Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم انقلب "دون جوان" على مصيره في نص سويسري غاضب

بطل ماكس فريش الأسطوري يتزوج تخلّصا من النساء

ماكس فريش (1911 – 1991) (موقع Wikimedia)

في جملة حوارية ظريفة كتبها غراهام غرين لواحد من مشاهد فيلم "الرجل الثالث"، يتساءل البطل بازدراء عما إذا كانت سويسرا قد اخترعت عدا الديمقراطية سوى عصفور ساعة الحائط! والحقيقة أن المعنى المضمر هنا يحمل افتراء كبيراً. فسويسرا اخترعت أشياء كثيرة تعصى على التعداد، لكنها أنجبت كذلك مبدعين ومفكرين، بعضهم من أهم ما عرفه القرن العشرون. وحسبنا هنا أن نذكر بعض الأسماء ولا سيما اسما فردريك دورنمات وماكس فريش في مجال الأدب والمسرح، حتى تتضح الصورة بعض الشيء. ولئن كنا أشرنا هنا إلى ماكس فريش بصورة خاصة فما هذا إلا لأنه كان واحداً من كبار الكتّاب الأوروبيين في القرن الفائت، ولا يمكن ذكر شخصية "دون جوان" من دون التوقف عند كونه واحداً من الكتّاب الذين جعلوا لتلك الشخصية عملاً بديعاً يكاد يقف وحده بصورة استثنائية بين عشرات الـ"دون جوانات" الذين لم يتوقف المبدعون عن تصويرهم في أعمالهم منذ ما يقارب الخمسمئة عام. فلئن كان دون جوان الشهير الذي لا يزال المؤرخون في حيرة من أمر نسبه: هل هو برتغاليّ الأصل أو إسبانيّ أم تراه ألمانياً؛ قد رمز دائماً إلى "الفحولة المطلقة والتراجيديا الممتزجة بكوميديا حبّ الحياة والتوجه للتمتع بملذاتها ولو إلى حدود الفجور؛ ولئن كان مبدعون كبار من المؤسس تيرسو دي مولينا، الذي كان أسقفاً في حقيقته، إلى موليير وبوشكين وموتسارت وعشرات غيرهم، قد وضعوا تواقيعهم على أعمال يقوم دون جوان هذا بالدور المحوري فيها مشددين على فسقه ومطاردته للنساء وتخريبه للبيوت العامرة وصراعه مع شبح أبيه، فإن ماكس فريش آثر أن يسلك طريقاً مغايراً تماماً، يعكس به رأساً على عقب شخصية الزائر الشهير.

الهروب من الهوية

في مسرحية ماكس فريش التي قُدّمت للمرة الأولى عام كتابتها 1953 في برلين، لدينا دون جوان نفسه، لكنه لا ينفق وقته في مطاردة النساء ولا حتى في التجاوب مع مطاردتهن له. بل إنه يبدي سأمه من ذلك كله. إنه هنا رجل هادئ يعرف سمعته الأدبية جيداً، ويعرف أن تلك هي هويته التي لا يجدر به أن ينفكّ عنها، فهي كالقدر المرسوم، ما إن كُتبت مرة في سجل أقداره حتى يتعيّن عليه أن يستجيب مضيفاً إلى الدون جوانات السابقين واحداً جديداً. غير أن صاحبنا هذا هنا في هذه المسرحية الكوميدية ذات الفصول الخمسة، يقرّر أن يتمرّد على ما رُسم مسبقاً له. لن يلعب الدور. فهو عاشق للهندسة وليس عاشقاً للنساء وتتحلّق المسرحية كلها من حول هذا التناقض بين هويته وإرادته، ويعرف متابعو أدب فريش ومسرحه أن ذلك التناحر بين الهوية والإرادة كان دائماً الموضوع الأثير في أعماله، نجده في روايات له مثل "هومو فابير" و"ستيلر" وفي معظم مسرحياته. علماً بأنه غالباً ما يحدث لشخصياته المتمردة على هويتها أن تُهزم في نهاية الأمر، ولكن أبداً بفعل تقاعس ذاتي بل بالتحديد لأننا، كما يرى فريش، نعيش في عالم ينكر علينا ذاتيتنا ويريد أن يواصل تحديد هويتنا. ومن هنا تكمن الأهمية القصوى في تملّص دون جوان عنده من هويته وتمكّنه من فرض إرادته في نهاية المطاف، ولو باللجوء إلى الزواج كحلّ يقيه تكالب النساء عليه! ويعينه في التصدي على مطاردتهن له!

للوهلة الأولى قد يبدو الأمر على شكل مزحة، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، بل هو نوع من انتحار داخلي هرباً من مصير لا يختاره الإنسان لنفسه، ما يجعل الحل، على طرافته، نوعاً من الاستجابة لتلك الانهزامية التي غالباً ما طبعت أعمال فريش.

مهما يكن نعرف أن فريش الذي كان يعتبر امتداداً لبريخت كان يقول لمَنْ يسأله عن أسلوبه "تريدون أن تعرفوا، في نهاية الأمر، ما هو أسلوبي في الكتابة المسرحية؟ حسناً، إنه بريخت ناقصاً الشيوعية». والحال أن فريش منذ تعرّف إلى صاحب "دائرة الطباشير القوقازية" لم يكفّ لحظة عن الإعجاب به وبكتابته المسرحية، وإن كان قد أخذ عليه دائماً "حماسه الثوري" و"نظرته الطفولية إلى دور المثقف في المجتمع"، بحسب تعبيره. إذن، فما الذي كان يجمعه ببريخت؟ بكل بساطة، نقده الحاد للشروط الاجتماعية القائمة، إنما من دون أن يؤمن بإمكان حدوث أو نجاح أي ثورة. مقابل تفاؤلية بريخت، إذن، لدينا تشاؤمية ماكس فريش.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بدايات مع إبسن

والحال أن ماكس فريش، حين رحل عن عالمنا عام 1991، وهو في الثمانين من عمره، كان في وسعه أن يلاحظ كيف أنه كان على حق بصدد نظرته إلى مستقبل العمل الثوري، بينما كان أستاذه الكبير على خطأ.

ماكس فريش الذي رافق القرن العشرين طولاً وعرضاً كان إلى جانب فردريك دورنمات، واحداً من كاتبين عرفا كيف يعيدان لسويسرا اعتبارها كأمة يمكنها أن تنتج مبدعين، وُلد ابناً لمهندس من أصل نمساوي ولأم سويسرية رسامة، وكان في السادسة عشرة من عمره حين حاول كتابة المسرحية للمرة الأولى، فكتب مسرحية "فولاذ" التي بعث بها إلى ماكس رينهاردت الذي رفضها. لكن ذلك لم يردع كاتبنا الشاب، إذ سرعان ما عكف على قراءة إبسن ثم كتب مسرحية فكاهية عن الزواج. وفي الوقت نفسه تابع دراسته الجامعية فنال أولاً شهادة التخرج في الأدب الألماني، لكنه انصرف بعد ذلك إلى الصحافة وبدأ يكتب القصص القصيرة التي عاد وجمعها تحت اسم "أحب ما يحرقني" (1943) ثم تحت اسم "جواب طالع من الصمت". لكنه بعد ذلك عاد ليدرس الهندسة المعمارية التي جعل منها مهنته حتى عام 1955.

على خطى بريخت

بالنسبة إلى المسرح، ظل ما يكتبه ماكس فريش بدائياً وتجريبياً ويشكّل نشاطاً ثانوياً بالنسبة إليه، حتى كان لقاؤه ببرتولد بريخت ونمت صداقة بين الرجلين، أنتجت لدى فريش رغبة في الكتابة للمسرح، ولكن للإذاعة أيضاً. وهكذا راحت تتتالى مسرحياته التي ترجمت وراحت تقدم على خشبات العديد من البلدان، ما ساعد فريش على تحقيق هوايته بالسفر والتجوال الدائمين. وهو كتب أكثر من 12 تمثيلية للمسرح والإذاعة، بالتواكب مع كتابته للمقالات واليوميات والروايات والقصص.

أول مسرحية كبيرة كتبها فريش كانت "سور الصين"، التي سار فيها على خطى مسرح بريخت الملحمي، وقدّم فيها شخصيات تاريخية تستخدم الأقنعة والأقوال المأثورة للتعليق على أحداث العالم التاريخية، وفي المقابل وضع فريش شخصية رجل معاصر، راح بدوره يعلّق على ما تقوله الشخصيات ذات الأقنعة، ويحاول – عبثاً- أن يبدّل من مجرى التاريخ.

عجز المثقفين عن لعب دورهم

هذه العبثية المرتبطة بالدور "البلاجدوى" الذي يلعبه المثقف كانت على أي حال الهاجس الرئيس الذي طبع مواضيع كتابة فريش، إذا استثنينا مسرحيته الواقعية "فيما انتهت الحرب" (1948) التي تدور أحداثها في برلين إثر انفضاض الحرب العالمية الثانية.

الأشهر بين أعمال فريش كانت مسرحيات "بيدرمان" (1958) و"باندورا" (1961)، و"دون جوان أو عاشق الهندسة" بخاصة، التي يقدّم لنا فيها كما أشرنا، دون جوان كعالم رياضيات لا وقت لديه يضيعه مع النساء، لذلك يحاول أن يهرب من الدور التاريخي المناط به. أما آخر مسرحية كتبها فريش فكانت "سيرة" (1968) وهو وصل فيها إلى ذروة تعبيره عن عجز الإنسان عن تغيير مسار حياته، بعد أن كان قد وصف في مسرحيات سابقة عجز ذلك الإنسان (لا سيما المثقف) عن تبديل مجرى التاريخ. عندما رحل ماكس فريش عن عالمنا، كان يعتبر واحداً من كبار كتاب المسرح الأحياء، على الرغم من قلة إنتاجه، وكان الكثيرون يتنبؤون له بأن تكون جائزة نوبل الأدبية من نصيبه ذات عام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة