ملخص
المشكلة ليست في الردع، بل في أن واشنطن كانت تحاول معالجة قضايا كثيرة متعلقة بطهران، مستخدمةً مجموعة محدودة للغاية من الأدوات، على مدى فترة طويلة جداً من الزمن
في الأول من أبريل (نيسان)، استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية مبنىً ملحقاً بالسفارة الإيرانية في دمشق، مما أسفر عن مقتل سبع شخصيات بارزة في الجيش الإيراني. لم ترد طهران بعد، لكن حينما ستفعل ذلك، فإن حجم ردها وطبيعته سيساعدان في الإجابة على سؤال محوري في صميم نقاشات متعددة حول الوضع الحالي في الشرق الأوسط: هل حققت سياسة الردع الأميركية نجاحاً في احتواء إيران؟
منذ تأسيسها عام 1979 واجهت واشنطن تحديات في علاقتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي تكافح منذ ذلك الحين لإيجاد استراتيجية ناجحة في التعامل معها. على رغم أن الاقتصاد الأميركي أكبر بـ 16 مرة من الاقتصاد الإيراني وموازنة واشنطن العسكرية أكبر بـ 100 مرة، إلا أن إيران أحبطت باستمرار الجهود الأميركية الرامية إلى إنشاء نظام إقليمي مستقر. وعلى رغم افتقار طهران إلى القدرة التنافسية مقارنة بواشنطن في مختلف الجوانب، إلا أن المحاولات الأميركية لتهميش إيران أثبتت فشلها خلال معظم العقود الأربعة الماضية. وهذا يطرح لغزاً محيراً: نظراً للفوارق الشاسعة بين الجانبين، قد يفترض المرء أن ردع سلوك إيران الخبيث سيكون مسألة بسيطة تتعلق بمعايرة سياسة الولايات المتحدة وتصميمها بشكل مناسب. وكان هذا هو المنطق الكامن وراء حملة "الضغط الأقصى" التي انتهجتها إدارة ترمب في الفترة من 2018 إلى 2021، وقد أسهم أيضاً في توجيه مسار واشنطن في الشرق الأوسط بعد هجوم "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ومع ذلك، ثبت خطأ هذا الافتراض.
فالمشكلة ليست في الردع، بل في أن واشنطن كانت تحاول معالجة قضايا كثيرة متعلقة بطهران، مستخدمةً مجموعة محدودة للغاية من الأدوات، على مدى فترة طويلة جداً من الزمن. وعلى رغم أن تركيز الولايات المتحدة على تحقيق الأهداف التي تحظى بالأولوية بالنسبة إليها واعتماد مجموعة استجابات أكثر مرونة لن يؤدي إلى إصلاح الشرق الأوسط بشكل كامل، إلا أنه سيحسنه بالتأكيد. وقد تظل إيران تشكل تحدياً لصانعي السياسات الأميركيين، لكنها ستصبح على الأقل تحدياً أكثر قابلية للتنبؤ.
خصم مراوغ
على مدى السنوات الخمس والأربعين الماضية، حاولت الولايات المتحدة ردع إيران وحملها على الامتثال. لكن هذه مقاربة خاطئة. فنظرية الردع ليست مناسبة للتعامل مع أنواع التحديات التي تمثلها طهران اليوم. تم تطوير مفهوم الردع خلال حقبة الحرب الباردة، منذ الاختبار الناجح للقنبلة الذرية السوفياتية في عام 1949 وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1991، عندما كان الخبراء الاستراتيجيون الأميركيون منشغلين بمنع وقوع كارثة عالمية. اعتمدت هذه الاستراتيجية على الاعتقاد بأن التكاليف الباهظة للحرب النووية من شأنها أن تردع كلا الجانبين عن تصعيد التوترات. وكان الأمل هو أن الترسانة النووية الأميركية في البر والبحر والجو، إلى جانب إظهار العزم، سيمنع السوفيات من ارتكاب أي عمل أو تحرك استفزازي. ومع أن الأمر كان مكلفاً، إلا أنه كان يضمن ألا يدفع أي من الطرفين تكاليف أعلى بكثير تترتب على اندلاع حرب شاملة. في المقابل، فإن "الإكراه" [أو الحمل على الامتثال] هو الجهد المبذول من أجل إقناع الخصم بإيقاف تدابير بدأها بالفعل أو تغير مسارها. والإكراه أصعب بكثير من الردع، إذ يتطلب من الخصم وقف إجراءات جارية، ويستلزم من الطرف الذي يمارس الإكراه أن يلتزم بتنفيذ تهديداته الواضحة والصريحة. وتشير التقديرات إلى أن الإكراه لا ينجح إلا في نحو ثلث الحالات، وغالباً ما يكون ذلك بسبب رفض الطرف الآخر الاستسلام.
كِلا النظريتين، الردع والإكراه، لم تنجحا في حل مشكلة التعامل مع إيران. منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، واجهت الولايات المتحدة التحدي المتمثل في تفسير الخطاب الثوري الإيراني. وبالنظر إلى لهجة هذا الخطاب ودعم إيران للجهات الفاعلة غير الحكومية العنيفة في جميع أنحاء المنطقة، فإن تجاهلها بدا في كثير من الأحيان تصرفاً غير حكيم. وبناءً على ذلك، اعتبر الرؤساء الأميركيون المتعاقبون جهود إيران لإظهار القوة بمثابة تهديد، وفي المقابل رأت طهران أن ردود فعل واشنطن تشكل تهديداً لا يقل خطورة. ودفع كل منهما الآخر نحو تطوير قدرات أكبر، ورداً على ذلك، عمل كل جانب على تعزيز قوته العسكرية في المنطقة. علاوة على ذلك، زاد العمل السري. وكما هو متوقع، أصبحت الولايات المتحدة منشغلة بالتهديدات المتصورة الصادرة عن إيران، تماماً كما أصبحت إيران منشغلة بالتهديدات المتصورة من الولايات المتحدة.
من الخطأ الافتراض أن إيران تخشى مواجهة عسكرية محدودة. فخلال حربها مع العراق، أظهرت عدم مبالاة تجاه الخسائر العسكرية، ونشرت بشكل متكرر قوات سيئة التدريب لجذب النيران العراقية وتفجير الألغام الأرضية
واستجابة لهذه التحديات، طورت إيران مجموعة مرنة وقوية وديناميكية من الأدوات المصممة لتخفيف آثار الضغوط الأميركية. وإدراكاً منها أنها لا تستطيع الفوز في حرب تقليدية مع الولايات المتحدة، استثمرت إيران في إنشاء منظماتها شبه العسكرية ودعم الجهات غير الحكومية في جميع أنحاء المنطقة من خلال تدريبها وتجهيزها. كذلك، أنشأت إيران حضوراً استخباراتياً كبيراً في الخارج قادراً على تخريب البنية التحتية في الدول التي يوجد فيها ودعم حركات المعارضة الإقليمية. واستطراداً، استثمرت طهران في برامج الصواريخ والطائرات المسيرة ذات القدرة العالية، وشن جواسيسها حرباً إلكترونية على أنظمة الدول المجاورة. في المقابل، تعتبر الجهود النووية التي تبذلها إيران سلاحاً آخر يضاف إلى ترسانتها، وهي تقرر تسريع برنامجها وإبطاءه وحتى التخلي عنه في بعض الأحيان استجابةً للظروف المتغيرة. وهذه الاستجابات كلها مرنة بطبيعتها. كذلك، تسعى إيران باستمرار إلى استكشاف ردود الفعل على كل فعل ترتكبه، وهي تستخدم تكتيكات مبتكرة للقيام بذلك. على وجه الخصوص، تحاول طهران أن ترتكب أعمالاً "يمكن أن تنسب إليها ويمكن في الوقت نفسه التنصل منها"، على حد تعبير أحد المحاربين القدماء السابقين في عمليات وكالة الاستخبارات المركزية، وبالتالي تزرع ما يكفي من الارتباك للحيلولة دون الرد الفوري من الدول المستهدفة أو حلفائها الغربيين. بطريقة موازية، تعتمد إيران على تنويع أدواتها وتوزيعها لمنع خصومها من الرد بشكل مباشر.
وفي الحقيقة، يقع جميع جيران إيران تحت مرمى صواريخها. في البداية، ولّد ذلك شعوراً باللامبالاة تجاه برنامج طهران النووي. قبل أكثر من عقد من الزمن، قلل وزير الخارجية الكويتي من أهمية مخاوف بلاده بشأن احتمال حصول إيران على سلاح نووي، متسائلاً: "إذا كانوا يحملون بالفعل مسدساً مصوباً إلى رأسك، فما الفرق إذا وجهوا مدفعاً إلى ظهرك"؟ ولا يزال جيران إيران متشككين بشأن قدرتهم على الضغط على طهران لحملها على التصرف بشكل أفضل. في أغسطس (آب) 2022، استأنفت الكويت والإمارات العربية المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع إيران؛ ثم حذت المملكة العربية السعودية حذوهما بعد تسعة أشهر. وقال المسؤولون الكويتيون والإماراتيون وراء الأبواب المغلقة إنهم فعلوا ذلك لأنهم اعتقدوا أن العلاقات الدبلوماسية ستجعلهم أكثر قدرةً على التنبؤ بمسار علاقتهم مع إيران، وليس لأنهم يعتقدون أنه من الممكن إقامة صلات جيدة معها.
توقف!
عند السعي إلى ردع التهديدات الإيرانية، فإن مهمة الولايات المتحدة وحلفائها تختلف بشكل كبير عن تلك التي واجهوها في ردع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. آنذاك، كان الهدف ببساطة هو ثني السوفيات عن التصرف بطريقة معينة. في المقابل، ينخرط الإيرانيون بشكل مباشر وغير مباشر في مجموعة متنوعة من السلوكيات التي تتغير باستمرار. إن إجبارهم على وضع حد لجميع أعمالهم الخبيثة، في مواقع متعددة، باستخدام أدوات متعددة، هو بمثابة لعبة "ضرب رأس الخلد". ويصبح التحدي أكثر صعوبة بسبب ميل واشنطن إلى إسقاط افتراضاتها الخاصة على إيران [أي الافتراض أن إيران تعمل وفقاً لنفس المبادئ أو الدوافع التي تعمل بها واشنطن] والادعاء بأنها تفهم العقلية الإيرانية. لكن الأحداث أثبتت أن هذا الاعتقاد مضلل بشكل خطير. على سبيل المثال، عمل صناع السياسات في الولايات المتحدة منذ فترة طويلة على أساس الاعتقاد بأن إيران تسعى إلى تجنب العقوبات. ومع ذلك، فإن العديد من الشخصيات المؤثرة في البلاد، بما في ذلك وزير النفط السابق رستم قاسمي ومستشار الأمن القومي السابق علي شمخاني، متورطون في شبكات تهريب واسعة النطاق، ومستفيدين من استمرار العقوبات. وتُعتبر الفيلات الفاخرة والسيارات الرياضية في لافاسان، وهي مدينة تقع على بعد 30 دقيقة فقط شمال شرقي طهران، بمثابة دليل على الرخاء الكبير الذي يتمتع به بعض الإيرانيين الأقوياء على رغم نظام العقوبات الأميركية. إضافة إلى ذلك، من الخطأ الافتراض أن إيران تخشى مواجهة عسكرية محدودة. فخلال حربها مع العراق في ثمانينيات القرن العشرين، أظهرت إيران عدم مبالاة تجاه الخسائر العسكرية، ونشرت بشكل متكرر قوات سيئة التدريب لجذب النيران العراقية وتفجير الألغام الأرضية. وعلى رغم أن عدداً كبيراً من القادة الإيرانيين اعتبروا أن هذا التكتيك كان غير مجدٍ، إلا أن طهران ظلت تُظهر استعدادها للمخاطرة بحياة جنودها، حتى عندما لا تكون مصالحها الاستراتيجية على المحك بشكل مباشر. وفي الآونة الأخيرة، تكبدت إيران خسائر كبيرة في سوريا، حيث أفادت التقارير بمقتل المئات، إن لم يكن الآلاف، من الجنود على رغم دورهم الاستشاري المزعوم.
وتشكل الولايات المتحدة أيضاً جزءاً من المشكلة. فالتصرفات الإيرانية المعقدة والمتنوعة، والتي تنظر إليها واشنطن بشكل سلبي، تجعل من الصعب التوصل إلى إجماع سياسي في الولايات المتحدة لتقليل الضغوط على إيران. وبينما يبدو أن الخطاب الأميركي بشأن إيران قد أصبح أكثر تصادمية، فإن قناعة طهران تزداد رسوخاً بأن العداء الأميركي إما ثابت أو متصاعد، وبالتالي لا مفر منه. ونتيجة لذلك، خلصت القيادة الإيرانية إلى أن أفضل مسار للعمل هو تعزيز ما أشار إليه أحد الباحثين الإيرانيين بـ "أدوات الردع الإيرانية"، والتي تسعى لإقناع واشنطن بأن تكاليف الصراع المباشر ستكون مرتفعة للغاية لدرجة تمنعها من التفكير في اللجوء إلى هذا الخيار. والوسيلتان الرئيستان لتحقيق هذه الغاية هما برنامج صواريخ إيران وشبكتها من الميليشيات المتحالفة معها، أو ما يسمى بمحور المقاومة الذي يمتد عبر العراق، ولبنان، واليمن، والأراضي الفلسطينية. وقد تجلى مدى تطور ترسانة طهران في سلسلة من الضربات على منشآت النفط السعودية في سبتمبر (أيلول) 2019. وفي الوقت نفسه، أصبح تأثير وكلائها واضحاً في أعقاب هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر، فهجمات الحوثيين على الشحن في البحر الأحمر تعطّل التجارة العالمية، و"حزب الله" يهدد الحدود الشمالية لإسرائيل، والجماعات الوكيلة في العراق وسوريا تهاجم القوات الأميركية المنتشرة هناك لمنع عودة "داعش".
على رغم أن الولايات المتحدة امتنعت عن شن ضربات مباشرة على إيران، إلا أن البعض في الكونغرس، بمن في ذلك العضوان في مجلس الشيوخ الأميركي، توم كوتون، السيناتور الجمهوري من أركنساس، وليندسي غراهام، السيناتور الجمهوري من كارولينا الجنوبية، يزعمان أن أي استراتيجية لا تنطوي على هجمات عسكرية على الأراضي الإيرانية محكومة بالفشل. وأعلن غراهام أخيراً أن "الشيء الوحيد الذي يفهمه النظام الإيراني هو القوة. وسوف تستمر الاعتداءات على القوات الأميركية إلى أن يدفع النظام الثمن من خلال بناه التحتية وعناصره". وأضاف أن الحل هو "ضرب إيران حالاً وضربها بقوة". وهذا من شأنه، على أقل تقدير، أن يخاطر بحرب إقليمية واسعة النطاق تطلق فيها إيران العنان لقوة "أدوات الردع" كاملةً، مما يهدد بشكل خطير حلفاء الولايات المتحدة وعشرات الآلاف من القوات الأميركية الموجودة في المنطقة. وقد يتطلب الأمر أيضاً من الولايات المتحدة الانخراط في عملية عسكرية طويلة أخرى في الشرق الأوسط، في وقت يتجه اهتمام واشنطن بشكل متزايد نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وبالاسترجاع، كانت الإدارات السابقة حريصة على عدم تجاوز هذه الحدود. حتى أن اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، الذي نفذته إدارة ترمب في يناير (كانون الثاني) 2020، قد حدث على الأراضي العراقية، وليس في إيران. وعلى رغم أن هذا القرار اتُّخذ ربما بالاستناد إلى عوامل لوجستية أو معلومات استخباراتية، إلا أنه يُظهر أيضاً إحجام واشنطن عن إجراء عمليات على الأراضي الإيرانية.
لا حرب ولا سلام
لقد حققت استراتيجية واشنطن إنجازاً واحداً كبيراً: فقد ردعت إيران بشكل فعال عن المزيد من التصعيد. أوقف وكلاء إيران محاولات استهداف المنشآت الأميركية في أعقاب غارة نفذتها طائرة مسيرة تابعة لقوات موالية لإيران أدت حينها إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين في شمال الأردن في 28 يناير (كانون الثاني). في أعقاب هذا الهجوم، قصفت الطائرات الأميركية منشآت الجماعات المدعومة من إيران في العراق وسوريا، مما أسفر عن مقتل نحو 45 شخصاً. إن قدرة واشنطن واستعدادها لتدمير مجموعة واسعة من الأهداف بشكل حاسم أقنعت الإيرانيين بإنهاء هجماتهم على المواقع الأميركية، على الأقل في الوقت الحالي. لكن الولايات المتحدة لم تنجح في إجبار إيران على التراجع عن استخدام أدواتها غير التقليدية.
ويمكن أن يُعزى هذا الفشل في تحقيق الأهداف إلى أوجه التباين الجوهرية بين الولايات المتحدة وإيران. فالأولى هي قوة عالمية ثرية لها أصول ومصالح في كل مكان. ولديها اهتمام كبير في الحفاظ على النظام العالمي، وهو موقف يضع واشنطن بطبيعة الحال في موقع عالمي قيادي. وعلى النقيض من ذلك، أصبحت الحكومة الإيرانية معتادة على العوز والتخلف في التنمية، مع وجود عدد قليل نسبياً من المصالح الخارجية التي تسعى إلى حمايتها. وينصب تركيزها على تحدي النظام العالمي، مدفوعاً بفهم أن التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على هذا النظام سوف يدفعها إلى التصرف بحذر وضمن حدود القانون الدولي. إضافة إلى ذلك، تعتقد إيران أن معارضتها للنظام العالمي ستحظى بتعاطف الحكومات والملايين في جميع أنحاء العالم الذين يعارضونها. ولهذا السبب، منذ توليه منصبه في أغسطس (آب) 2021، تخلى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عن التقارب مع الولايات المتحدة وركز عوضاً عن ذلك على تحدي الوضع العالمي الراهن. وتحقيقاً لهذه الغاية، أقامت إيران علاقات أوثق مع الصين وروسيا، وكلاهما لديه أجندته الخاصة التي ترمي إلى تقليص الهيمنة الأميركية وهما على استعداد لتشجيع جهود إيران بهدوء. وبمرور الوقت، تعتقد طهران أنها تمتلك الأفضلية، بعد أن تعلمت التكيف مع الجهود الأميركية لعزلها، في حين تم تحصين قيادتها الحالية وتمكينها مالياً من خلال معظم العقوبات الأميركية.
الانتصارات المتواضعة يبقى اسمها انتصارات
تستطيع واشنطن إدارة مشكلة إيران باستخدام نهج ثلاثي المحاور. أولاً، يجب على الولايات المتحدة أن تحدد بعناية ودقة أهدافها الأساسية عند التعامل مع إيران. وفي حين أنه من غير المقبول أن تتسامح واشنطن مع أي شكل من أشكال سوء السلوك الإيراني، إلا أنه يتعين عليها أن توضح لطهران ما هي المسائل التي تحمل أهمية قصوى بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وفي الواقع، إن وجود قائمة طويلة يمنح الإيرانيين مجالاً للاختيار، في حين ينبغي أن تكون الولايات المتحدة هي التي تتولى عملية صنع القرارات والخيارات. علاوة على ذلك، يجب أن تظل الهجمات المباشرة على الأفراد الأميركيين محظورة وغير قابلة للتفاوض، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تطوير الأسلحة النووية. ولكن على الولايات المتحدة أن تتجنب وضع نفسها في موقع الخصم الرئيس للأنشطة الإيرانية الدولية غير القانونية التي لا تعد ولا تحصى، بما في ذلك التهريب والأعمال العدائية ضد الدول المجاورة. وعوضاً عن ذلك، يتعين على واشنطن أن تعمل على المساعدة في بناء قدرات الدول الصديقة في المنطقة من أجل مواجهة إيران بشكل فعال.
ثانياً، يجب على الولايات المتحدة أن تكون أقل قابلية للتنبؤ في ردودها على التصرفات الإيرانية. وبما أن طهران تختبر باستمرار ردود الفعل الأميركية، فهي تعرف أين رُسمت خطوط واشنطن الحمراء، وبالتالي، أين يجب أن تتوقف على وجه التحديد. ومن شأن النهج الأميركي الأكثر مرونة أن يساعد في إقناع الإيرانيين بأن الأنشطة البسيطة حتى يمكن أن تؤدي إلى عواقب أكبر من المتوقع؛ وهذا بدوره قد يقلل من التجارب الإيرانية ويدفع الإيرانيين إلى ممارسة مزيد من ضبط النفس. كذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تطوير طرق إضافية لتهديد أصول الحكومة الإيرانية، وبخاصة الأهداف العسكرية والاستخباراتية. ويجب أن تشمل خيارات الولايات المتحدة عملاً عسكرياً محدوداً وهجمات إلكترونية.
ثالثاً، يتعين على الولايات المتحدة أن تدرك أن موقفها يصبح أقوى عندما ترى طهران أن هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية وتفاهم أكبر مع واشنطن. حينما يعتقد قادة إيران أنه لا يوجد أي إجراء يمكنهم اتخاذه لتخفيف العداء الأميركي، فإن ذلك يشجعهم على سوء التصرف. علاوة على ذلك، إذا كانت العقوبة أمراً لا مفر منه، فإن زيادة الأنشطة العدائية الإيرانية لن تحمل أي أخطار إضافية. في المقابل، إذا اعتقدت طهران أن واشنطن مستعدة ربما لاستيعابها وتقديم بعض التنازلات، سيحفزها ذلك للحد من التوترات. وينبغي أن يكون الهدف هو التحرك نحو تحقيق الانفراج أكثر منه التقارب. وكلما اعتقدت طهران أن صراعها مع واشنطن هو صراع وجودي، زاد إصرارها على استخدام أساليب الردع الخاصة بها. وكلما نظرت الولايات المتحدة إلى إيران بشكل أكثر واقعية، وجدت أن عليها أن تتواضع أكثر في طموحاتها الرامية إلى إسقاط الحكومة الإيرانية، ناهيك عن ضمان ظهور نظام أكثر ملاءمة لمصالح الولايات المتحدة. في الحقيقة، قد تنهار الحكومة الإيرانية بسبب ضغوط داخلية، وقد يخدم ذلك المصالح الأميركية. لكن تغيير النظام في إيران ينبغي ألا يشكل هدفاً أساسياً للحكومة الأميركية. ما زال الدعم الأميركي والبريطاني لعملية الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في عام 1953 يُذكر في إيران باعتباره لحظة إذلال وطني. لذا، فحتى إسقاط نظام لا يحظى بشعبية من غير المرجح أن يؤدي إلى زيادة عدد أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها.
وفي الواقع، تتمتع القوى الأضعف مثل إيران بأفضلية على القوى التي تفوق حجمها بأضعاف. فنظراً لأن القوى الأضعف تملك عدداً محدوداً من الخصوم ولديها أمور كثيرة على المحك، فإنها غالباً ما تكون أكثر اندفاعاً وتحفيزاً من خصومها الأقوياء. ولكن بما أنها الأضعف، فهي نادراً ما تخرج منتصرة. وعلى نحو مماثل، فإن الولايات المتحدة، التي لديها مصالح عالمية وأولويات أخرى لا تعد ولا تحصى، من المستبعد أيضاً أن تحقق فوزاً شاملاً، مما يعني أن الهدف الصحيح يتمثل في التركيز على سلسلة من الانتصارات الصغيرة في أهم القضايا والمجالات. إن فرض قيود إضافية على تصرفات إيران وتحسين القدرة على التنبؤ في الشرق الأوسط سيكون بمثابة تقدّم كبير. لقد تعلمت إيران التعامل بمهارة مع الوضع الحالي، وهي تدرك نقاط قوتها. وعلى رغم أن الولايات المتحدة لا تستطيع إلغاء جميع الظروف التي تصب في مصلحة إيران، إلا أنها تستطيع السعي إلى تحقيق تكافؤ في الفرص معها، وتعزيز أمن شركاء واشنطن وحلفائها، وتقليل احتمال نشوب صراع أميركي إيراني أوسع يجتاح الشرق الأوسط بأكمله.
جون ب. ألترمان هو نائب الرئيس ومدير برنامج الشرق الأوسط في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (سي أس آي أس)".
مترجم عن "فورين أفيرز" 3 أبريل 2024