Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الهجرة السرية في المغرب... جنائز بلا جثامين

تمكنت السلطات الأمنية من إحباط أكثر من 75 ألف محاولة للهجرة غير الشرعية خلال عام 2023

كشفت وزارة الداخلية المغربية أن عمل شبكات الاتجار بالبشر لم يعرف أي تراجع (اندبندنت عربية)

ملخص

تكلف العملية مبالغ تتراوح ما بين 1500 و5 آلاف دولار للشخص الواحد، تضطر معها الأسر المنحدرة من القرى والمدن الصغيرة إلى بيع جزء من أراضيها الزراعية ومواشيها ومنازلها لتوفير المبلغ.

مرت تسعة أشهر على فقدان 51 من أبناء مدينة قلعة السراغنة (80 كيلومتراً شمال مدينة مراكش)، وآخر ما عرفته عنهم عائلاتهم أنهم كانوا على متن قارب لا يزيد طوله على ستة أمتار متوجهين نحو الضفاف الأوروبية.

ولا تزال أمهات المفقودين من المهاجرين السريين أو من يطلق عليهم محلياً "الحراكة" تضعن أيديهن على قلوبهن كلما رن هاتف أو طرق الباب.

وبعد وقفات احتجاجية عدة في الشارع العام وأمام إدارات وزارة الداخلية والقنصليات والمحاكم، ومناشدة المسؤولين كشف حقيقة ما وقع وإلقاء القبض على المتسببين في هذه الحادثة الأليمة، لم يكشف بعد عن مصير هؤلاء المفقودين إلى حدود كتابة هذه الأسطر.

"اندبندنت عربية" عملت خلال هذا التحقيق على تتبع مسار المرشحين للهجرة السرية، انطلاقاً من المغرب ووصولاً إلى الضفاف الأوروبية، في رحلات ذهاب من دون عودة، منظمة من قبل شبكات تهريب البشر والاتجار فيه.

 

رحلات الضياع

في ليلة العاشر من يونيو (حزيران) الماضي 2023 بدأت رحلة ضياع 51 من شباب منطقة العطاوية التابعة لإقليم قلعة السراغنة، انطلاقاً من سواحل مدينة أغادير على المحيط الأطلسي في اتجاه جزر الكناري التابعة للسلطات الإسبانية، وهي أقرب نقطة بين الأرخبيل الإسباني والمغرب وتقدر بـ 110 كيلومترات.

وإذا كانت المسارات الاعتيادية للوصول إلى السواحل الاسبانية تنطلق من مدينة طنجة ونواحيها، فقد عرفت الأعوام الأخيرة تحولاً في ما يخص نقاط انطلاق قوارب الهجرة السرية، إذ باتت أقاليم المغرب الجنوبية مسلكاً لمحاولات الهجرة نحو إسبانيا من خلال إبحار القوارب نحو جزر الكناري.

 

 

أحمد الحرشاوي (28 سنة) واحد من هؤلاء الشباب الذين غادروا قبل تسعة أشهر من دون أن يصلوا إلى وجهتهم، أو تصل أخبار تطمئن أهاليهم وأمهاتهم ممن أصيبت كثير منهن بأمراض نفسية وعصبية، وفق ما أكدته عتيقة والدة الشاب لـ "اندبندنت عربية"، موضحة أن "الظروف الاقتصادية الصعبة وقلة فرص العمل دفعا ابنها مع 50 آخرين من اليافعين والشباب إلى المخاطرة بحياتهم".

وبدأت الحكاية حين قرر أحمد خوض المغامرة من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لأسرته التي تعولها والدته، "هو أكبر أبنائي، كان خير معين لي وإخوته بعد وفاة والده، اشتد الجفاف ولم نجد عملاً، فقرر الهجرة (الحريك)" تقول الأم عتيقة.

وعلى رغم الظروف الاقتصادية السيئة لعدد من أسر وعائلات الراغبين في الهجرة السرية إلا أن هذه العملية تكلف مبالغ تتراوح ما بين 1500 و5 آلاف دولار للشخص الواحد، تضطر معها الأسر المنحدرة من القرى والمدن الصغيرة إلى بيع جزء من أراضيها الزراعية ومواشيها ومنازلها لتوفير المبلغ.

 

 

وبالنسبة إلى أحمد ووالدته فقد تدبرا المبلغ من طريق الاقتراض، "لا زلت أسدد مبلغ 3500 دولار، ويا ليت ابني يعود لأحضاني فلم أعد أريد شيئاً".

وهذه المبالغ التي تعتبر ثروات صغيرة لأسر تعيش الفقر والهشاشة الاقتصادية، تسلم لوسطاء يطلق عليهم محلياً "سماسرية"، باعتبارهم حلقة الوصل بين هؤلاء المراهقين والشباب، وبين أصحاب القوارب المطاطية والخشبية التي لا يزيد طولها في أحسن الأحوال على تسعة أمتار.

وسيط المآسي

وتطالب والدة أحمد والمتحدثة باسم أسر باقي الضحايا الـ 50 بالكشف عن مصير أبنائها ومتابعة ومحاسبة من كان سبباً في فقدانهم، والضرب بقبضة من حديد على يد كل المتاجرين بالبشر عبر قوارب الموت، مؤكدة أن "بعض هؤلاء السماسرة لا يزالون فارين من العدالة من دون أن يقول القضاء كلمته فيهم وينصف الضحايا وأسرهم المكلومة".

 

 

وهؤلاء الوسطاء (السماسرة) ليسوا غريبين عن المدن والقرى التي يصدرون منها الشباب والمراهقين، وفق ما أكدته كل الأسر التي تحدثت إليها "اندبندنت عربية"، بل حتى إنهم يتمتعون بشهرة واسعة وسط الشباب واليافعين، ويتخذون من منازلهم إلى جانب مقاه مقار لهم يستقطبون فيها ضحاياهم ويجرون اتفاقاتهم ويتسلمون فيها المبالغ المتفق عليها.

مصدر مطلع، تحفظ عن ذكر اسمه وصفته، أكد لنا أن الأسباب التي تمنع السلطات من إلقاء القبض على هؤلاء السماسرة يعود لغياب شكاوى في حقهم. وتابع، "لم تعمل العائلات على وضع الشكاوى إلا بعد فقدان القارب ومعه عشرات الأبناء، ولو وصل القارب بسلام لوجهته لعد هؤلاء الوسطاء والسماسرة أبطالاً".

 

وعلى رغم الظروف الاقتصادية السيئة لعدد من أسر وعائلات الراغبين في الهجرة السرية إلا أن هذه العملية تكلف مبالغ تتراوح ما بين 1500 و5 آلاف دولار للشخص الواحد، تضطر معها الأسر المنحدرة من القرى والمدن الصغيرة إلى بيع جزء من أراضيها الزراعية ومواشيها ومنازلها لتوفير المبلغ.

 

 

وعبر الهاتف ربطنا الاتصال بوسيط (سمسار) بمنطقة "سوق السبت" قرب مدينة بني ملال، وأخبرناه أن شابا من أقاربنا يرغب بـ "الحريك"، وأن صديقاً تمكن من الوصول إلى إسبانيا بمساعدته دلنا عليه.

في البداية رحب بنا الرجل ويدعى عبدالعالي، وتحدث بكثير من اللباقة والدعاء بتيسير الأمور، وحين طلبنا مزيداً من التفاصيل وأبدينا رغبتنا في التفاوض حول المبلغ المطلوب أخبرنا أن "نلتقيه في المقهى المعلوم"، وفق تعبيره، وسألناه عن العنوان بالضبط فرد بطريقة متشنجة "صديقكم سيدلكم على مكاني" وأقفل الخط.

شجرة تخفي غابة

عبدالعالي، وغيره من السماسرة والوسطاء، وعلى رغم تصدرهم واجهة شبكات مهربي البشر والتغرير بالشباب، إلا أنهم طرف بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة، وهو من يتكلف بالاستقطاب والتنسيق والتفاوض واستخلاص الأموال وتتبع مراحل عملية الهجرة السرية من هنا إلى هناك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والمعطيات التي تقصتها "اندبندنت عربية"، وفق تصريحات وسيط سابق يدعى مصطفى (اسم مستعار)، كشفت عن أن قارباً واحداً يكلف متزعم شبكة الهجرة السرية مبلغاً يتراوح بين 10 و15 ألف دولار، وفقاً لنوع القارب وطوله الذي يتراوح بين ستة أمتار ويمكنه من حمل 45 شخصاً، والقارب بطول تسعة أمتار الذي يستوعب 60 شخصاً، وغالباً ما يكون عدد المرشحين للهجرة الذين تبحر بهم هذه القوارب أكبر من القدرة الاستيعابية بكثير.

 

 

ولا تتوقف الأموال التي يصرفها زعيم الشبكة عند هذا الحد، وفق المتحدث، فمن اللازم أن يزود القارب بمحرك يكلف ما بين 4 و5 آلاف دولار.

أما الوسيط أو السمسار فيستفيد من نسبة 10 في المئة عن كل مرشحة أو مرشح استقطبه ونسق معه، فيما يتفق مع السائق أو من يطلق عليه محلياً "الرايس" على مبلغ محدد في مقابل كل رحلة، قبل أن يعود أدراجه مجدداً للشواطئ المغربية.

والتواصل الهاتفي مع الوسيط تليه لقاءات ومفاوضات قبل أن يتفق على مبلغ تذكرة السفر ومكان التجمع وزمانه، وحين يكتمل العدد يعبأ القارب ويبحر في اتجاه أوروبا.

بحث وتحقيق

وبالعودة للوسطاء المتورطين في اختفاء 51 من شباب منطقة العطاوية، أطلقت القوى الأمنية البحث والتحقيق فور استماعها إلى عدد من آباء وأمهات الضحايا في محاضر رسمية، وقبل أن تباشر عناصر الشرطة القضائية بولاية مدينة مراكش التحقيق وتوقيف أربعة من المتورطين في المأساة حيث يمثلون أمام القضاء.

 

 

أصوات حقوقية مغربية طالبت بوضع اليد على المتاجرين في الهجرة السرية ممن يعرضون حياة الأشخاص من الشباب للخطر، وشدد "المركز المغربي لحقوق الإنسان" بمدينة قلعة السراغنة على أن هذا الوضع المأسوي يستدعي من السلطات المختصة تكثيف الجهود من أجل معرفة مصير المفقودين أولاً، ناهيك عن معاقبة المتسببين في هذه الحادثة الأليمة ليكونوا عبرة للمتاجرين في الأرواح البشرية.

الاتجار في البشر مزدهر

وعلى رغم محاولة السلطات المغربية مواجهة الهجرة غير النظامية من خلال عمليات اعتقال في صفوف هذه الشبكات، كشفت وزارة الداخلية المغربية في الـ 23 من يناير (كانون الثاني) الماضي أن عمل شبكات الاتجار بالبشر لم يعرف أي تراجع.

وأعلنت السلطات المغربية تفكيك أكثر من 419 شبكة (+44 في المئة مقارنة بـ 2022)، وأضافت أن تلك الشبكات تعمل باستمرار على تطوير إستراتيجياتها وتجميع خدماتها وأنشطتها الإجرامية.

معطيات وزارة الداخلية في المغرب كشفت أن السلطات الأمنية تمكنت من إحباط 75184 محاولة للهجرة غير الشرعية خلال عام 2023، بارتفاع نسبته ستة في المئة مقارنة بعام 2022.

 

 

وإضافة إلى هذه الجهود صادقت الحكومة في الـ 17 من مارس (آذار) 2023 على الخطة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر والوقاية منه 2023-2030، ومخطط العمل الوطني لتنزيلها وتعزيز آليات الحماية، من خلال إنشاء منصة رقمية للتبليغ عن الضحايا المحتملين وتفعيل أماكن الإيواء الموقت لضحاياه، مع تعزيز آليات التواصل والتوعية.

إجراءات وقوانين لا يبدو أنها تحقق نتائج إيجابية على أرض الواقع، إذ أقرت المملكة التي تعتمد في محاربتها للهجرة غير الشرعية على أنظمة مراقبة الحدود والسواحل، أنها "واصلت خلال 2023 مواجهة ضغوط هجرة مستمرة ومتزايدة، في وسط إقليمي غير مستقر ومحفوف بأخطار عدة".

القانون لمحاربة شبكات الاتجار بالبشر

وهذا الوضع دفعنا نحو التوجه إلى النائبة البرلمانية فاطمة التامني التي أكدت أن الأدوات القانونية والأمنية كفيلة بمحاربة شبكات الاتجار في البشر، ذلك أن مواجهتها والحد منها مسألة قانونية صرفة والمفروض أن تؤخذ بالجدية اللازمة، وتساءلت "هل هناك تساهل مع أعضاء شبكات الهجرة السرية وعلى رأسهم الوسطاء؟ أم أن الموضوع لا يولى ما يستحقه من عناية واهتمام؟".

 

معطيات وزارة الداخلية في المغرب كشفت أن السلطات الأمنية تمكنت من إحباط 75184 محاولة للهجرة غير الشرعية خلال عام 2023، بارتفاع نسبته ستة في المئة مقارنة بعام 2022.

 

 

ولم يفت النائبة عن حزب "فيدرالية اليسار الديمقراطي" الإشارة إلى ضرورة معالجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لكافة مكونات الأسرة، مع استحضار مصلحة الشباب ومستقبلهم وآفاقهم، إضافة إلى الحرص على أمن وسلامة هؤلاء الشباب واليافعين نساء ورجالاً، باعتبارهم مواطنات ومواطنين يقعون ضحية الوسطاء والمتاجرين بالمآسي.

الانتحار غرقاً

وإلى نواحي مدينة الفقيه بن صالح، وهي واحدة من بين أكثر المدن التي يهاجر أبناؤها إلى الدول الأوروبية وبخاصة إسبانيا وإيطاليا، التقت "اندبندنت عربية" أمين البالغ من العمر 25 سنة، وقد عاد قبل أشهر من مدينة الداخلة (جنوب)، وكانت وجهته التالية جزر الكناري على متن قارب خشبي متهالك تكدس فيه 47 شخصاً إلى جانب السائق.

دفع أمين 2000 دولار لوسيط رتب له موعداً للسفر، وبقي ينتظر أسبوعين ريثما تهدأ أمواج الأطلسي إلى أن حانت اللحظة الموعودة حين تلقى اتصالاً هاتفياً من الوسيط (السمسار) يخبره بضرورة إعداد العدة واقتناء القليل من الخبز والفواكه الجافة قبل الانطلاقة منتصف الليل.

 

 

اتصل أمين بوالدته وأخبرها بتفاصيل المكالمة والرحلة، وانقطعت بعد ذلك كل الأخبار لمدة أسبوع تاه خلالها القارب، "نفذ الطعام والماء، ولم نر اليابسة لأيام، وفي اليوم الثالث دخل مراهقون وشباب ونساء في حال هذيان".

ولم يستطع أمين حبس دموعه المنهمرة، تذكر رفيق رحلة الموت وواحد من أبناء الحي، كان شابا في الـ 19 من العمر، حاول أكثر من مرة الانفلات صوب البحر إنهاء لحياته، "أصابته حال هياج شديدة، بكى ونادى والدته باسمها وأخبرها أنه جائع، طلب منها أن تفتح له الباب لأنه عاد، قمنا بتهدئته، وفي الليل رمى جسده في الماء منتحراً من دون أن يحس به أحد".

أمين الذي نجا رفقة 19 آخرين من أصل 47 بفضل باخرة وجدتهم وأخبرت خفر السواحل التابعة للبحرية الإسبانية، لا يزال يتابع حصص العلاج النفسي، مؤكداً أنه "لن يفكر أبداً في إعادة التجربة مهما كانت الظروف، حتى البحر لم أعد أطيق الجلوس أمامه".

 

 

 وفي سياق متصل أعلنت السلطات المغربية في الـ 28 من فبراير (شباط) الماضي أن ثمانية من الشباب المغاربة لقوا مصرعهم غرقاً بمياه البحر الأبيض المتوسط بسبب انقلاب القارب الذي يقلهم لهبوب الرياح وارتفاع علو أمواج البحر، فيما تمكنت من إنقاذ تسعة أشخاص آخرين، وتحاول البحث عن مفقودين محتملين والوصول إلى جثثهم.

آلاف الجثث اتخذت من قعر البحر الأبيض المتوسط ومن المحيط الأطلسي مقبرة لها، إلا أن آلاف المهاجرين تمكنوا من الوصول إلى الضفاف الأخرى وبدء حياة جديدة.

فيرونا الإيطالية

ولم يكن من السهل علينا إقناع هشام (اسم مستعار) بالحديث إلينا، وهو مهاجر غير شرعي يعمل ويعيش في مدينة فيرونا الإيطالية، بعد أن نقلته رحلة على متن قارب خشبي من شاطئ "واد المرسى" قرب مدينة طنجة صوب السواحل الإسبانية، قبل أن يتنقل خفية إلى إيطاليا بمساعدة أحد أفراد عائلته الذي أقله بالسيارة.

خمسة أعوام من العمل في حقول أشجار الزيتون في الشمال الإيطالي لم تشفع لهشام للحصول على بطاقة إقامة، إلا أنه يوفر القليل من المال الذي يرسله لوالدته لتستعين على تربية وتعليم أخواته.

يقول، "كنت طالباً جامعياً في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة تطوان إلا أن الظروف المادية كانت صعبة جداً، فلم أستطع تحمل أن تستمر والدتي في مدي بمصروف دراستي وتنقلي، أما الآن فأنا أعيل أسرتي وحريص على أن تتابع شقيقاتي دراستهن".

 

 

وبالنسبة إلى الخبير الاقتصادي محمد جدري فإن الناجين من المغامرة المحفوفة بالأخطار ممن نجحوا في الوصول إلى أوروبا يبعثون أموالاً بالعملة الصعبة إلى أسرهم، وهو أمر يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، إلا أن الآثار السلبية للهجرة السرية تبقى أكبر بكثير لأن المغرب بحاجة إلى كل سواعده وشبابه.

 

مشهد تسلل قاصرين وشبان إلى شاحنات النقل الدولي المتوجهة إلى الدول الأوروبية بات من الروتين اليومي للمسؤولين والعاملين بميناء طنجة المتوسط

 

ويوضح جدري أن المغرب "يفقد مئات بل آلاف الشباب في مقتبل العمر ممن بإمكانهم الإسهام في تنمية البلاد وخلق الثروة، وبخاصة من هم قادرون على العمل في قطاعات الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها".

ويضيف الخبير الاقتصادي أن المملكة ترصد أعداداً كبيرة من الجيش ورجال الدرك الملكي والبحرية الملكية لحراسة السواحل الممتدة والمحفوفة بالأخطار، وهو ما يكلف أموالاً طائلة كان من الممكن توظيفها في تطوير عدد من القطاعات.

تتعدد الطرق والهجرة واحدة

مخطئ من يعتقد أن طرق الهجرة السرية في المغرب مقتصرة على القوارب الخشبية والمطاطية وحتى الدراجات المائية، ذلك أن الشباب المرشحين للهجرة يلجأون إلى لتسلل خلسة لشاحنات النقل الدولي أو بمحاذاة محركات حافلات المسافرين العابرة من المغرب نحو أوروبا، وهي الطريقة التي كانت سبباً في إزهاق كثير من الأرواح بسبب الاختناق أو التمزق لأشلاء في حوادث مأسوية وبشعة.

وهو ما أكده لنا زكريا ذو الـ 16 سنة، والقادم من قرية "أولاد يوسف" أقصى شمال البلاد، وبالضبط في محيط ميناء طنجة المتوسط، حيث يتجول ويترصد الفرصة المناسبة منذ أزيد من 10 أيام.

 

 

وحين سألناه إن كان وسيطاً ما سيتكلف بتدبير رحلته، أكد أنه لم يتعامل مع أي وسيط، "لا أملك أي مال وأتسول الطعام والشراب، وأقضي الليل في الشارع وأتحين الفرصة المناسبة لأتسلل إلى إحدى شاحنات المقطورات المحملة بالسلع نحو إيطاليا أو بلجيكا".

ومشهد تسلل قاصرين وشبان إلى شاحنات النقل الدولي المتوجهة إلى الدول الأوروبية بات من الروتين اليومي للمسؤولين والعاملين بميناء طنجة المتوسط، وهو ما أكده لنا مصدر في إدارة الجمارك بالميناء الأكبر بأفريقيا والبحر الأبيض المتوسط، غير مخول له التصريح للصحافة، موضحاً أن "المراقبة تمر بمراحل دقيقة عبر الاستعانة بجهاز ’سكانر‘ والكلاب المدربة وكاميرات المراقبة والتفتيش اليدوي الدقيق لكل الشاحنات".

ووفق إحصاءات رسمية حديثة فقد كشف عن توقيف السلطات المغربية نحو 90 مرشحاً للهجرة السرية، معظمهم من القصّر، بشكل يومي في محيط ميناء طنجة المتوسط، وبلغ عدد الموقوفين خلال عام 2023 ما مجموعه 4244 مغربياً، وبعد التأكد من هوياتهم يصطحبون إلى مدنهم الأصلية عبر حافلات مخصصة لهذا الغرض.

والأرقام توضح استفحال الظاهرة واستحواذها على أفكار عشرات آلاف الشباب المغاربة، وهو ما علقت عليه الاختصاصية النفسية بشرى المرابطي بأن "المرشحين للهجرة السرية يعون أنها مغامرة قد تنجح وقد تفشل، ولقد وصلوا إلى مرحلة تساوى في نظرهم الموت والحياة".

وأوضحت الباحثة في علم النفس الاجتماعي أن نسبة الإحباط لدى هؤلاء الشباب عالية جداً، مما يولد حالاً من الحزن والغضب والرغبة في المغامرة حتى الموت.

وأفادت المرابطي بأن هؤلاء المهاجرين يتصفون عموما بكونهم عاطلين من العمل ويعانون الأمية ولا يتقنون أية حرفة، كما أن بعضهم خاض تجربة السجن وتعاطي المخدرات، كما يعانون الرفض الاجتماعي وعدم التقبل، وقد يكون منهم من حاول مراراً إيجاد عمل من دون جدوى.

المآسي المتتالية وخيم العزاء المنصوبة باستمرار في عدد من القرى والمدن الفقيرة والصغيرة في وداع أرواح من دون جثامين لم توقف أبداً شبابا آخرين راغبين في العبور صوب الضفاف الأوروبية، ولا يزالون يحاولون التواصل مع وسطاء وسماسرة، فيما يهيم آخرون قريباً من موانئ المملكة عسى أن يجدوا سبيلاً للتسلل إلى إحدى المقطورات أو الحافلات. 

إنه واقع يتطلب من مسؤولي المغرب وضع حد للظاهرة التي تفقد معها البلاد ثروة مهمة من أبنائها وبناتها، ولا يزال النزف مستمراً.

المزيد من تحقيقات ومطولات