Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"البوتينية"... هل تصبح تهديدا دائما يخشاه الغرب؟

رسخ بوتين أيديولوجيا تعزز فكرة الدولة القومية الإمبريالية ومراقبون: روسيا ستظل مثيرة للمشكلات وعلى الولايات المتحدة وحلفائها أن "يعززوا دفاعاتهم"

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي خطاباً خلال تجمع حاشد وحفل موسيقي أمام جدار الكرملين وسط موسكو (أ ف ب)

ملخص

من المرجح أن تشكل "البوتينية الجديدة" الحياة السياسية الروسية خلال الأعوام المقبلة... فكيف يتعامل الغرب؟

فاز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في انتخابات الرئاسة التي أجريت مطلع الشهر الجاري بـ 87.2 في المئة، وفي حين غاب معارضوه عن المشهد بالنظر إلى القمع وتقييد المناخ العام، فإن استطلاعات الرأي تظهر "شعبية واسعة" يتمتع بها الرئيس الروسي.

وفق أحدث بيانات نشرها موقع "ستاتيستا" العالمي، المتخصص في جمع ونشر البيانات الإحصائية، فإن شعبية بوتين بلغت في فبراير (شباط) الماضي 86 في المئة، إذ أعرب ثمانية من كل 10 روس عن تأييدهم له، وتظهر الأرقام زيادة في شعبيته عما كان قبل حرب أوكرانيا.

وبصورة عامة، بلغت أعلى نسبة تأييد لبوتين منذ أن بدأت فترة ولايته الرئاسية الأولى عام 2000 نحو 88 في المئة، وعلى رغم العقوبات الغربية التي فرضت على روسيا رداً على الحرب في أوكرانيا وقبلها الحرب في جورجيا عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول في 2014، ظلت نسبة الموافقة مرتفعة خلال السنوات التالية.

وبدأ بوتين صاحب الـ71 سنة ولاية جديدة تستمر حتى عام 2030، وبموجب تعديلات دستورية أجريت في 2020 فإنه ربما يبقى في السلطة حتى 2036.

وبطبيعة الحال، يتساءل كثيرون من سيخلف بوتين بعد أكثر من ثلاثة عقود في السلطة؟ لكن ذلك السؤال تتفرع منه أسئلة أخرى أكثر إلحاحاً، مثل شكل النظام الذي يمكن أن تكون عليه روسيا بعد بوتين، لا سيما في ظل استمرار ما يصفه المراقبون بـ"البوتينية"، وما إذا كانت روسيا ستظل ذلك التحدي الآتي من الشرق الذي ينبغي على الغرب مواجهته إلى أجل غير مسمى؟.

"البوتينية" جاءت لتبقى

يتفق المراقبون على أن الرئيس الروسي رسّخ خلال أعوام حكمه التي تتجاوز العقدين نظاماً سيظل باقياً حتى بعد رحيله، أطلقوا عليه اسم "البوتينية"، ويقول الباحثون لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن إن بوتين "أسس أيديولوجيا ’البوتينية‘ التي تعمل على تعزيز فكرة الدولة القومية الإمبريالية التي تضخمت بفعل عظمة روسيا واستثنائيتها ونضالها التاريخي ضد الغرب".

وتشير ورقة بحثية صادرة عن المركز الأميركي المتخصص في الأبحاث السياسية والأمنية في سبتمبر (أيلول) 2023 بعنوان "أيديولوجيا البوتينية: هل هي مستدامة؟"، إلى أن مذهب الدولة الذي يشكل ركيزة أساسية في أيديولوجيا بوتين، يقوم على احترام الدولة القوية المستقرة والسماح للروس بأن يكونوا روساً، وتستند هذه الدولة إلى الاستثنائية والقيم التقليدية.

وبحسب الورقة البحثية، هناك ركيزة أخرى تتمثل في معاداة الغرب التي عندما تقترن بالاستثنائية الروسية، فإنها تروّج لـ"فكرة مسيانية" عن روسيا، باعتبارها قوة عظمى ودولة حضارية تحرس التعددية الثقافية التي تتمحور حول روسيا والأسرة التقليدية والأدوار بين الجنسين، وتعمل حارساً ضد المادية والفردية.

وهذه الأيديولوجيا ليست واضحة في النصوص الفلسفية، لكن في غالبية الأحيان يجري استيعابها من خلال العلامات والرموز والثقافة الشعبية، مما يجعلها مرنة وسهلة الهضم بالنسبة إلى الأشخاص الأقل تعليماً.

وتذهب الورقة البحثية إلى أن مرونة آلة أيديولوجيا بوتين وبساطة السرديات التي تنشرها "لن تنقضي قريباً، بل ربما تصبح أكثر رسوخاً في المجال الاجتماعي الروسي"، مما يعني أنه حتى مع خروج بوتين من الصورة سواء لكبر سنه أو لانقلاب ما، فإن البوتينية ستستمر، كما يتوقع مراقبون أن تضمن النخبة السياسية والاقتصادية في روسيا "انتقال السلطة من بوتين إلى شخص آخر سيكون مثل بوتين تماماً".

يقول المحاضر لدى مدرسة موسكو العليا للعلوم الاقتصادية والاجتماعية نيكيتا شافين، "الأكثر واقعية، من ثم خطورة على النظام، هي محاولات إنقاذ النظام وتطبيعه من الداخل. وقد يبدو مثل هذا السيناريو، ’البوتينية من دون بوتين‘، أكثر جاذبية ليس فقط في نظر النخب، بل أيضاً في نظر شريحة كبيرة من الشعب الروسي الذي كان راضياً إلى حد كبير عن النجاحات الاقتصادية التي تحققت خلال العقود الأخيرة. فكان هناك نمو طبيعي في الطلب على مثل هذا البديل، إذ حاول نظام بوتين التعويض عن إخفاقاته العسكرية من خلال الهستيريا القمعية المزعزعة للاستقرار والسلوك الاقتصادي غير العقلاني".

وبينما من المتوقع استمرار البوتينية من دون بوتين، يبقى التساؤول هل هذا يعني استمرار التهديد الروسي للجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي؟.

عاشت أوروبا الوسطى والشرقية في ظل روسيا لأعوام، حتى في التسعينيات عندما كانت روسيا ضعيفة، ولم تعارض انضمام بولندا وجمهورية التشيك والمجر إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وكان الخوف من روسيا نابعاً من الصدمة التاريخية وذكرى عقود من الهيمنة والسلوكات السياسية والعسكرية والاقتصادية القاسية. ثم جاء عصر بوتين الذي بدأ أعمالاً عدوانية ضد جيرانه، إما عن طريق ترهيبهم أو باستخدام الجيش بصورة مباشرة لممارسة الضغط مثلما حدث في جورجيا وأوكرانيا، مما يعتبره المراقبون إحدى ركائز البوتينية في إثبات فكرة الدولة الإمبريالية القومية.

3 أهداف جيوستراتيجية

خلال ندوة استضافها مركز تحليل السياسات الأوروبية في فبراير (شباط) الماضي، أشار الباحثون إلى أن روسيا تبدو ملتزمة بصورة دائمة بثلاثة أهداف جيوستراتيجية، أحدها الهيمنة الإقليمية والسياسية والاقتصادية والعسكرية على إمبراطوريتها السابقة، مما يمكن أن نعتبره فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي على نطاق واسع، والثاني تقويض مؤسسات وهياكل القوى الغربية التي أعاقت تلك الهيمنة، سواء كان ذلك تماسكاً عسكرياً أو تماسك المشروع الأوروبي ومشروع شمال الأطلسي وحلف شمال الأطلسي أو هياكل القوة الاقتصادية التي تجعل فرض العقوبات فاعلاً وتعرقل السياسة الروسية، والثالث اندماج الاستبداد الداخلي مع الصراع الدولي، مما يسمح للكرملين باستخدام الصراع الدولي والمواجهة الجيوسياسية سلاحاً لأغراض فرض الهيمنة السياسية والاقتصادية المحلية، فضلاً عن تسليح النظام الروسي بأكمله بصورة أساسية.

يقول المحاضر لدى جامعة ريجينت بولاية فرجينيا في الولايات المتحدة روب شوارزوالدر إن "البوتينية" تنظر إلى الدولة، المكونة من النخب والحكومة وجميع جوانب الحياة العامة، باعتبارها "الواقع الشامل للأمة"، ويشبّه البوتينية بـ"النازية والماركسية، فالاثنتان سيطرتا على الأسرة والكنيسة والمؤسسة العسكرية والاقتصاد وكل شيء آخر، وبالمثل فإن بوتين ينظر إلى روسيا من الناحية الشخصية باعتبارها كياناً تسير فيه الأمة بأكملها من دون معارضة لأيديولوجيته".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف أنه على رغم أن بوتين يقر بإيمانه المسيحي الأرثوذكسي، فإن إيمانه الفعلي يرتكز على اعتقاد غامض في روسيا كياناً دينياً وسياسياً فريداً من نوعه. وكما كتب أحد الباحثين، فإن بوتين يؤمن "بهوية الشعب الروسي وقيمه التي لا تتغير على مر القرون"، وهذا أكثر من مجرد حب وطني، إنها قومية متعجرفة تؤكد تفرّد وتفوق روسيا الأم بين مجتمع الأمم، مما يفسر أيضاً لماذا يستطيع بوتين أن يبرر ما هو غير مبرر، الهجوم الدموي على جار مسالم. "إن توحيد الشعب الروسي في ظل دولة واحدة مشتركة هو مسألة جمع أبناء الأم الضالين، سواء شاؤوا ذلك أو لا."

وعليه يعتقد شوارزوالدر، ويتفق معه باحثون آخرون، بأن روسيا "ستظل مثيرة للمشكلات"، ومن ثم فإنه بهدوء وثبات، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن "يعززوا دفاعاتهم"، وفي الوقت نفسه أن يعلموا بوتين (ومن يأتي بعده) أن أي توغل من جانب روسيا في أي دولة أخرى "سيقابل بضربة يواجه نظامه صعوبة في التعافي منها".

ويقول الزميل لدى مركز تحليل السياسات الأوروبية وجامعة تافتس بافيل لوزين إنه لا مفر من هزيمة روسيا لأنها ليست قضية الحرب الروسية - الأوكرانية، بل قضية أمن أوروبا وأمن الولايات المتحدة، إنها مسألة أمن الديمقراطية وسلامة هذا العالم.

ومع ذلك، يرى الأستاذ لدى كلية كينغز لندن ومدير برنامج أوراسيا لدى معهد كوينسي في واشنطن أناتول ليفين أنه على رغم الحرب المستمرة في أوكرانيا التي يتزايد معها خطر انزلاق "ناتو" وروسيا في حرب نتيجة لاشتباك ما غير مقصود، فإن روسيا أو بالأحرى "البوتينية" لا تشكل تهديداً خطراً لأوروبا، إذ لا نية لشن هجوم تقليدي على الاتحاد الأوروبي و"ناتو". وأكد بوتين مراراً، وكان آخرها في مقابلته مع المذيع الأميركي تاكر كارلسون، أن روسيا ليست لديها أي نية أو مصلحة في شن هجوم على حلف شمال الأطلسي ما لم يهاجم "ناتو" روسيا.

تهويل خطر البوتينية

ويعتقد ليفين بأن هناك مجموعة كاملة من الأسباب الموضوعية في الأقل التي تدفع إلى صدقية تصريحات بوتين، فمن ناحية كشفت روسيا عن نفسها باعتبارها قوة عسكرية أضعف كثيراً مما كان يُعتقد ومما افترضه بوتين قبل الحرب، ويتجلى ذلك في عدم قدرته على حسم المعركة في أوكرانيا سريعاً، فعلى رغم التقدم الحالي والنجاحات تكبّد الجيش الروسي طوال عام 2022 كثيراً من الخسائر، وألحق الأوكرانيون أضراراً بالغة بالأسطول الروسي في البحر الأسود. وكان المقصود من تهديدات بوتين النووية ردع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي عن التدخل بصورة مباشرة في أوكرانيا. ومع ذلك، في ما يتعلق بتحركاتها ضد "ناتو"، كانت الحكومة الروسية حتى الآن حذرة للغاية، على رغم المساعدة الهائلة التي قدمها الحلف إلى كييف.

ويؤكد أستاذ السياسة البريطاني اعتقاده بأن روسيا ليست ذلك التهديد الذي يظنه الغرب قائلاً "منذ أن ظهرت قضية توسع حلف شمال الأطلسي للمرة الأولى في منتصف التسعينيات، أخبرني المسؤولون الروس والصحافيون ومثقفو السياسة الخارجية أنه على رغم أنهم لا يهتمون حقاً بأوروبا الشرقية أو حتى دول البلطيق، فإن خوفهم كان من أن ناتو لن يعرف كيف يتوقف، وأنها إذا هددت بالاستيلاء على أوكرانيا، فسيتعين على روسيا القتال".

ويضيف أنه "طوال تلك العقود الثلاثة، لم تخبرني أي مؤسسة روسية على الإطلاق أن موسكو قد تهاجم بولندا، والمرة الوحيدة التي أثيرت فيها هذه المسألة بالإشارة إلى دول البلطيق كانت إذا قامت ليتوانيا بحصار جيب كالينينغراد الروسي". ومن ثمّ يؤيد ليفين قبول عرض بوتين إجراء محادثات سلام والدبلوماسية الهادئة والحكيمة والمهتمة بالمصالح الذاتية الأوروبية والواقعية بدلاً من النظر إلى روسيا من منظور عسكري فقط.

"النيوبوتينية"

ويشير شافين من مدرسة موسكو إلى ما يسمى "النيوبوتينية" أو "البوتينية الجديدة" التي من المرجح أن تشكل الحياة السياسية الروسية خلال الأعوام المقبلة، وهي قادرة على توحيد الأوليغاريشية وبيروقراطيي الدولة والمواطنين الذين سئموا الحرب والصعوبات الاقتصادية، لكنهم في الوقت نفسه ليسوا مستعدين للتغيير الجذري، ونتيجة لذلك فإن البوتينية الجديدة تمثل واحدة من أخطر التهديدات الداخلية لسلطة بوتين.

ويقول شافين إن البوتينية الجديدة لديها القدرة على أن تكون حافزاً لإنهاء الحرب وتغيير السلطة، وعلى رغم حال عدم اليقين التي يوحي بها هذا الأمر، فإنه يقوض هيمنة نظام بوتين ويقسمه من الداخل. ومع استمرار حرب أوكرانيا، ستبدأ البوتينية الجديدة باتخاذ لهجة مناهضة للحرب بصورة متزايدة والبحث عن أرضية مشتركة مع القوى الأخرى المناهضة للحرب. وفي تلك اللحظة، سيكونون حلفاء طبيعيين، ومن خلال التكامل مع القوى الأخرى المناهضة للحرب يتسنّى للبوتينية الجديدة أن تتخذ شكلاً أيديولوجياً، وتصبح بديلاً مناسباً لنظام بوتين الشخصي.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير