Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحرقة"... رحلة الموت من تونس إلى السواحل الإيطالية 

"اندبندنت عربية" تزور مخيمات للمهاجرين غير الشرعيين في منطقة العامرة بمدينة صفاقس

ابتلع البحر الأبيض المتوسط حوالى 1800 مهاجر في 2023 (اندبندنت عربية)

ملخص

في واقع اقتصادي واجتماعي مترد باتت أوروبا حلم الغالبية الساحقة من التونسيين شباباً وعائلات، بينما تنتعش شبكات تهريب البشر، ويتكدس المهاجرون من أفريقيا جنوب الصحراء في البلاد."اندبندنت عربية" تزور مخيمات للمهاجرين غير الشرعيين في منطقة العامرة بمدينة صفاقس

في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، لم تكن أوروبا مغرية بالنسبة إلى التونسيين، كما أن غالبية الدول الأوروبية لم تكن تفرض عليهم التأشيرة، بل أن السفر إلى إيطاليا بالنسبة للشباب التونسي آنذاك، لم يكن يتطلب سوى جواز سفر، وتذكرة عبور على متن الباخرة، كما لم يكن سعر العملات الأوروبية مغرياً مقارنة بسعر الدينار التونسي.

تغيرت السياقات السياسية والاقتصادية وتوجهت دول الاتحاد الأوروبي نحو التكتل واستعمال عملة موحدة (اليورو)، في المقابل، واجه الاقتصاد التونسي بداية من ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، صعوبات بالجملة منها ما هو طبيعي، ناتج من الجفاف لاعتماد الاقتصاد الوطني على الزراعة، ومنها ما هو مرتبط ببرنامج الإصلاح الهيكلي الذي مثل بداية ارتهان الاقتصاد التونسي للأقطاب الصناعية الكبرى وللمؤسسات المالية الدولية.

 

ومع مرور الزمن لم يعد المنوال التنموي في تونس منتجاً للثروة، فتفاقمت البطالة، بخاصة من أصحاب الشهادات العليا، وباتت الهجرة نحو أوروبا حلماً يراود التونسيين، بينما اتجهت دول الاتحاد الأوروبي إلى مزيد من التضييق على المهاجرين، واعتماد سياسة انتقائية تقوم على استقطاب وتوظيف الكفاءات العليا من أطباء ومهندسين.

تغيرات

جملة تلك المتغيرات، جعلت من الهجرة السرية ظاهرة مركبة ومعقدة يتداخل فيها الأمني بالسياسي بالاقتصادي والاجتماعي، وتزامن ذلك مع تأزم الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في دول أفريقيا جنوب الصحراء، وتدفق عشرات الآلاف من المهاجرين واللاجئين من تلك الدول على تونس، للعبور إلى السواحل الإيطالية، وباتت تونس في مواجهة محنة مزدوجة في علاقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية والتي فاقمها تدفق آلاف المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء.

ويتقاسم هؤلاء المهاجرين الهدفَ نفسه مع عدد كبير من التونسيين الراغبين في الهجرة إلى أوروبا، فاتسعت شبكات الوساطة في تنظيم الهجرة أو ما يعرف في تونس بـ"الحرقة"، وأصبح تنظيم رحلة محفوفة بالأخطار إلى السواحل الأوروبية ملاذ شبكات مركبة تتقاطع فيها الجوانب المالية واللوجيستية والأمنية.

فما هو واقع هذه الشبكات في تونس؟ وما حجم ظاهرة المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء؟ وهل نجحت تونس في الحد من ظاهرة الهجرة السرية إلى السواحل الإيطالية؟

 

 

تحتل ولاية صفاقس (جنوب) صدارة الجهات التونسية في عدد عمليات الهجرة السرية نحو السواحل الإيطالية، كما تعتبر وجهة المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء.

وتمكنت "اندبندنت عربية" بمساعدة أحد سكان منطقة العامرة من ولاية صفاقس وعبر مسالك زراعية ملتوية من الوصول إلى مخيمات آلاف من المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء، وسط غابات الزيتون المعروفة بها مدينة صفاقس.

وتقوم قوات كبيرة من الحرس الوطني بمراقبة "المخيم" والمداخل المؤدية إليه، كما تمنع الشبان والرجال من التنقل إلى المدينة وتسمح فقط للأطفال والنساء بالدخول والخروج منه وإليه. وفي حال وصلت مجموعة من الشبان وسط المدينة يقوم أحدهم بمراقبة الطريق ويسمى الكشاف، بينما يتولى البقية اقتناء ما يلزمهم من حاجات، مع الاستعداد للمطاردة الأمنية في كل لحظة.

 

 

في "المخيم" وسط الزيتون في منطقة "العامرة" البالغ عدد سكانها حوالى 25 ألف ساكن، وتبعد حوالى 30 كيلومتراً عن مدينة صفاقس، نصبوا خيماً بدائية من أغصان الأشجار والأقمشة والمواد البلاستيكية.

يقول أهالي المنطقة إن "عدة حافلات جاءت بهم ليلاً، مرفوقة بوحدات الأمن ووضعتهم في العراء في قلب غابات الزيتون".

شبه "مخيمات" من دون مياه ومن دون كهرباء، وخيم صغيرة بالكاد تتسع لشخص واحد في ظروف غير إنسانية، التقينا عدداً منهم، تحدثوا إلينا بتوجس وحذر شديدين، وكان أملهم الوحيد والمشترك، الخروج من تونس في اتجاه السواحل الإيطالية. 

"قوات الأمن تحاصرنا، والهدف أوروبا"

يتحدث أبو بكر باصي من بوركينا فاسو لـ"اندبندنت عربية" عن طريقة وصوله إلى تونس بعد أن عبَر الحُدود الجزائرية. رحلة شاقة، ومحفوفة بالأخطار لم يكشف عن تفاصيلها كاملة، فهو رجل متدين يؤمن بأن القدر وحده سيحمله يوماً ما إلى أوروبا. 

 

 

ويضيف "وصلت إلى تونس منذ 3 أشهر أنا الآن في غابات الزيتون، وممنوع من النزول إلى المدينة للتبضع لأن قوات الأمن تحاصرنا"، "ليس لنا أي مشكلة مع التونسيين، مشكلتنا مع قوات الأمن التي تطاردنا". أبو بكر لم يجرب حظه بعدُ في العبور إلى إيطاليا إلا أن ذلك يبقى "حلمه لإنقاذ عائلته هناك في بوركينا فاسو"، على حد قوله.

من جهته، يقول بانغال سانو من غينيا "وصلتُ إلى مدينة صفاقس منذ ستة أشهر، نعيش وضعية صعبة هنا في غابات الزيتون، لا أحد يقدم لنا مساعدة، شقيقي يعيش في فرنسا يرسل لي الأموال، لأبقى على قيد الحياة، لا يمكنني العمل لأن قوات الأمن تحاصرنا، جئتُ إلى تونس للعبور إلى إيطاليا، بعد أن مكثت في الجزائر سنتين، كنت أعمل من أجل تحصيل المال، كما اشتغلت في ليبيا، والهدف هو الوصول إلى أوروبا".

ويضيف "شددت السلطات التونسية الحراسة في البحر ولا يمكننا العبور"، ويستحضر رحلة الوصول إلى تونس، عبر الحدود الجزائرية، حين "رفض أصحاب سيارات الأجرة نقلنا خوفاً من ملاحقة قوات الأمن، مشيت لأكثر من أسبوع على الأقدام، كانت رحلة شاقة، نحن في وضعية صعبة، وتونس تمارس معنا العنصرية".

 

Listen to "رمضان بن عمر.. الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" on Spreaker.

 

في الأثناء، يراقبنا جبري سايلو وهو أيضاً من بوركينا فاسو، يتحين فرصة العبور إلى إيطاليا، مشيراً إلى صرامة المراقبة على السواحل التونسية "نحن الآن في ورطة، المراقبة الأمنية مشددة علينا في البر والبحر، ولا يمكننا أن نعمل، عائلتي في بوركينا فاسو تحاول أن تساعدني، زوجتي وأبنائي هناك، أنا جئت إلى تونس لمساعدتهم، لأن الوضع هناك صعب للغاية، والمسلحون يدخلون إلى القرى، ويقتلون الرجال والشباب، نحن نبحث عن الأمان والعمل في أوروبا والطريق إلى هناك عبر تونس بات صعباً اليوم بسبب الإجراءات الأمنية الصارمة". 

مدينة "العامرة" لم تعد عامِرة 

يتقاسم المهاجرون من أفريقيا جنوب الصحراء، وعدد من التونسيين الهدف نفسه وهو العبور إلى السواحل الإيطالية، وغالبية شباب منطقة العامرة هاجر إلى إيطاليا حتى أنها لم تعد عامرة بالشباب كما يقول أحد ساكنيها محسن الوافي "الوضع في العامرة مزري، جميع الشباب تقريباً يرغبون في الهجرة، ولامبيدوزا (الجزيرة الإيطالية) باتت حلمَ الجميع بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس"، لافتاً إلى أن عشرات الشباب من العامرة هاجروا إلى إيطاليا في رحلات سرية. 

 

 

وتحدث الوافي بحسرة شديدة عن فقدان منطقة العامرة لأغلب شبابها الذين ركبوا البحر من أجل وضع اقتصادي واجتماعي أفضل، داعياً في الوقت ذاته إلى ترحيل الأفارقة من جنوب الصحراء عن منطقته بسبب غلاء الأسعار، وتزايد الطلب على المواد الأساسية بوجود حوالى 20 ألف مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء في غابات الزيتون في المنطقة.

من جهته، يؤكد حبيب العائد منذ أشهر قليلة من إيطاليا بعد أن وصلها في رحلة غير نظامية، أنه "ينوي العودة إليها، بسبب تردي الخدمات الصحية والاجتماعية في تونس"، لافتاً إلى أن الوضع في إيطاليا "أفضل بكثير من هنا".

وعن التونسيين في إيطاليا يقول حبيب إن "المعاملة الأمنية هناك أفضل، كما أن هناك فرصاً أفضل للعمل، أما من يريد الانحراف فالإمكانية متاحة".

السرية المطلقة لنجاح "الحرقة"

وعن مراحل تنظيم عملية "حرقة" (هجرة سرية) تحدث لـ "اندبندنت عربية" أحد الوسطاء أو ما يسمى بـالسمسار، سفيان (اسم مستعار).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هو في الأصل بحار عمل لفترة وسيطاً بين الراغبين في الهجرة من مختلف جهات الجمهورية، ومنظمي الرحلات السرية إلى إيطاليا، اليوم وإثر القبضة الأمنية الصارمة على الناشطين في هذا المجال، عاد سفيان إلى البحر للارتزاق، تحدث بكل توجس وحذر، مطالباً بإلحاح شديد عدم التصوير أو التسجيل، خوفاً من أن ينكشف أمره لوحدات الأمن.

 

 

أكد أن نجاح "الحرقة" يتطلب تدخل أطراف عدة، تبدأ بسرية التواصل مع الراغبين في الهجرة، سواء تونسيين أو من أفريقيا جنوب الصحراء، ومن ثم التواصل مع صاحب المركب وهي عادة مراكب حديدية، تُصنع تحت الطلب وتحمل من 20 إلى 40 شخصاً، ويتم إثر ذلك تجميع المعنيين بالحرقة في منزل قريب من البحر ويتم نقلهم في اللحظة المناسبة إلى الشاطئ أو نقطة الانطلاق.

ويضيف "يدفع الراغب في الهجرة ما بين أربعة وخمسة آلاف دينار، (حوالى 1500 دولار)، ويجني منظم العملية حوالى 70 ألف دينار (26 ألف دولار) عن العملية الواحدة، ويربح الوسيط من العملية الواحدة نحو 10 آلاف دينار (3500 دولار)، كما أن صاحب المنزل الذي يبيت فيه "الحراقة" ليلة الإبحار يمكن أن يجني في الليلة الواحدة بين 500 وألف دينار (300 دولار)". 

شبكات معقدة 

هي شبكات معقدة متداخلة، والكل مستفيد من ظاهرة الهجرة السرية، بينما تتطلب العملية تنسيقاً محكماً وسرية مطلقة إلى حين الساعة صفر، حيث يتم تجميع "الحراقة" على متن شاحنة صغيرة، ويتم نقلهم إلى نقطة الانطلاق، حيث يتم وضع المركب، وتركيب المحرك ثم دفعه نحو المياه، ومن ثم تشغيله والانطلاق في اتجاه البحر من دون إشعال الأضواء إلى السواحل الإيطالية بالاعتماد على أحد الحراقة ذوي الخبرة في التحكم في المركب وفي معرفة الاتجاهات. 

 

 

وتمتد شبكات الهجرة السرية إلى الحدود التونسية- الجزائرية، والتونسية- الليبية، وتتقاطع مع شبكات تهريب البضائع، حيث يتم نقل المهاجرين القادمين إلى تونس عبر الحدود الجزائرية على متن شاحنات لتهريب البضائع، فيتم وضع عدد منهم في الجزء السفلي من الصندوق الخلفي للشاحنة، ثم يتم وضع براميل صغيرة لنقل البنزين للتمويه. 

وحده المجتمع المدني يساعد المهاجرين

وتجني هذه الشبكات أموالاً طائلة من نقل المهاجرين و"المتاجرة" بهم والتوسط في تنظيم "الحرقة" إلى السواحل الإيطالية، وقد تعرض العديد من المهاجرين إلى عمليات تحيل وابتزاز من دون أن يتحقق حلمهم في عبور البحر، بينما تنتهي بهم الرحلة في غابات الزيتون أو في قلب الصحراء في العراء.

 

 

ويتكفل المجتمع المدني المحلي في منطقة العامرة وحده بتقديم المساعدات والأدوية لهؤلاء المهاجرين الذين يتكدسون في وضعية لا إنسانية.

ويقول الناشط المدني محمد البكري "إن أكبر قضية تواجهها العامرة هي وجود الأفارقة في غياب مساعدة المنظمات الدولية"، مطالباً "بتقديم الدعم من الجهات الدولية إلى الأعداد المتزايدة من المهاجرين الأفارقة في تونس".

ولفت إلى أن "المواد الأساسية أصبحت باهظة الثمن ونادرة بسبب الطلب المتزايد من الأفارقة من جنوب الصحراء على تلك المواد".

التنمية لمقاومة الهجرة 

تعتبر الهجرة جزءاً من التركيبة السوسيولوجية للإنسان، وهي ظاهرة قديمة، إلا أنها تتخذ أشكالاً مختلفة بحسب دوافعها وأسبابها، فمنها ما هو مرتبط بتماسك المجتمع وقوة مؤسساته، ومنها ما هو متصل بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لذلك اعتُبرت الهجرة رافعة تنموية، وتونس تشهد منذ حوالى ثلاثة عقود هذه الظاهرة (الهجرة السرية) من أجل تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للشباب الراغب في الهجرة.

 

 

وإزاء انخرام التوازنات الاقتصادية والاجتماعية بين دول الشمال والجنوب، طالبت تونس بتبني مقاربة تنموية تشاركية بين الدول الأوروبية ودول المتوسط ودول أفريقيا جنوب الصحراء لتعزيز الاستثمار وإحداث موارد الرزق للحد من الهجرة.

مطلب لم تتفاعل معه بجدية الدول الأوروبية، بينما عززت تونس المراقبة على حدودها مستفيدة في الآن ذاته من المساعدات الأوروبية للحد من تدفقات المهاجرين.

وسبق أن صرح رئيس الجمهورية، قيس سعيد، أن "تونس لن تقبل أن تكون حارسة حدود للدول الأوروبية"، مضيفاً "نتحمل المسؤولية الكبيرة في الحفاظ على الدولة وسيادتها، ولا نقبل بأن يُعامل أي شخص معاملة غير إنسانية، ونعمل على أن يكون كل من يأتي إلى تونس في وضعية قانونية"، مؤكداً أن "الحل لا يمكن أن يكون إلا إنسانياً وجماعياً، بناء على مقاييس إنسانية في ظل قانون الدولة".

 

 

في المقابل، يرى متابعون لملف الهجرة بين ضفتي المتوسط أن أوروبا لا تسعى بجدية إلى بلورة مقاربة واقعية لمواجهة الهجرة في أبعادها المختلفة، بل تكتفي بالمقاربة الأمنية من خلال دعم دول شمال أفريقيا لتشديد الرقابة على الحدود البرية والبحرية لمواجهة تدفقات المهاجرين غير الشرعيين.

منع 80 ألف مهاجر من الوصول إلى إيطاليا

في سياق متصل، تدين منظمات المجتمع المدني المقاربة الأمنية التي تتوخاها تونس في معالجة ظاهرة الهجرة السرية، ويؤكد رمضان بن عمر، الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، (منظمة حقوقية)، أن "عام 2023 كانت سنة استثنائية نتيجة السياسات التي وضعتها دول الاتحاد الأوروبي وأغلقت من خلالها طرق التنقل غير النظامي عبر البحر الأبيض المتوسط ما دفع بمجموعات المهاجرين إلى التدفق على الأراضي التونسية، ما خلق أزمة إنسانية غير مسبوقة في تونس".

 

 

ويضيف بن عمر أن "الاستجابة التونسية اتسمت بالكراهية والتمييز ضد المهاجرين"، بخاصة إثر تصريح رئيس الجمهورية قيس سعيد، في فبراير (شباط) 2023، الذي شدد فيه خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي، على "ضرورة وضع حد وبسرعة لهذه الظاهرة بخاصة وأن جحافل المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء ما زالت مستمرة مع ما تؤدي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة فضلاً عن أنها مجرمة قانوناً".

ومنعت السلطات التونسية خلال عام 2023، أكثر من 80 ألف مهاجر غير نظامي من الوصول إلى السواحل الإيطالية، 18 في المئة منهم تونسيون، وهو رقم غير مسبوق يبرز الإمكانات الكبيرة التي وضعتها تونس في إطار ما يسمى بسياسة "تصدير الحدود" التي تتوخاها دول الاتحاد الأوروبي من خلال وحدات بحرية عسكرية وأمنية عائمة وأخرى للاستعلام والاستخبارات مركزة على البر في المناطق التي تنطلق منها عمليات الهجرة السرية نحو إيطاليا.

 

 

بينما نجح في الوصول إلى أوروبا 17 ألفاً و300 مهاجر غير نظامي، خلال 2023، بانخفاض قدره 4.5 في المئة، في عدد الواصلين إلى أوروبا مقارنة بعام 2022. 

حصيلة مأساوية 

وبلغ عدد الموتى والمفقودين خلال 2023 في السواحل التونسية، 1313 بينما ابتلع البحر الأبيض المتوسط حوالى 1800 مهاجر ما يجعله البحر الأكثر خطورة على المهاجرين. 

ويشدد الناطق الرسمي باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، على أن "المقاربة الأمنية التي تعتمدها تونس قد تنجح موقتاً في تخفيض تدفقات الهجرة السرية نحو السواحل الإيطالية، بخاصة من المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء، نتيجة الإجراءات التي تقوم بها الدولة التونسية ومنها الترحيل الآلي لكل المهاجرين الذين يتم اعتراضهم في البحر نحو الحدود الليبية وإلى الحدود الجزائرية، ما خلف ارتياح المسؤولين في الاتحاد الأوروبي". 

 

 

ويضيف بن عمر أن "تونس تنفذ حرفياً المقاربة الأوروبية في مجال الهجرة، وهي لاعب رئيسي في المقاربة الأمنية الأوروبية".

في الأثناء، ونتيجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها تونس، يتزايد عدد المهاجرين التونسيين من القصر بشكل لافت، حيث ارتفعت النسبة عام 2023 إلى 26 في المئة، بعد أن كانت في حدود 17 في المئة من جملة الواصلين التونسيين إلى السواحل الإيطالية أي تقريباً أكثر من 4600 قاصر إضافة إلى 1400 امرأة.

"الجنة الموعودة" ليست كذلك

في الضفة الأخرى من المتوسط، يواجه التونسيون الذين وصلوا إلى إيطاليا جملة من الصعوبات، حيث ينتهي بهم المطاف في مراكز الحجز والإيواء الإيطالية، بينما يتعرض عدد منهم إلى سوء المعاملة والتعذيب.

 

 

وأكد مجدي كرباعي النائب السابق في البرلمان والناشط المدني في إيطاليا، في تصريح خاص أن "المهاجرين التونسيين الذين وصلوا إلى إيطاليا يتعرضون لشتى أنواع التنكيل والتعذيب والعنصرية، والعديد منهم يتم توجيههم إلى مراكز الحجز والترحيل وهي مراكز سيئة السمعة تمارس فيها كل أساليب التنكيل والتعذيب والعنصرية وبخاصة ضد المهاجرين التونسيين". 

ويرى الكرباعي أن "تونس لا تحرك ساكناً تجاه ما يحدث للتونسيين في إيطاليا"، داعياً إلى "البحث عن حلول تحفظ كرامة التونسيين هنا، وأن تضغط على السلطات الإيطالية من أجل ضمان احترام حقوق المهاجرين التونسيين واحترام الاتفاقيات التي تحميهم وتضمن حقوقهم".

 

 

ولا يعتقد الناشط المدني في قدرة تونس اليوم على فرض برنامج أو استراتيجية في التعاطي مع موضوع الهجرة السرية من خلال مقاربة إنسانية أو تنموية تختلف عن التعاطي الأمني، مرجحاً أن تبقى الحال كما هي، و"ستقايض تونس الدول الأوروبية بحماية السواحل مقابل الموارد المالية لدعم موازنتها". 

ويخلص مجدي الكرباعي أنه "لا توجد إرادة فعلية لإيجاد حلول جذرية لمسألة الهجرة السرية، وتونس مستفيدة من هذه الوضعية، من خلال عسكرة السواحل التونسية مقابل "ابتزاز" الاتحاد الأوروبي" على حد تعبيره. 

حالات عنف محدودة 

ونشر مجدي الكرباعي يوم السبت 10 فبراير 2024، مقطع فيديو يُظهر تعرض مهاجر تونسي للضرب والتنكيل من قبل حراس السجن الذي يوجد فيه.

 

 

وتفاعلاً مع الحادثة أفاد ممثل إدارة الإعلام والاتصال بوزارة الخارجية بأن "البعثة القنصلية في جنوة تتولى بصفة دورية زيارة المساجين في الدائرة القنصلية الراجعة لها بالنظر والبالغ عددهم 455 تونسياً موزعين على 27 مؤسسة سجنية، للاطلاع على ظروف قضائهم للعقوبات السجنية ومدى احترام السجون للمعايير الدولية".

وقال إن "عدد حالات العنف ليس كبيراً، لكن عندما تحصل حادثة عنف على السجين المعني أن يبلغ بذلك البعثة القنصلية خلال الزيارات التي تؤديها للسجون"، مؤكداً أن "البعثة تحث جميع السجناء التونسيين للتواصل معها خلال الزيارات التي تؤديها حتى يتم إشعارها بالاعتداءات التي قد تُرتكب في حقهم".

يُذكر أن تونس وقعت مذكرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي، تهدف بصورة جزئية إلى الحد من الهجرة غير الشرعية، بعد أن أصبحت نقطة انطلاق رئيسية يستخدمها المهاجرون من أجل الوصول إلى أوروبا، ويشمل اتفاق "الشراكة الاستراتيجية" مجالات أخرى من بينها التنمية الاقتصادية والطاقة المتجددة.

 

 

وتضمنت مذكرة التفاهم تعهدات بصرف 150 مليون يورو (163 مليون دولار) لموازنة الدولة، و100 مليون يورو (100 مليون دولار) لخفر السواحل، إلى جانب قرابة 900 مليون يورو (978 مليون دولار) على المدى الطويل لدعم الاقتصاد والاستثمار في تونس.

وتواصل عائلات المفقودين في عمليات هجرة سرية في كل من جرجيس من ولاية مدنين، والحنشة من ولاية صفاقس سلسلة من التحركات الاحتجاجية في العاصمة، من أجل الضغط على السلطات التونسية للكشف عن مصير أبنائهم.

المجهود الأمني قلص من الظاهرة 

يؤكد حافظ الوحيشي، النائب في البرلمان وعضو لجنة العلاقات الخارجية والتعاون الدولي وشؤون التونسيين بالخارج والهجرة، لـ"اندبندنت عربية"، أن "تونس دولة ذات سيادة، ولها علاقات شراكة قوية مع دول الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن أن تسمح بوجود مثل تلك الأعداد الكبيرة من المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء، على أراضيها"، مضيفاً أن "الظاهرة مستفحلة في منطقة العامرة وجبنيانة في صفاقس إلا أن المجهودات الأمنية قلصت من هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة مبارِكاً عملية ترحيل عدد كبير منهم". 

 

 

وقلل النائب في البرلمان من حجم التجاوزات التي يرتكبها بعض المهاجرين، مناشداً الدول الأوروبية لمزيد من تقديم الدعم لتونس لمقاومة هذه الظاهرة، نافياً أن "تكون هناك تنظيمات خطيرة أو سياسية داخل هذه المجموعات القادمة من أفريقيا جنوب الصحراء"، ومعولاً على المجهودات الأمنية لتطويق الظاهرة. 

وأكد الوحيشي أن "التعاطي التونسي مع الهجرة السرية يقوم على التواصل مع الدول الأفريقية والأوروبية من أجل إيجاد حلول ناجعة وتشاركية حتى لا تتحمل تونس وحدها عبء هذه الظاهرة المتفاقمة". 

ويرى النائب في البرلمان أن "الحلول لا بد أن تراعي حقوق الإنسان في كونيتها، ولأن الهجرة السرية موجودة في عدة دول في العالم"، ولافتاً إلى أن "التونسيين الموجودين في أوروبا فيهم من يتلقى معاملة إنسانية وفيهم من يقوم بتجاوزات، مشدداً على ضرورة تبني حلول أكثر عمقاً بعيداً من الحلول الأمنية التي لا تكفي وحدها".

المجهود الأمني وحده لا يكفي 

في الأثناء، تواصلت "اندبندنت عربية" مع وزارة الداخلية التونسية التي رفضت تقديم أي توضيحات حول موضوع الهجرة السرية، على رغم اتفاق مسبق مع المعنيين على إجراء لقاء صحافي مصور، قبل أن يتم التراجع وإلغاء الموعد. وبعد اتصالات عدة وفترة من الانتظار، لم نلق أي تجاوب.

بينما يؤكد العميد السابق في الحرس الوطني والمختص في الشأن الأمني، علي الزرمديني، أن "المجهود الأمني الذي تبذله تونس لن يحد من تفاقم الظاهرة"، محذراً من تناميها "على رغم ما وضعته تونس من إمكانات أمنية كبيرة لوجيستية وبشرية لتطويقها".

ويقترح الزرمديني "تبني مقاربة تشاركية بين دول المنشأ (أفريقيا، جنوب الصحراء، وتونس) والدول الأوروبية، من أجل وضع أسس مقاربة تنموية تعمل على ترسيخ فكرة الاستقرار، والتشبث بالوطن، وجعلها من ضمن السياسات العمومية للدول المصدرة للمهاجرين، من أجل التقليص من حدة الظاهرة على تونس وعلى الدول الأوروبية".

ويعتبِر العميد السابق أن "الظاهرة معقدة ومركبة وتتداخل فيها عديد الجهات وتلتجئ دول ساحل المتوسط سريعاً إلى الحل الأمني لأنه الحل الأسهل والأسرع بينما تتطلب معالجة ظاهرة الهجرة السرية استراتيجية طويلة الأمد من أجل التقليص من تداعياتها". 

ويرى علي الزرمديني أن "الحلول الأمنية هي حلول وقتية فاشلة، مشدداً على أهمية المقاربة الاقتصادية التي تنطلق من الواقع الاقتصادي والاجتماعي للدول المصدرة للمهاجرين السريين وتعمل على تنمية اقتصاداتها، من خلال صنع أدوات الرفاه الاجتماعي وتعزيز شروط الاستقرار".

ويشير العميد السابق في الحرس الوطني إلى "تسجيل بعض التجاوزات الأمنية من حين لآخر، في التعاطي مع المهاجرين السريين"، لافتاً إلى "أن المؤسسة الأمنية استنزفت طاقاتها وإمكاناتها في التعاطي مع الهجرة السرية"، ومشيراً إلى "تنامي الشبكات التي تنتعش من هذه الظاهرة بخاصة في ظل وجود الآلاف من الراغبين في الهجرة إلى أوروبا عبر تونس".

المزيد من تحقيقات ومطولات