Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سارا أونيا" من أدب النيجيري ماماني إلى سينما الموريتاني هندو

إبداع ما بعد الكولونيالية الذي يؤبلس الصديق بأكثر مما يفعل مع العدو

مشهد من فيلم "سارا أونيا" (موقع الفيلم)

ملخص

رواية "سارا أونيا" للنيجيري عبدالحي ماماني اشتهرت منذ صدرت للمرة الأولى عام 1980، وعنوانها مأخوذ من اسم بطلة أسطورية قال المؤلف لفترة، إنها وجدت حقاً، فيما أكد آخرون أنها لم توجد أبداً، بل كان ماماني هو مخترعها، جاعلاً منها بطلة وقفت تقاوم الفرنسيين في تقدمهم، و"قديسة" لم تهزم إلا بفعل الخيانة.

خلال الأشهر الأخيرة من القرن الـ19، أرسلت الحكومة الفرنسية الساعية في حينه إلى احتلال أوسع مناطق ممكنة من القارة الأفريقية، ضابطاً كبيراً هو العقيد كولب، كي يحقق في ما تواتر إليها من أنباء حول مجازر ارتكبتها القوات الفرنسية التي كانت انطلقت من "السودان الفرنسي" قصد احتلال المناطق الأفريقية السوداء التي لم تكن قوة أوروبية وصلت إليها من قبل.

تلك القوات الفرنسية الغازية كانت في حينه تحت قيادة الضابطين فولي وشانوان. وقد عرف هذا الأخير خصوصاً بالقسوة وبالرغبة في الانتصار بأي ثمن، ولكن، أيضاً، باتباع نظرية الأرض المحروقة، ومن هنا كان ورفيقه يقتلان ويحرقان حتى الشجر في المناطق التي يستوليان عليها. خلال مرحلة أولى سكتت سلطات باريس عن ممارسات ضابطيها لكن حين تحولت تلك الممارسات إلى أخبار تملأ الصحف الأوروبية، كان لا بد من السعي لإنقاذ سمعة الجيش الفرنسي.

وهكذا أرسل كولب مع قوة مرافقة لتحري الأمر. وكولب وصل بالفعل إلى المناطق التي احتلها الضابطان، لكنه لم يتمكن من إرسال صورة ما يحدث إلى حكومته، وذلك ببساطة، لأن فولي وشانوان أعدماه فور لقائهما به.

بطلة حقيقية أم خرافة مستعارة؟

حين قدم المخرج الموريتاني محمد عبيد هندو هذه الحكاية في فيلم سينمائي بديع، خُيل لكثر من المتفرجين غير المطلعين على التاريخ الأفريقي والتاريخ الكولونيالي أن ما يقدمه إنما هو حكاية من ابتكاره تحاول أن تنهل من التاريخ الأفريقي، لكن منذ أعيد نشر رواية للكاتب النيجيري مماني مستقاة من الحكاية نفسها أدركوا أن هذا الفصل التاريخي كان فصلاً حقيقياً، ذكرته لاحقاً الكتب التي روت ما حدث في تلك المنطقة من أفريقيا، والتي منذ ذلك الحين، استقر فيها الاستعمار الفرنسي، ليبقى هناك عشرات السنين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تبين أن الحكاية التي تكاد تكون مطموسة كانت مغيبة داخل صفحات مطوية حتى زمننا الراهن حين أتى مؤلفون من أبناء القارة الأفريقية، رأوا أنها لا يمكن أن تظل غائبة إلى الأبد، لذا راح كل واحد منهم يقلب في صفحات الحكايات والتاريخ، الشفهي حتى، محاولاً العثور على "خبريات" تصلح للتأكيد أن الشعوب هناك قاومت حقاً. ومن بين أولئك المؤلفين سيكون الأبرز النيجيري عبدالحي ماماني، الذي كتب رواية اشتهرت منذ صدرت للمرة الأولى عام 1980، وعنوانها "سارا أونيا" وهو عنوان مأخوذ من اسم بطلة أسطورية قال المؤلف لفترة، إنها وجدت حقاً، فيما أكد آخرون أنها لم توجد أبداً، بل كان ماماني هو مخترعها، جاعلاً منها بطلة وقفت تقاوم الفرنسيين في تقدمهم، و"قديسة" لم تهزم إلا بفعل الخيانة. وهذه الرواية نفسها، كانت هي النص الذي اقتبس منه محمد عبيد هندو، أحد أجمل أفلامه، وهو الفيلم الذي أعطاه العنوان نفسه، وعرض في مهرجانات عالمية، معطياً الانطباع، بأن سارا أونيا وجدت حقاً.

شعوب سريعة الاستسلام

تدور أحداث الرواية، إذاً، في عام 1899، بادئة بزحف القوات الفرنسية بقيادة النقيب فولي، عبر المناطق التي ستحمل لاحقاً اسم النيجر. بدا له الزحف سهلاً أول الأمر، لا سيما حيث راحت الشعوب تستسلم بسرعة، أو تذبح من دون شفقة، إذا ما حاولت أن تبدي ولو شبح مقاومة. والحقيقة أن بعض الطوارق وبعض السكان المسلمين، من أصول عربية أو غير عربية، كانوا يحاولون التصدي بين الحين والآخر، فيكون مصيرهم الزوال.

غير أن مقاومة هؤلاء سرعان ما خبت تماماً، بحسب ما تقول الرواية، حين توقف فولي ذات لحظة وذات منطقة ليجد في مواجهته تلك المرأة القوية الساحرة سارا أونيا، التي انطلاقاً من قدراتها السحرية من ناحية وقوة تأثيرها في مقاتليها من ناحية ثانية، استطاعت أن تقاوم فولي وقواته. غير أن الأمور سرعان ما ستنقلب عليها، ذلك أن الطوارق والأقوام الآخرين في المنطقة، سينتهي بهم الأمر إلى الوقوف ضدها حتى ولو تحالفوا في سبيل ذلك مع الفرنسيين. فسارا أونيا، كانت امرأة وليس من حق امرأة أن تقود رجالاً، ثم إن سارا أونيا كانت كافرة، وهذا في حد ذاته يكفي لاعتبارها العدو الأول، والوقوف إلى جانب الفرنسيين لقهرها، بل إن الأهم من هذا هو أن سارا أونيا، ومقاتليها التابعين لشعب بدائي يدعى شعب الآزنا، كانوا سيطروا تماماً على الأقوام المحيطة بهم لا سيما على الطوارق والمسلمين، محاولين أن يفرضوا على هؤلاء شعائرهم الدينية وأن يبعدوهم من دين آبائهم التوحيدي.

 

وهكذا حين يصل فولي إلى المنطقة سيجد الأجواء ممهدة لانتصاره على الساحرة، وسيجد أقواماً تنتظره لتتحالف معه. وهكذا تكتمل الدائرة، وتدور المعارك التي يحقق فولي في البداية انتصارات كبيرة فيها، لكن سارا أونيا سرعان ما تستعيد أنفاسها وأنفاس قواتها وتبدأ بمهاجمة القوات الفرنسية وحلفاء هذه القوات من الجهات كافة. هنا، بالنسبة إلى فولي، لا تعود المسألة مسألة خدمة وطنه، بل مسألة كرامته الشخصية، ويتحول القتال بالنسبة إليه إلى مجازر ترتكب وأراض تحتل بعد إحراقها وإحراق أكواخ ساكنيها.

صراعات بين السود والبيض

هنا، لأن الصراع يتخذ سماته الأساسية كصراع بين البيض والسود، البيض يمثلهم فولي، بصرف النظر عن تحالفاته، والسود تمثلهم سارا أونيا، بصرف النظر عن تطلعاتها الخاصة، لا يكون أمام كاتب الرواية إلا أن يختار معسكره: إنه بالطبع، معسكر سارا أونيا. والكاتب، كي يبرر هذا الموقف من دون أن يبدو عليه أن موقفه "عنصري في تضاده مع العنصرية" بحسب الاستخدام الشائع، يبدأ برسم صورة للقائدة تعطيها مزيداً من الأبعاد الأسطورية: فهي في الرواية، كما في الفيلم لاحقاً، رمز التسامح، وساعية دائماً إلى إقناع الأقوام الأخرى، لا إلى محاربتهم، خصوصاً إن كانوا من الأفارقة، بل حتى الأعداء البيض، لن تعاملهم، حين تحقق انتصارات عليهم، إلا معاملة طيبة. تكاد بهذا أن تكون صورة نسائية من صلاح الدين الأيوبي. ولاحقاً، في أحد مشاهد الرواية، حين يتبين لها أن بعض جنودها، مثلاً، من رماة الرماح سمموا رؤوس رماحهم قصد إيقاع أكبر قدر من الأذى في جنود الأعداء تردعهم عن ذلك، فالأخلاق لا تسمح بمثل هذا الإجرام. "حتى لو أجرم أعداؤنا، لن نحذو حذوهم... نحن نخوض معركة شريفة".

كل هذا يملأ صفحات الرواية بالطبع، لكنه يبدو غير ممكن الحدوث. ومن هنا، عندما سئل الكاتب حول مثل هذه الأمور وهل كان يمكن أن تحدث حقاً، أشار إلى رمزية المسألة برمتها، موحياً بأن على الكاتب، حين يدافع عن موقف ما إن يستعير حتى من العدو صوراً ومواقف تخدم قضيته!

الحاجة أم الاختراع

إذاً، من الواضح هنا أن عبدالحي ماماني، إنما أراد أن يخلق أسطورة أفريقية متكاملة، فوفق في هذه الشخصية التي قد يجد البعض ضروب تشابه عدة بينها وبين شخصية "أسطورية" أفريقية أخرى، لكنها أفريقية شمالية هذه المرة، هي شخصية "الكاهنة" التي تقول حكايات البربر الأمازيغ إنها تصدت لـ"الفتح العربي" في تلك المناطق من العالم. والحقيقة أن من يتبحر في هاتين الشخصيتين لن يعدم المماهاة بينهما وبين حكاية زنوبيا ملكة تدمر! الحكاية نفسها، الأخلاق نفسها والمصير نفسه... والهدف في الحالات كلها واحد: أبلسة العدو، مع أن فعل الاحتلال نفسه وما اقترفه يكفي لأبلسته إلى أبد الآبدين، وإعطاء الشعب المحلي سمات قداسة وبطولة، مع مرور هنا على الطوارق ومسلمي "الساحل" الأفريقي لأبلستهم بدورهم.

 

هنا قد يكون من الإنصاف لمؤلف "سارا أونيا"، أن نستطرد ونقول إنه لم "يرحم" حتى السود غير المسلمين وغير الطوارق، وقدم في صفحات قاسية "خيانتهم" هم بدورهم لسارا أونيا بعد أن كانوا جنودها وحلفاءها، إذ ما إن أحسوا بوهن مقاومتها وبقرب انتصار الفرنسيين حتى انضموا إلى هؤلاء، بل حتى لم يفت الكاتب أن يصف ضروب قسوتهم، مقابل تسامح القائدة، وإقدامهم على النهب والتخريب في كل مرة يلوح فيها هذان ممكنين. بقي أن نذكر أن عبدالحي ماماني، الذي ولد في النيجر عام 1932، عرف كروائي وصحافي وكذلك ككاتب سيناريو لبعض الأفلام الأفريقية، وأصدر مجموعات شعرية عدة من أشهرها "قصائديات".

المزيد من ثقافة