انقلاباً جذرياً في حياة الأسرة التي كانت تعيش في دعة من العيش، قبل اندلاع الحرب، في منزل جميل، في حي علائلي من مدينة كيسمايو، وتتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة، فالجد للأم شيخ قبيلته المهاب المطاع، يأمر وينهى، يفض النزاعات، ويصدر الأحكام العادلة في مجلس العشيرة. والجدة للأم تحنو على أحفادها، وتحسن تدبير الأمور. والأم مترجمة وكاتبة في صحيفة كبرى، تتمتع بالشجاعة والجرأة الأدبية، فتواجه الظالم وتنتصر للمظلوم، وتتصدى للفساد الأمني والقضائي، وتدفع ثمن شجاعتها. والأب يعمل في جدة، ويرسل المال لأسرته للحفاظ على مستوى معيشي مستقر. والأخ الأكبر مولع بكرة القدم، ويتصف بالشجاعة والإقدام، ولا يخشى شيئاً، حتى إذا ما اندلعت الحرب، وتهجرت الأسرة، نكون إزاء وقائع جديدة مختلفة، تتفاوت في قسوتها من محطة إلى أخرى، وتتبلور فيها الشخوص الروائية، مبرزة ما تكتنزه من صفات.

 وقائع اللجوء

في وقائع اللجوء يعاني مرقان وأسرته خلال الرحيل عن كيسمايو السير الشاق تحت عين الشمس ومشاهدة الخراب والنوم في الأحراج والجوع والعطش. ويعايشون البؤس والحر والموت والتخلي والجوع والفقد واليأس وانسداد الأفق ومرارة الإحسان وعبث المسلحين في مخيم داداب الغيني. وتضطر الأم إلى بيع بعض مجوهراتها، وتستأجر دكاناً لبيع العطور، وتواجه فساد الشرطة وابتزازها في نيروبي، بينما يدخل الأخ الأكبر مرسل عالم التجارة، وينخرط في اللعبة التجارية ومقتضياتها، في مدينة هي "مقبرة الأماني"، و"غول جائع"، و"غابة موحشة"، ويتقن أصول اللعبة حتى يصبح جزءاً من الحركة التجارية، ويحقق الأرباح الطائلة، ويرشح نفسه لحاكمية المدينة. وحين ينتهي مطاف اللجوء بالأسرة في مدينة جدة، إذ يعمل الأب، يواجه بطل الرواية عدم التكيف مع الملجأ الجديد والخوف من المستجدات، في مرحلة الصبا، غير أن الصداقة مع تربه السعودي عبدالرحمن والتحاقه بالمدرسة الأهلية يتكفلان بحل هذه المشكلة، حتى إذا ما بلغ مرحلة الشباب، يعاني مشكلة العثور على عمل لافتقاره إلى الأوراق الثبوتية، لكنه حين يعثر على فرصة عمل في معهد الكمبيوتر الذي درس فيه، تأتي "سعودة الإدارة" لتحرمه من هذه الفرصة، مما يضعه أمام معادلة المساواة بين الإنسان والوثائق الإدارية التي يعبر عنها بالقول، "لكن أنا لست الوثائق الإدارية، أنا إنسان، وأنا كما أنا، لا كما تعلن تلك الحزمة من الأوراق" (ص 249)، من جهة، ويجعله يطرح سؤال الهوية، "هل أنا صومالي بحكم طبيعتي؟ أم سعودي بحكم تطبعي؟ أم أنا الاثنان معاً؟ أو ربما أنا هجين بلا ماض، وبلا حاضر، وبلا مستقبل أيضاً؟" (ص 248)، من جهة ثانية. وفي المقابل، تواجه الأسرة خطر الترحيل الدائم والخوف من دوريات البحث عن الإقامات لافتقارها إلى أوراق الإقامة، ويكون لتوسلات الأم أمام الضابط المتخصص دورها في تجنيب الأسرة تجرع تلك الكأس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 في غمرة اليأس الذي يعانيه بطل الرواية بعد إقالته من عمله، تشكل دعوة الأخ الأكبر في نيروبي إياه، للالتحاق به والعمل معه في مشاريعه الآخذة في التوسع، نقطة تحول في مجرى حياته، وخشبة خلاص مما يتخبط فيه. ويأتي لقاؤه في المطار بالفاتنة السمراء ميرسي ليشكل رأس خيط سردي جديد يقود إلى علاقة حب بين الطرفين، لا تؤتي ثمارها المرجوة لتحدرها من شمال الصومال وانتمائه إلى جنوبه، مما يفتح جراح الحرب الأهلية من جديد. وعلى رغم أن ميرسي تبادله الحب، فإنها ترفض الاقتران به خوفاً عليه من إخوتها، وتقرر العودة إلى هرجيسا عاصمة شمال الصومال، فيشعر أنه يغرق وليس ثمة يد تمتد لإنقاذه. وبذلك، لا تقتصر تداعيات الحرب على تهجير الناس ودفعهم إلى التشرد تحت كل سماء، بل تتعدى ذلك إلى وأد الحب في مهده والقضاء على أي إمكانية لاستعادة الوحدة الوطنية.

هذه الأحداث ينتظمها خطاب روائي يسمي فيه الكاتب الأشياء بأسمائها، فيذكر المدن والشوارع والأحياء والمقاهي والمطاعم، ويحدد تواريخ الأحداث، وينسب الأفعال المناسبة إلى الشخصيات بما يتناسب مع الوظيفة الاجتماعية للشخصية، مما يجعلنا إزاء نص واقعي بامتياز، يكثر فيه الوقائعي ويقل المتخيل، هو أقرب إلى سيرة روائية منه إلى عمل روائي. على أن واقعيته لم تنتقص من حيويته، تلك الناجمة عن تحرك مكوك النص بين مجموعة من الثنائيات، النمطية والزمنية والمكانية والبشرية، من قبيل: السرد/ الوصف، الوقائع/ الذكريات، الحاضر/ الماضي، جدة/ كيسمايو، المدينة/ القرية، مرقان/ مرسل، الأب/ الأم، الجد/ الجدة، وغيرها. وهو تحرك متعدد الاتجاهات يتمخض عنه النسيج الروائي المحكم، مما يجعل "مواسم القرابين" فرصة للقراءة الماتعة والتزجية المفيدة للوقت.     

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة