Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيغي غوغنهايم "الجاهلة" بالفن تفتخر بمساهمتها في الحداثة الأوروبية

السيدة الأميركية الثرية أعلنت بجرة قلم نهاية ما كانت اعتبرته التيارات الأكثر تمثيلاً للفنون الحديثة

بيغي غوغنهايم: تيارات فنية متلاحقة بالصدفة أو بالدهاء (غيتي)

ملخص

بيغي غوغنهايم لم تكن ناقدة فنية ولا مؤرخة ولا هاوية رسم كذلك. كل ما في الأمر أنها سيدة مجتمع ابنة لعائلة أميركية ثرية نزحت إلى باريس خلال الربع الثاني من القرن الـ20 لتعيش كسيدة مجتمع سخية، تلك الحياة المجنونة التي سادت عاصمة النور في مرحلة ما بين الحربين، تسعى إلى المتعة وحياة التحرر والرخاء

"لفترة طويلة من الزمن كان كليمان غرينبرغ يصر على أن ينظم حين أعود إلى نيويورك معرضاً بعنوان (تحية إلى بيغي) يضم كل الأعمال التي كنت أطلق عليها اسم لوحات (أطفال الحرب) وهو الاسم الذي أطلقته باكراً على اللوحات التي كنت قد اكتشفتها خلال الحرب، لكني رفضت الفكرة بصورة قاطعة أولاً لأني لم أكن أحب ما اعتاد غرينبرغ عرضه، وثانياً لأنني لم أكن لأستسيغ ما راح (أطفال الحرب) يمارسونه بعد اكتشافي لهم، بل إنني في الحقيقة اكتشفت أنني لا أحب الفن الراهن أبداً. فهو بات (أي شيء كان) وتحديداً بسبب ما صار عليه من بضاعة ترتبط بمقاييس السوق لا بمقاييس الفن. ومع ذلك فإن موقفي هذا فتح في وجهي جبهات كثيرة لأنني كنت في البداية أول من ساعد إنتاجاتهم وساند مجازفاتهم وانتماءاتهم إلى التيارات الفنية الجديدة التي أسهمت بقوة في ولادتها وتطورها، بيد أنني لا أعتبر نفسي مسؤولة عما آلت إليه. فقبل 18 سنة من الآن، نشأ في الولايات المتحدة مزاج في الفن التشكيلي بالغ الجدة والأهمية. بل تيار فني مدهش هو التعبيرية التجريدية. وأنا شجعت هذا التيار بصورة لم ولن أندم عليها أبداً. بخاصة أنه أنتج بالتحديد فن جاكسون بولوك. بل ربما يصح أكثر أن نقول إن بولوك هو الذي أنتج التيار. ولعل بولوك وحده يبرر كل الجهود التي بذلتها. أما الآخرون فلست أدري أبداً ما الذي حصل لهم. لكني أعرف أن القرن الـ20 قد عرف كثيراً من التيارات الفنية الكبيرة لكني أرى دائماً أن التيار الذي يطغى على الجميع إنما هو التكعيبية التي بدلت تماماً من صورة الفن التشكيلي في هذا القرن". كاتبة هذا الكلام هي الأميركية بيغي غوغنهايم التي ما إن اكتشف النقاد ومؤرخو الفن هذه السطور القليلة في مذكراتها التي أصدرتها في عام 1960 حتى ارتبكوا وراحوا يخبطون إما رداً عليها أو تأييداً لها.

لا ناقدة ولا فنانة هاوية

فالحقيقة أن بيغي لم تكن ناقدة فنية ولا مؤرخة ولا هاوية رسم كذلك. كل ما في الأمر أنها سيدة مجتمع ابنة لعائلة أميركية ثرية نزحت إلى باريس خلال الربع الثاني من القرن الـ20 لتعيش كسيدة مجتمع سخية ولكن إلى حد ما، تلك الحياة المجنونة التي سادت عاصمة النور في مرحلة ما بين الحربين، تسعى إلى المتعة وحياة التحرر والرخاء وستقول لاحقاً، وفي مذكراتها التي ذكرناها إن تلك الحياة راحت تتجسد لها في اكتشاف ومواكبة ثلاث من الحركات الفنية التي نشأت أو تعززت في باريس في تلك الفترة وصارت هاوية لفنون لا تفقه عنها شيئاً سوى مكانتها في المجتمع وقدرتها على الاستفزاز. وبيغي إذ لم تكن ثرية كما يعتقد الناس بل ترسخ اعتقادهم لاحقاً من خلال متحف فنون القرن الـ20 الذي أقامته في مسقط رأسها النيويوركي الأميركي، ولا يزال قائماً حتى الآن لكنه وإن لا يزال باسمها حتى الآن، لا علاقة حقيقية له بها منذ العام الذي قررت هي لأسباب مالية وقانونية أن تقفل أبوابه لواحد من عمومتها الأثرياء جداً، بيغي إذ حصلت منذ بداية تكوينها على تلك المجموعة من اللوحات التي أسهمت أساساً كما هو معروف في ولادة أو دعم التكعيبية والسوريالية والتجريدية، قبل أن تستبدل ذلك كله بدعم التعبيرية التجريدية بنسخة أميركية تعلن في مذكراتها تفضيلها لها، تحدثت في مذكراتها عن إبدال التيارات التكعيبية الثلاثة بها. ولعل السؤال المهم هو: هل حقاً كان إعلانها عن ذلك التفضيل نوعاً من إعلان موت الطليعيات الثلاث وولادة تلك الطليعة الأميركية؟ وما الذي كانته وسيلتها لذلك؟

شطارة أميركية لا أكثر

ببساطة ومهما بدا الأمر غريباً هنا، يكاد مؤرخو الفن في القرن الـ20 يجيبون بكورس واحد حركته قراءة تلك المذكرات أن ذلك كان صحيحاً على رغم أن القراء قد لا يصدقونه. أجل لم تكذب بيغي غوغنهايم حين تؤكد ذلك. فهي على رغم أنها لم تكن جميلة بالمعنى الحقيقي للكلمة ولا ثرية بمعنى يبرر سلطتها الفنية في تلك المرحلة ولا ذكية أكثر من اللازم بل حتى وكما تعترف مواربة أنها لم تحب لا تلك الفنون ولا مبدعيها، فإن كونها أميركية ولأن كل ما هو أميركي كان يقابل بترحاب شديد في أوروبا لكونه واقعياً داعماً حقيقياً لكل ما هو إبداع طموح، ووعداً بغزو القارة الأميركية. ولأنها حرة من أي ارتباط وعرفت كيف تعيش عيشاً هادئاً مستفيدة من تحررها المطلق، تمكنت من ناحية من أن تحلق من حولها وفي صالونها الباريسي عدداً من أبرز فناني المرحلة من دون أن تفرق بين مستويات إبداعهم، ومن ناحية ثانية تمكنت من أن تكتشف خير طريقة للحصول على أعمالهم، وأعمال غيرهم بـ"أرخص الأسعار" كما ستروي قائلة "لقد تفاديت تماماً أن أشتري تلك اللوحات التي راح السماسرة وتجار الفن يعرضونها عليَّ. واكتفيت بأن أشتري كل يوم لوحة واحدة معروضة ولو على قارعة الطريق، أدفع فيها أسعاراً منخفضة حتى ولو كانت تحمل توقيعات مجهولين"، بمعنى أنها كانت تراهن على أن تلك اللوحات ورساميها "لا بد سينالون شهرة ما أو شهرة كبيرة لمجرد عرضها على جدران دارتي أو في معارض أسهم أنا في إقامتها". وبالفعل تمكنت بذلك من جمع عشرات اللوحات التي نعرف أن عدداً كبيراً منها سيصبح من أشهر النتاجات الفنية في القرن الـ20. ومن ثم بكلفة بالكاد تثقل على موازنتها باتت بيغي تمتلك تلك المجموعة التي حين تنتقل نهائياً إلى نيويورك بعد احتلال النازيين فرنسا، ستؤمن شحنها إلى العالم الجديد.

نجومية مفتعلة؟

كما أشرنا إذاً، تمكنت السيدة الأميركية من لفت أنظار العالم إلى مجموعتها. ولكن أيضاً إلى رسامي تلك المجموعة الذين تحولوا بفضلها إلى نجوم فن كبار - لسوف نرى في مذكراتها كيف أنها ندمت على مساندة معظمهم على تلك الشاكلة - لكنه في المقابل لم تندم أبداً على المساندة الأكثر قوة وصدقاً وخلواً من العلاقات الشخصية التي قدمتها للفنون الأميركية. فهي في نهاية الأمر وبعدما قدمت تلك الخدمة التاريخية لفنانين دعمتهم في باريس، من أندريه بريتون شاعراً ورساماً إلى يان آرب ومارسيل ديشان وموندريان وإيف تانغي وحتى جان كوكتو، ولا سيما ماكس إرنست الذي تزوجته لفترة - وهي ستلمح على أية حال أنها فعلت ذلك كي تؤمن له الحصول على الجنسية الأميركية - ساعدت معظمهم في الانتقال إلى "المنفى الأميركي" خلال الحرب، سرعان ما راحت تتناسى كل هؤلاء مستبدلة إياهم بنجوم فن أميركيين حقيقيين وعلى رأسهم بولوك كما أفادتنا في مذكراتها، إلى جانب ماذرويل وأرشيل غوركي ومارك روتكو وروبرت دي نيرو الأب وغيرهم من الذين ستلمح أن علاقتهم بها لم تكن لمصلحة متبادلة بل لما كان يميزهم من "نقاء فني" و"نزاهة اجتماعية" و"إبداع حقيقي" هم الذين سيعرفونها وقد تقدمت في العمر وبدأ سخاؤها بل حتى نفوذها الاجتماعي يغيبان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا تكلمت ماري ماكارثي

 مهما يكن من أمر هنا، فإن بيغي غوغنهايم لا تبدو حتى بقلمها في مذكراتها كامرأة مثقفة عرفت كيف تتطور تبعاً للتيارات الفنية التي عاصرتها سواء كان ذلك في باريس أو لاحقاً في نيويورك. وهو أمر كتبته عنها صديقتها الكاتبة ماري ماكارتي قبل صدور مذكرات بيغي بزمن طويل بل سيبدو وكأن صاحبة العلاقة إنما اقتبست ذلك الحكم الذي يطاولها من تلك الصديقة نفسها. ففي نهاية الأمر لم تكن بيغي تجهل محدوديتها في مجال الثقافة الفنية، تلك المحدودية التي رصدها الكل لديها وتعبر هي عن تعلقها بها بصدق وأمانة وربما تفسر في حد ذاتها ما تبنته بسرعة من إشارة كثر ممن كتبوا عنها خلال حياتها من كونها هي التي في الحقيقة أسهمت مساهمة أساسية في إحلال تيار التعبيرية التجريبية على النمط الأميركي محل كل تلك التيارات الأوروبية التي أسهمت أيضاً في نشأتها ودائماً بأبخس الأسعار ودائماً من دون أن تعرف حقاً كيف ولماذا فعلت ذلك!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة