ملخص
بلغت ترجمة رواية "بيدرو بارامو" للكاتب المكسيكي الرائد خوان رولفو إلى العربية أكثر من 4 ترجمات. ما سر الإقبال العربي على ترجمة هذه الرواية التي شغلت رائد الرواية الواقعية السحرية ماركيز وتركت فيه أثراً عميقاً وبالغاً؟ ماذا تحوي هذه الرواية وعم تتحدث؟ ومن هو كاتبها خوان رولفو الذي ظل فترة طويلة شبه مجهول؟
من الصعب أن تقرأ رواية "بيدرو بارامو" للكاتب المكسيكي خوان رولفو من دون أن تشعر بالانقباض، وعلى رغم ما يكتنفها من غموض، فأنت تواصل القراءة تحت تأثير سحر ما وقعت في أسره، بل يكاد يتضخم هذا الشعور داخلك، وتفكر بجدية في إعادة كل ما قرأته لتوك. والنصيحة التي توجه دوماً إلى القارئ هي أن يستمر في ترديد تعاويذ رولفو المخيفة حتى السطر الأخير، حين ينهار "بيدرو بارامو"، مثل كومة من الحجارة أمام خادمته المخلصة داميانا وأمامك انت القارئ. ومن تلك الحجارة المفككة، يمكنك إعادة البنيان على طريقتك ووفق تجاربك الشخصية، وحينها ستفكر وحدك من دون نصيحة من أحد، في قراءتها مراراً وتكراراً، لا بغرض الخروج بمعنى هذه المرة، بل لاستبقاء لحظات التوتر واستعذاب الألم.
لعل كاتباً بقامة غابرييل غارثيا ماركيز، لم تجلب عليه تلك الرواية إلا الأرق في الليلة التي وقعت في يده. كان الكاتب النوبلي يعاني احتباساً إبداعياً بعد صدور روايتيه، "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، و"جنازة الأم الكبيرة"، وبعد أن أعياه البحث عن طرق جديدة للكتابة أو حتى جذوة تشعل كومة الحطب الخامدة في رأسه، إذا بصديقه الكاتب ألبارو موتيس يفاجئه بزيارة ومعه رزمة من الكتب صعد بها الطوابق الستة على قدميه، وتناول من بينها أصغر كتاب ورماه صائحاً: خذ هذه اللعنة واقرأها كي تتعلم!
يصف ماركيز ويلات قراءة مثل هذه الأعمال المسكونة بالأشباح: "أخذتها، ولم أنم ليلتها إلا بعد أن قرأتها مرتين، وظللت طوال ستة أشهر غير قادر على قراءة أي عمل آخر"، لكن ما حدث بعدها كان بمثابة معجزة، "لقد عثرت على صوتي" وأنا أحاول اكتشاف الطرق السرية التي انتهجها رولفو في كتابة روايته الوحيدة، على مدار عام كامل لدرجة أنني أصبح بوسعي "قراءة الكتاب كاملاً من الأمام إلى الخلف وبالعكس من دون خطأ واحد". ومن رحم كومالا، البلد المبتلى بالإقطاعي "بيدرو بارامو"، خرجت ماكوندو، القرية الملعونة في رائعته "مائة عام من العزلة".
"عابر سرير"
المدهش أن رولفو حين نشر روايته عام 1955، لم يتلق سوى ردود فاترة من ناشره بسبب مبيعاتها المؤسفة. قد يرجع ذلك في المقام الأول إلى عدم شهرته ككاتب لم ينشر سوى مجموعة قصصية واحدة هي "السهل يحترق"، فضلاً عن أن رولفو لم يكن يعبأ بالشهرة ولا بالحياة الاجتماعية والأضواء. كان دائماً يجلس في أحد المقاهي في الركن الأكثر انعزالاً، وإذا ما دنا منه أحد، ظهر عليه النفور والانسحاب. غير أن الزمن وحده تكفل بتصحيح الخطأ، وفي ظرف سنوات قليلة ترجمت الرواية إلى 60 لغة وباعت أكثر من 10 ملايين نسخة، كما وضعت في قائمة أهم 100 كتاب في تاريخ الأدب العالمي.
تبدأ الرواية بشاب على قارعة الطريق، نعرف لاحقاً أن اسمه خوان بريثيادو، نظنه الراوي حين يعلن بضمير المتكلم: "جئت إلى كومالا لأنهم قالوا لي إن والدي يعيش هنا، شخص يدعى (بيدرو بارامو). أمي قالت لي ذلك". فجأة تظهر الأم في لحظة احتضارها توصيه بالبحث عن أبيه واسترداد حقه، "خذ منه غالياً ثمن النسيان الذي خلفنا فيه يا بني". بينما يحاول تمليص يده من يديها الميتتين، مؤكداً أنه سيفعل، فهل حقاً استطاع تخليص يده، أم ذهب بدلاً منها إلى العالم الآخر؟
الطريق إلى كومالا يأخذ تدريجاً في الانحدار إلى أسفل، مدحرجاً معه خوان وبغالا يدعى "أبونديو" التقاه وحميره في مفترق دروب، وكأنه ظهر بغتة لإرشاده في رحلة الهبوط الوعرة. في الوقت نفسه يشتد قيظ أغوسطوس (آب) مسمماً برائحة العفونة المنبعثة من نبتات الصباني، وكلما اقترب أكثر من وجه القرية الكئيبة أحس بالهواء يفرغ من حوله ولا يبقى سوى الصهد الخالص، على عكس الصورة الحالمة التي التقطها من عيني أمه، يجيبه البغال: إنه الزمن يا سيدي.
بعد هبوط طويل، يتخلله كثير من الصمت نعرف من أبوندو أن "بيدرو بارامو" مات، وأنه أيضاً ابن الرجل نفسه، فهذه الأرض ملك له، كما أن معظم أهل كومالا أبناؤه، والأمر، كما يقول "إن أمهاتنا، بسوء طالع ولدننا في سرير عابر". فإذا بسرب من الغربان يقطع السماء مصدراً نعيقاً.
ينبهه أبونديو قبل أن ينعطف بحميره أنه لن يمكث هنا إلا ما يستغرق إلقاء نظرة، ويقترح عليه النزول عند امرأة تدعى دونيا إدفيغتس إذا كانت لم تزل حية، فالقرية خاوية ولم يعد هناك من يسكنها. لهذا يلفه الصمت في شوارع كومالا وقت الأصيل، وقت يعلو فيه صياح الأطفال وصخبهم. لكن الغريب أن كومالا بأسرها لا يوجد فيها طفل واحد. وحين يطرق باب المرأة المقصودة يحس بيده في الفراغ وينفتح الباب من تلقاء نفسه بينما تقف إدفيغتس أمامه تخبره بأنها كانت تنتظره، لأن أمه التي كانت صديقتها الحميمية، أخبرتها بأنه سيأتي، "لكن أمي ماتت؟ ترد المرأة: هذا ما يفسر صوتها الضعيف كما لو أنه قطع مسافات طويلة".
وما إن يجتاز العتبة حتى ندخل معه مدينة الأشباح، حيث نتبين لاحقاً أن الغرفة التي بات فيها ليلته، شنق فيها أحد ضحايا بدرو بارمو وتركت جثته هناك لتجف خلف باب مغلق ضاع مفتاحه إلى الأبد. فما حقيقة كومالا التي أخبرته أمه أن عليه اجتياز اختناق لوس كوليموتيس ليصلها ومنحته عينيها كي يرى بهما؟
في الإسبانية: لفظة مشتقة من كومال، وهي مقلاة تستخدم لتسخين خبز التورتيلا، وفي الرواية "تقبع فوق جمار الأرض، في فم الجحيم تماماً"، مهجورة وحيدة، بيوتها خاوية وأبوابها المشققة غزتها عشبة الحاكمة، وصفها أبونديو له بأنها وباء، لا تنتظر إلا أن يذهب الناس حتى تهاجم البيوت.
شيء من الخوف
ينتقل السرد من دون إشارة عقب لقاء خوان بالمرأة، إلى "بيدرو بارامو" وهو ما زال طفلاً يطير طائرته مع سوزانا المبللة الشفتين، وكأن الندى وضع قبلته على فمها، ثم تتواصل ذكرياته عبر الرواية من دون أن ينتبه إليها القارئ لأنها تقتحم الحاضر وتدل عليه، فهي تفسر كيف تحول من طفل بريء لا يلوي على شيء، إلى طاغية، عقب مشهد استيقاظه ذات ليلة بلا نجوم، على صوت نحيب أمه "لقد قتلوا أباك؟ وأنت يا أمي، من الذي قتلك؟" على رغم أن الأب لم يكن المقصود بالرصاصة في حفلة الزفاف، ينتقم بارامو من كل شخص حضر الحفلة ليبدأ عهد الرعب. يستولى على الأراضي ويقتل كل من يقف في طريقه ويغتصب النساء. وحين يذكره أحد رجاله بالقوانين، يتساءل باستنكار: "أي قوانين؟ من الآن فصاعداً، سنكون نحن من يسن القوانين".
ولد خوان رولفو عام 1917 في مدينة سايولا الفقيرة القاحلة. كان أهم ما يميز سكانها هو رغبتهم في الفرار من العنف وقسوة الطبيعة وإهمال السلطات. وعلى رغم ذلك، ظلوا ملتصقين بسهلهم المحترق وأراضيهم التي تصحرت، مذعنين للموت بلا أدنى مقاومة. عندما كان في السادسة من عمره، قتل والده على يد قطاع طرق، وهو الحدث الذي قلب حياته رأساً على عقب، ثم ماتت أمه وهو في الثامنة بعد معاناة مع المرض. هكذا قضى سنوات طفولته وصباه في دار للأيتام، وحين قدر له أن يعترك الحياة، اختار العمل في أرشيف الهجرة لأنه وجده الطريقة المثلى كي يبقى هادئاً ومنسياً، يقول في حوار سابق معه: "إنهم يستبدلون الوزراء والموظفين المهمين، أما نحن الأرشيفيون، فينسوننا".
باستثناء أبونديو، فإن نساء كومالا هن من يتولين إرشاد بطلنا في رحلته الغرائبية، أصواتهن المعذبة تحكي ما خفي من أوضاعهن المزرية، وتعكس وجه المكسيك بكل ما يشوهه من عنف وجريمة وفقر. أدوفيخيس مثلاً، أول امرأة تستضيفه في كومالا، يتبين أنها ماتت منتحرة بعد أن أعطت لرجال كومالا كل ما لديها، حتى إنها منحتهم ابناً ووضعته أمامهم ليعترف به أحدهم، لكن أياً منهم لم يفعل. عندئذ قالت لهم: في هذه الحالة سأكون أنا أباه أيضاً، مع أن الصدفة شاءت أن أكون أمه. وعندما تذهب أختها إلى القس ليخلص روحها المعذبة، يصر على الرفض بذريعة أنها تصرفت ضد إرادة الرب وماتت منتحرة.
بحر من الوحل
أما أخت دونيس التي فوجئت بأخيها يتخذها زوجة، تقول لخوان "إنني هنا حيث تراني، هنا دائماً... حسن، ليس دائماً. منذ أن جعلني امرأته فحسب. منذ ذلك الحين وأنا أقضي الوقت حبيسة لأني أخاف أن يروني... ألا ترى الخطيئة في وجهي؟ ألا ترى هذه البقع البنفسجية التي مثل قروح الجرب، تغطيني من أعلى إلى أسفل؟ وهذا من الخارج فحسب، أما من الداخل فإني صرت بحراً من الوحل. وما إن يمر المطران بالقرية الملعونة حتى تستغيث به كي ينقذها، أو يتمم زواجها من أخيها، فإذا به يولي هارباً، مؤكداً أنها لن تصعد أبداً إلى ملكوت السماء أو تنال الغفران، ستظل روحاً معذبة على الأرض بخطيئتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سوزانا هي المرأة الوحيدة التي تطرد القس لأنها ليست في حاجة إليه. إنها لا تنتمي إلى هذا العالم، وهذا ما يفسر هيام "بيدرو بارامو" بها وقضائه العمر في البحث عنها وتتبع أثرها، بعد أن رحلت مع أبيها عن القرية. تحكي سوزانا من تابوتها قصة أخرى عن العنف، ولكن هذه المرة من جهة الأب، حين يطلب منها أن تنزل مقبرة بعد أن يربطها بحبل بحثاً عن كنز، وعلى رغم حزوز الحبل التي أدمت يديها وخصرها، ظلت تتشبث به، فهو وسيلتها الوحيدة للعبور بين عالمين. بعد مشقة طويلة ورعب لا يحتمل، لا تجد الطفلة سوى جثة فتناولها لأبيها تحت وقع صراخه الرهيب قطعة قطعة، الجمجمة التي تتفتت وأصابع الأقدام. "عندئذ لم تعد تعرف شيئاً عن حالها". إنها الزوجة الأخيرة للزعيم التي لم ينلها أبداً، فقد ظلت تتقلب على فراش الزوجية بذهولها وكوابيسها المحتدمة بينما يراقبها بارامو من بعيد، ويحاول جاهداً فك شيفرة كوابيسها قبل أن تموت هي الأخرى. ويلحظ سكان كومالا انطفاء الضوء في نافذتها لأنها عاشت تخاف الظلام ولا تطفئ النور مطلقاً.
استيقظ الناس في الفجر على قرع النواقيس في كل الكنائس المجاورة، ظن البعض أنه نداء للقداس الأكبر، لكن القرع استمر حتى الظهيرة، وكان يشتد أكثر فأكثر إلى أن تحول إلى نواح أصوات ضاجة. وبعد ثلاثة أيام من القرع المتواصل أصيبوا بالصمم. في الوقت نفسه بدأ آخرون يتوافدون من أماكن أخرى وقد جذبهم قرع النواقيس المتواصل. جاء سيرك أيضاً ومعه بهلوانات وكراس طائرة. وقدم موسيقيون. وانتشرت ألحان السريناد. وشيئاً فشيئاً تحول الأمر إلى مهرجان. ولما لم يكن هناك وسيلة لجعلهم يدركون أن النواقيس تقرع لإعلان الحداد، أقسم "بيدرو بارامو" أن ينتقم من كومالا بأسرها، وأن تموت قرية بأكملها لأنها لم تحزن لموت حبيبته، وشيئاً فشيئاً لم يعد الناس يجدون ما يقتاتون منه في زمن بارامو الذي يعني اسمه في الإسبانية "السهل القاحل".
يموت خوان في منتصف الرواية لأنه لم يحتمل همسات الموتى، وبعد أن يدفن جوار امرأة تدعى دوريتيا، تتولى هي تفسير أصوات المطرودين من الفردوس، ليكتمل التاريخ العنيف والمظلم لكومالا، ولكن هذه المرة من تحت الأرض، حيث يحس بدبيب الأقدام فوق جثتيهما الممددتين. وكما بدأت الرواية بالبغال بونديو، تنتهي به، ولكن في زمن آخر، وتحديداً لحظة موت زوجته ريفوخيو، وحاجته إلى كلفة دفنها. فإذا به يذهب إلى أبيه "بيدرو بارامو" كي يستجدي صدقة، لكنه يظن أنه جاء ليقتله، فتشرع خادمته في الصراخ، ويقتل بونديو في اللحظة التالية على يد رجاله، وهذا يعني أن من قاد خوان في رحلته إلى الجحيم كان بدوره شبحاً.
برواية وحيدة استطاع خوان رولفو الحصول على لقب الأب الروحي للواقعية السحرية، واللافت في أمره أنه لم يتأثر بصياح الوسط الأدبي الذي لم يكف عن مطالبته برواية جديدة، واستفزازه حتى يفعل. وحين سألوه بنفاد صبر، لماذا لا تكتب رواية جديدة رد ببساطة: "لأن العم ثيلرينو مات، هو من كان يلقنني القصص. كان يمشي معي وهو يتحدث، وكان كذاباً كبيراً".