Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سام بيكنباه أوصل العنف الهوليوودي إلى ذروته ثم ندم

شاعر على طريقته في أفلام جعلت لغة القسوة الذكورية نوعاً من الثناء على عالم الخاسرين

سام بيكنباه (1925 - 1984) خلال تصوير فيلم "الصليب الحديد" (الموسوعة البريطانية)

ملخص

بعد سنوات من عرض فيلم سام بيكنباه "صليب الحديد" الذي اعتبر بريختياً، رحل المخرج الذي كان يمكن لأفلامه أن تحدث قلبة لا تجعله يبدو مطحوناً بين سينما أميركية كانت تعيش آخر مراحل العنف المجاني، وجيل أصحاب اللغة الجامعيين والمثقفين، بدءا من كوبولا وسكورسيزي وسبيلبرغ الذين لم يتوانوا عن النظر إلى بيكنباه كأستاذ كبير.

"إذا لم تمتثل للإرادة الجماعية ستجازف بأن تعيش حياتك وحدك معزولاً في هذا العالم، لكنك حين تستسلم ستجازف بأن تفقد استقلالك ككائن بشري. ولهذا فضلت أنا أن أقف في صف المنعزلين في وحدتهم، ولا أعتبر نفسي أكثر من رومانطيقي أخوي في داخلي ضروب الضعف تجاه كل الخاسرين". حتى وإن كان من الصعب اعتبار سام بيكنباه الذي كان ينظر إلى نفسه، كما يفيدنا كلامه هذا، كواحد من شعراء السينما الرومانطيقيين، أكثر من واحد من آخر السينمائيين القساة الذين كان مجال إبداعهم أفلام رعاة البقر والحروب بكل ما تقتضيه من تشويق وعنف وقسوة غالباً ما تبدو مجانية، واحداً من آخر الذين ربطوا بن الحلم الأميركي، و"الوسيلة المثلى للتعبير عن ذلك الحلم"، فإنه بالكاد كان يعتبر في الوقت نفسه من السينمائيين المؤلفين الذين يضعون كثيراً من ذواتهم في أفلامهم.

ومن هنا لم يكن غريباً أن تكون غالبية أفلامه أعمالاً تحظى بقدر كبير من المتفرجين الذكور. ففي نهاية الأمر يندر ويصعب أن يكون للمرأة حضور طاغٍ حقيقي في هذين النوعين من السينما. ولعل في إمكاننا أن نعطي مثالاً على ما نقول ذلك الفيلم الذي على رغم "حربجيته" المطلقة يعد عادةً واحداً من أكثر أفلام بيكنباه "بريختية"، وحين كتب نقاد نبيهون أنه تمكن أخيراً من أن يحقق فيلماً كبيراً، بالمعنى الفني للكلمة جعله بريختياً في قفزة منه أتت يومها (1977) واعدة، كان رد فعله يومها شبيهاً برد فعل المسيو جوردان في رواية موليير "البورجوازي النبيل" حين أخبره المعلم بأنه يتكلم نثراً، ففغر عينيه مذهولاً.

قطيعة

المهم أن بيكنباه الذي سيرحل عن عالمنا بعد سنوات قليلة من عرض فيلم "صليب الحديد" الذي كان الفيلم الذي اعتبر بريختياً، لم يعش حتى يواصل مسيرة كان من شأنها أن تحدث قلبة في سينماه لا تجعله يبدو مطحوناً بين سينما أميركية كانت تعيش آخر مراحل العنف المجاني والمواضيع الهوليوودية التقليدية، وجيل أصحاب اللغة الجامعيين والمثقفين، والذين بدءا من كوبولا وسكورسيزي وسبيلبرغ، وغيرهم، لم يتوانوا عن النظر إلى بيكنباه كأستاذ كبير. وهذا ما يعيدنا بالطبع إلى "بريختية" هذا السينمائي المتفرد في الأحوال كافة، وبخاصة إلى فيلمه "صليب الحديد". فهو كما أسلفنا ينتمي إلى السينما الحربية التي أكثرت هوليوود من إنتاجها خلال تلك المرحلة التي كانت آثار الحرب الفيتنامية لا تزال تخيم عليه، لكن الفيلم كان على أية حال يسير عكس التيار السائد في سينما الحرب التقليدية، مما جعل من إعجاب أورسون ويلز المطلق أمراً منطقياً. وأورسون ويلز اعتبر الفيلم تالياً لـ"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" في ترتيبه للأفلام الحربية الـ10 الأفضل في تاريخ السينما الأميركية. ولم يستهن أحد برأي من هذا النوع يبديه صاحب "المواطن كين" فالفيلم الذي كان في ذلك الحين بالذات يصنف كأفضل "فيلم على الإطلاق في تاريخ السينما العالمية".

عكس التيار

واعتبار "صليب الحديد" يشغل تلك المكانة بالنسبة إلى ويلز أتى من كونه يسير عكس التيار، وأولاً لأنه فيلم أميركي يخلو من أي ذكر للتدخل الأميركي في تلك الحرب. فالمحك هنا هو أن المكانة الأولى فيه معقودة للجبهة الروسية والقوات الألمانية التي كانت الطرف الأساس باندفاعها لغزو أجزاء عريضة من مناطق غرب الاتحاد السوفياتي، ولكن بعد أن بدأت تلك القوات في اندحارها على وقع الهزيمة الألمانية في معركة ستالينغراد، وتحديداً خلال انسحاب تلك القوات من شبه جزيرة كوبين في القرم. وهو مبني على مذكرات حقيقية كتبها صف ضابط ألماني شاب كان في ركاب تلك القوات. أما الضابط الذي تدور الرواية/ المذكرات من حوله فيدعى هنا في الفيلم النقيب سترانسكي الذي يقدمه لنا الفيلم كضابط شاب وصل حديثاً من موطنه الألماني ويتطلع منذ وصوله إلى الحصول على وسام الشجاعة المسمى وسام الصليب الحديد ولا يتوخى من خوضه الحرب أكثر من ذلك. وسيتبين بسرعة أن هذا العسكري الأرستقراطي الآتي من تقاليد عائلته البروسية العسكرية، لا يعبأ بمن يبدون له مبالغين في قسوتهم من غير البروسيين. ومن هنا يبدأ اصطدامه بتصديه للكابورال رولف شتينر المغالي في تبني نزعة حربجية شعبوية في انتمائه إلى قوات الجيش التقليدية دون أية نزعة فردية تحيد عن تمسكه بالوطن والعقيدة الحربجية. ومن هنا سيبدأ الصرع بين العسكريين منذ وصول سترانسكي، من حول إعدام جندي شاب وما يتعلق بنيل النقيب ذلك الوسام الذي يمثل غاية مطلبه من خوض الحرب.

خدعة النقيب

والحال أن نيل الصليب يقترب حثيثاً من سترانسكي بعد إصابته بجرح بسيط في عملية قصف، وهو قابع في خندقه. ولما كان الأمر يتطلب شهادة عدد من رفاقه بأنه قد أصيب في القصف حقاً، يأمل سترانسكي من شتينر الذي كان لحظة القصف معه في الخندق، أن يدلي بشهادته، لكن شتينر يرفض لأسباب عدة شخصية، وتحديداً لعلمه أن سترانسكي لم يكن هو من دبر شن الهجوم المضاد الذي تسبب في جرحه، بل ملازم شاب أصيب وقتل خلال الهجوم المضاد، بالتالي فإن النقيب كان منزوياً في مأمن نسبي لحظة ذلك. وأمام رفض سشينر القاطع وإذ يتم الانسحاب في ذلك الوقت يترك النقيب عدوه شتينر وراءه آملاً في أن يصيبه قصف معاد فلا يعود هو في حاجة إلى شهادته وينال صليبه دون عقبات، بيد أن الهجوم السوفياتي يتم وينجح دون أن يتسبب في قتل شتينر، بل إن هذا يتمكن من الوصول مع جنوده إلى ما وراء الخطوط الألمانية المنسحبة وهو يجهل طبعاً أن ما حدث له وكاد يقتله إنما كان بفعل خيانة النقيب له. وهو أمر لن يعلم به إلا لاحقاً على أية حال. ولن ينكشف له ليختتم به الحكاية، إلا بعد أن يكون قد وصل إلى فرقته دون أن يعلم أحد بوصوله سالماً، وحين ينكشف تتحول المعركة إلى مسألة بالغة الشخصية وبالغة العنف بينه وبين النقيب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عالم الخاسرين

ربما يكون سام بيكنباه الراحل في عام 1984 منسياً بعض الشيء اليوم، بل منذ جددت هوليوود نفسها وسياساتها السينمائية وتوجهاتها بصورة عامة، وربما يكون هذا السينمائي قد أسهم بنفسه في ذلك النسيان، إذ عاش مرحلته الأخيرة شبه منعزل، لكنه كان قد عرف كيف يحمل وحده إلى حد ما طوال سنوات الـ60 من القرن الماضي واجب التجديد الكبير من سينما تمثل عالم هوليوود الرومانسي في اتجاه سينما أكثر ذاتية وعنف ومجابهة مع ما كان قد تبقى من حلم أميركي. ولعل هذا ما يقودنا إلى القول إن سام بيكنباه المزارع الكاليفورني المتحدر من أصول هندية والوريث الشرعي لحكايات العنف في الغرب الأميركي شكل النقطة الفاصلة في تلك النقلة التي عرفتها هوليوود بكل زخمها ونزوعها "الأوروبي" ودون أن يدرك ذلك على الأرجح. هو الذي لم يكن يفوته بعد كل شيء أن مهمته الأساس كانت، وكما قال مرات ومرات، "تصوير الخاسرين"، مستشهداً على ذلك بمعظم مساره السينمائي الذي انطلق تحديداً من "الرفاق القاتلون" (1961) إلى "إجازة أوسترمان" (1983)، حيث لن يطول بنا الأمر أن ندرك أن الغالبية العظمى من الشخصيات المحورية في تلك الأفلام شخصيات خاسرة أو ضائعة أو مشوهة.

ولعل ما يجدر ملاحظته بالنسبة إلى تلك الشخصيات أن الفيلم دائماً ما يلتقطها في لحظة مفصلية من حياتها، حيث لو حدث لها أحياناً أن تحقق انتصاراً، ستدفع ثمنه غالياً (كما يحدث مثلاً للشخصية التي يلعبها داستن هوفمان في "كلاب من قش" (1971) الذي يعد عادة من أشهر أفلام هذا السينمائي المجتهد وأكثرها عنفاً). ومهما يكن فإن هذا الرسم المدهش لشخصيات أفلام بيكنباه – ومعظمها من الشخصيات الذكورية كما أشرنا - إنما ساد في حقبة فاصلة من التاريخ الأميركي الحديث كان من المستحيل فيها على أي مبدع أميركي أن يمعن في تبسيطية تدفعه إلى مواصلة رسمه شخصيات رومانسية إيجابية، أو واحدة من تلك الشخصيات التي كانت لا تزال تؤمن بالحلم الأميركي على غرار ما تفعل شخصيات فرانك كابرا في الثلاثينيات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة