ملخص
فاجأ المخرج الاميركي الكبير فرنسيس فورد كوبولا الذي يبلغ الخامسة والثمانين، جمهور مهرجان "كان" بفيلمه الجديد "ميغالوبوليس" الذي يفيض بجماليات بصرية ومشهدية، ويقدم رؤية فريدة الى العام الراهن والى اميركا بين حركتي نهوض وانحطاط.
يصعب الحديث عن "ميغالوبوليس"، فيلم المخرج الأميركي فرنسيس فورد كوبولا المنتظر الذي شاهدناه أمس في مهرجان "كان" السابع والسبعين (14 - 25 مايو /أيار)، فيكاد يستحيل إيجاد نقطة محددة ننطلق منها للاحاطة بكل جوانب فيلم متشعّب أُنجِز "خارج السيستم" ويوفّر تجربة بصرية مذهلة نتعامل معها بكل حواسنا، خصوصاً اذا كان لكاتب المقال هاجس ان ينقل إلى قارئ المقال ما شعر به خلال المشاهدة، وهو يعيش تفاصيل هذا الفتح السينمائي طوال أكثر من ساعتين من رحلة تتجاوز المتوقّع. فالسينما أولاً وأخيراً، أحاسيس متداخلة ومتشابكة، ولا يمر التأمّل والتفكير الا عبرها.
ينافس “ميغالوبوليس” على "السعفة الذهبية" ويعيد صاحب "العراب" و"القيامة الآن" إلى “الكراوزيت” بعد نحو نصف قرن على فوزه بجائزة المهرجان الأكبر، وهذا وحده حدث في ذاته يستحق الاحتفاء به. لكن التعمّق في الفيلم يجعلنا نصرف النظر عن هذه الجزئية، وبعد السكرة لا بد ان تأتي الفكرة. في الواقع، كوبولا ذو الخمسة والثمانين عاماً، قدّم وهو في مثل هذا العمر فيلماً يصعب على الذين في العشرين إنجازه فكيف بالأحرى تخيله. انه من هذا النوع من الأفلام التي يحتاج الفنان إلى ان يعيش حياة كاملة تفضي به في نهاية الأمر إلى الحكمة والبصيرة اللتين تخولانه ان يترك خلفه مثل هذه الوصية السينمائية التي تؤكد، مرة جديدة ان المخرج الكبير لا يزال أكثر شباباً وبراءةً وشفافيةً من كثر، والأهم انه استطاع الاحتفاظ بهذا الشباب وهذه النضارة رغم العقود الثمانية التي عبرها بحلوها ومرها.
كوبولا لا يزال طالباً في مدرسة السينما، يختبر بثقة عالية وحماسة شديدة وشغف أكيد كل احتمالات اللغة السينمائية. في الفيلم كم هائل من اللحظات التي تتراءى خلفها بهجة الشخص الذي "يؤفلم" الحياة والبشر. أما الطموح الذي لا حدود له عند كوبولا، وقد احتاجه لتحقيق هذا المشروع، فينعكس في كلّ لقطة من الفيلم.
فاجأنا كوبولا بعمل آخر لا يُصنَّف، ينظر إلى الوجود بكليته (على طريقة ترنس ماليك وغودار)، من خلال نص حر على قدر كبير من الجنون والعبث والجرأة والانفتاح على العالم. عمل يملك أبجديته، جمالياته، خطابه، يخلط الأوراق بين التجريب والنمط الهوليوودي الذي يخاطب الملايين. عمل لا يحكمه قانون، يقع خارج أي موضة أو تيار، يتبلور في نطاق من الاستقلالية الفكرية والفنية التي لطالما سعى اليها كوبولا، مؤكداً على الدوام ان "العراب" كان محض مصادفة وقد أساء اليه، بمعنى انه لم يطمح يوماً الا ان يكون مخرجاً مستقلاً على غرار معلّمه روجر كورمان الذي غادرنا قبل أيام.
”ميغالوبوليس” مفصّل على قياس صاحبه، بل هو بورتريه له، لأفكاره وتطلعاته، عمل يمعن في شخصانية تتجسّد على الشاشة من خلال الممثّل آدم درايفر، النابغة الذي يملك رؤية محددة للمدينة الفاضلة التي على الناس ان يعيشوا فيها، بقعة جغرافية تبث الحلم في نفوس قاطنيها. بطلنا هو أيضاً مخترع لمادة ثورية لا يمكن تلفها، لكنه يملك قدرة إيقاف دوران الزمن. رؤيته هذه تشعل احتراباً بينه وبين عمدة المدينة التي بحسبه، يجب ان تكون أشبه بملهى ليلي. الفكرة التي تُعتبر عادةً تفصيلاً في أفلام كثيرة، تخطف الفيلم بأكمله، لترينا مدى الاصطفافات والانقسام الذي نعيشه في كل المجالات الحيوية، ومن سخرية القدر ان هذا الانقسام ينسحب أيضاً على الفيلم.
ما يصوّره كوبولا هو نظرتان إلى العالم، يختار معسكره في واحدة منهما. يفتح النار على كل شيء يغذّي حرائق عالمنا الحالي، ولكن في محاولته لاخماد النيران رغبة في الاصلاح، وإيمان عميق بالإنسان. المستقبل الأفضل في نظره يضمنه الفنّ والحبّ والعدالة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا كله في فيلم يحمل أصداء زمن ماض وهواجسه وأحلامه وفراديسه الإصطناعية وأوهامه، لعلها الفترة التي شهدت بزوغ الفكرة في مخيلة المخرج. هل يصح قولها اليوم؟ بكل تأكيد. فالمستقبل ملك الحالمين، وليس الذين ماتت فيهم الرغبة في التغيير. وكوبولا يعلم ذلك جيداً ويحاول ان يقولها بصراحة وبصوت عال. قد لا يعجب البعض هذا الكرنفال الـ”باروك”، وقد يخرج آخرون بطاقة الخيبة من جيوبهم، ولا نعرف ما كانت توقعاتهم. لكن هذا نصيب يلقاه أي عمل فني كبير يعبر فوق أسوار الزمن الذي هو فيه، يكون رأسه في المستقبل وجسده في الحاضر. هذا ليس جديداً عند كوبولا، فهو لطالما كان رؤيوياً، ثمة عدد من أفلامه لم يُفهم الا بعد سنوات. ونعم، قد نخرج من الفيلم حائرين ومربكين، لأننا لن نستوعب كل شيء، وربما حتى كوبولا لم يستوعبه. لكن ما هو الفن سوى هامش من الغموض الذي يترك العديد من الأسئلة الشائكة معلقة. كما ان البعض سيشعر انه في سباق محموم مع تطورات فيلم ذي إيقاع جهنمي، يموضعنا في فوضى خلاقة، كحال العالم الذي نعيش فيه حيث يطرح كوبولا نفسه، معلّماً تنويرياً وفيلسوفاً، قلبه على الناس والشرط الإنساني ككل.
يحاول ان يأتي بأشياء كثيرة متداخلة، من دون ان يبدو بيداغوجياً، إنما من خلال الفن الذي عشقه وتحدّث لغته وفهم أسراره، معيداً ايانا إلى روما وقافزاً من هناك إلى أميركا الحالية، ليطرح سؤالا حاسما: هل يمكن بعضة أشخاص ان يتسببوا بانهيار حضارة ما؟ نعم، مهما حاول اللف والدوران حول اطروحاته، فهذا فيلم عن أميركا، عن صعودها وانحطاطها، بحسب كوبولا.