Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المرضعة المستأجرة"... مهنة استفاد منها النبلاء قبل الفقراء

برزت المهنة في عصر النبي محمد وبدأت بالتلاشي في القرن الـ19

سلطت اللوحات الانطباعية الضوء على مهنة مرضعات أطفال الأغنياء في القرن الـ19، واللوحة للرسامة الفرنسية بيرت موريزو (Wikimedia)

تتناول الآية السادسة من سورة الطلاق في القرآن إباحة "استئجار المرضعات مقابل المال" وهي آية نزلت على النبي محمد الذي ماتت أمه وهو في المهد صبياً ولجأ به جده عبدالمطلب حينها لأقصى المدينة لامرأة لقبها الناس مع التاريخ بـ"مرضعة الرسول" وكان اسمها حليمة السعدية. 

تشرع لنا القصة هنا أبواباً كثيرة لأسئلة كثيرة حول بدائل الحليب والرضاعة واستئجار المرضعات في زمن تتنافس فيه كبريات الشركات على صناعة الحليب بشتى أنواعه، وهو الوقت الذي تنادي فيه منظمة الصحة العالمية والمشافي والجدات بأهمية "حليب الأم" أو الحليب الطبيعي. وهي المناداة التي لم تحييِ رميم المهنة القديمة "المرضعة المستأجرة" رغم شيوعها في قرون مضت. 

ولم يكن الرسول اليتيم ولا اليتامى في عصره قد لجأوا قبل عصور الصناعة لـلأمهات المرضعات البديلات هرباً من العطش القاتل، إذ تروي روايات تاريخية أن سادات جيله بخاصة سادات قريش، كانوا "يرضعون أولادهم في البوادي ليقووا أجساماً ويفصحوا لساناً". وبذلك يتبين أن للرضاعة أثراً يتعدى ملء البطن للعقل والجسد والطباع ومآثر أخرى. 

ولقداسة حليب الرضاعة، جاء في الإسلام أنه "كلما زاد عدد الرضعات عن خمس فإنه يصبح ولداً بالرضاعة لمرضعته، ولا يجوز له الزواج من بناتها". 

والمهنة الغائبة لسنين طويلة. توثق بعض المصادر أنها "شاعت على نطاق واسع في أوروبا في القرن الـ19" بخاصة في مدينة أوجين هوسمان الرجل الذي أعاد تصميم باريس الحديثة، إذ ازدهرت حينها مهنة النساء المرضعات مع عمل المرأة وتم "توظيف النسوة الريفيات بانتظام، لإرضاع أطفال النساء من الطبقات الدنيا والمتوسطة في المناطق الحضرية".

وتجسد لوحات الرسام الفرنسي إدغار ديغا الانطباعية الضوء على مهنة مرضعات أطفال الأغنياء في القرن الـ19، ومنها لوحته الشهيرة At the Races in the Countryside، التي تعكس شيوع تلك الممارسة وكان يظهر في واحدة من لوحاته "صورة أم ومرضعة أثناء جلوسهما معًا، بينما يرتدي الأب ملابس أنيقة. وتنظر كل من المرضعة والأم إلى الطفل والثدي".

 

 

ولدى العرب حديثاً وقديماً تبلورت فكرة الرضاعة من أم بديلة في زمن ما "للرفاه" ذلك حين تقوم الأسر النبيلة بتوظيف مرضعة لترضع أطفالهم.  

وحتى منتصف القرن الـ19 حين ظهر الحليب الصناعي المطور باتت المهنة تتلاشى رغم أنها أكثر جدوى بحسب تقارير أرباب التداوي. ومع ابتكار أول حليب صناعي مكثف في عام 1856 بواسطة المخترع الأميركي جيل بوردن بدأت تقل معدلات الرضاعة الطبيعية حول العالم بصورة كبيرة. 

 

 

توثيق الرضاعة

وكان لافتاً الخدمة التي أوجدتها أخيراً وزارة العدل السعودية ضمن سلسلة من خدماتها وهي خدمة "توثيق الرضاعة" التي جاءت "لحفظ الأنساب"، وهي الخدمة التي لا تخفي وراءها وجود المهنة القديمة في وقتنا الراهن على نحو غير منظم وواضح.  

ويعلق الفقيه السعودي صالح الحصان الذي يقترح "عودة مهنة المرضعات بشكل منظم" على نظام وزاري سعودي صدر في ديسمبر (كانون الأول) عام 2004 عن "تداول بدائل حليب الأم" بالقول "لماذا لم يتطرق النظام لمسألة حليب المرضعة على أنه أحد بدائل حليب الأم؟ بخاصة أن رضاع الطفل من أم مستأجرة يصدق عليه أنه رضاعة طبيعية".  

مقترح لإنشاء حاضنة للمرضعات

وفي حديث لـ"اندبندنت عربية" يقول "رغم مضي نحو عقدين من الزمن فإن النظام لم يتعرض لتعديل أو حذف في فقراته"، ونادى الحصان بمقترح "إنشاء حاضنات للمرضعات" وهي المهنة ذات العوائد الصحية والاقتصادية. وفق قوله. 

وفي البوابة الرسمية السعودية يتضح أن الجهة العدلية أتاحت مجال توثيق الرضاعة لجنسيات كثيرة وبعضها دول غير مسلمة من أجل توثيق رضاعاتهن للأطفال في المملكة. ويشير الحصان وهو يحمل تخصص الماجستير في الفقه الإسلامي "لا ضير في الدين من إرضاع المرأة غير المسلمة للرضيع المسلم".  

ويقول "تصفح أي كتاب فقهي في أي من المذاهب الأربعة، فلن تخطئ عينك فصلاً بعنوان ’استئجار الظئر’". و"الظئر" المرأة ذات اللبن سواء كانت مسلمة أو غير المسلمة، واستشهد الحصان بمقال له نشره بموقع مال بما ورد في كتاب ألفه الفقيه المسلم السرخسي حول آية قرآنية "وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى"، مضيفاً أن الصغار لا يتربون إلا بلبن آدمية، والأم قد تعجز عن الإرضاع لمرض أو موت أو تأبى ذلك. 

 

 

ويعلق الرجل الذي يحمل أيضاً درجة الماجستير في تخصص القانون من المملكة المتحدة على بعض فقرات "نظام بدائل الحليب السعودي" بقوله إنه لم يغفل خطورة الحليب الصناعي إذ "نلحظ علامات القلق قد بدت ظاهرة على أحكام النظام تجاه بدائل حليب الأم، ولا يكاد يخفي قلقه هذا في معظم أحكامه. فهو يمنع تسويق وترويج أي بديل لحليب الأم أو مكمل غذائي، بأي شكل وبأي طريق، بل ويطلب من الشركة المنتجة وضع ’ملاحظة مهمة’ على علبة الحليب، ودونها نصاً يفيد أن الرضاعة الطبيعية هي الأفضل". وفي المادة الرابعة، الفقرة الثالثة، من اللائحة "حذر المستشفيات والعيادات من استقبال أي هدية أو تخفيض أو نحوه لأي بديل أو مكمل. بل وصل الأمر إلى حظر إقامة أي نشاط علمي أو ترفيهي للحديث عن منتجات بدائل حليب الأم، وحظر عليهم التواصل مع الأمهات في هذا الشأن". 

لا يمتد للإرث

ومع مطالبته بالعودة للنظام القديم وتعديل بعض فقراته، يشدد الحصان على إعادة النظر لمهنة المرضعات، ذات الأثر الاقتصادي والصحي. وفق قوله. ويضيف "لا شك أن رضاع الصبي من أم غير أمه مفيد له أكثر من البدائل الأخرى، وقد أبانت نصوص الفقهاء شيئاً من ذلك، ونعلم أن بعض الأمهات قد لا تشكو من مرض أو علة، بيد أن إرضاع ولدها من امرأة أخرى تحمل صفات جيدة صحياً أو جينياً أو طباعاً حسنة، لهو سلوك حسن، لا يحجره عقل، ولا يمنعه منطق، لأن أثره يصل إلى الولد إيجاباً. وبالتأكيد أن ذلك سيرتب أمومة وأخوة من الرضاع.. ولا ضير في ذلك، بخاصة أنه لا يمتد إلى الإرث". 

وأما بالنسبة إلى الأثر الاقتصادي فهو الأجرة التي تكسبها المرضعة، وما يوفره ذلك من وظائف. ومثال على ذلك في حال طورت مراكز الحضانة والطفولة، وأضيف إليها خدمة الرضاعة". 

التسويق لبدائل الحليب تقوض جهود منظمة الصحة العالمية

من جانب صحي يشير سامح العولقي وهو طبيب ومتخصص تغذية وصحة عامة إلى أن سيسلي ويليامز الطبيبة الجامايكية ذائعة الصيت هي "أول من تنبهت لخطورة الحليب المصنع حين أطلقت مقولتها الشهيرة عام 1938 "أي شخص بإهمال أو بجهل يجعل رضيعاً يتغذى على حليب غير مناسب يمكن أن يكون مذنباً بوفاة ذلك الطفل" وهي المقولة التي سببت جدلاً كبيراً في موضوع تسويق بدائل الحليب الطبيعي. ويضيف سامح الذي أدار مشاريع صحية مع منظمات الأمم المتحدة " يمكن أن تؤثر التغذية بالحليب الصناعي على الترابط العاطفي بين الأم ورضيعها". 

ويفيد تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية أن "الأطفال الذين يرضعون رضاعة طبيعية حصرية يكونون أقل عرضة للموت بمعدل 14 مرة أقل من الأطفال الذين لا يرضعون حليب الأم". غير أن نسبة الرضع الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و6 أشهر الذين يرضعون حصريًا حليب الأم لا تتجاوز نسبة 41 في المئة، وهي نسبة التزمت الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية برفعه إلى نسبة 50 في المئة على الأقل بحلول عام 2025. ومما يشكل تحدياً أمام التقدم في نسب الرضاعة الطبيعية هو "التسويق غير الملائم لبدائل حليب الأم إذ يقوض تلك الجهود" وفق المنظمة.  

ومع تأكيدات منظمة الصحة العالمية لأهمية الرضاعة الطبيعية، ثمة مركز سعودي متخصص اسمه "برنامج تشجيع الرضاعة الطبيعية"، جاء فيه "لا بديل عن حليب الأم". ويطلق نداءات متكررة للأمهات أن الحليب المصنع قد لا يفي بمتطلبات التغذية السليمة لأطفالهن. 

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات