ملخص
في كل مرة تضبط السلطات الجزائرية كميات من المخدرات يتأكد أنها تخوض حرباً على الإدمان الذي تفشى بشكل يدعو إلى القلق في أوساط الشباب، ووصل إلى المدارس والفضاءات التربوية.
تسجل الجزائر عجزاً كبيراً في عدد الأطباء النفسيين والعقليين مع هجرة كثير منهم إلى الخارج، على رغم حاجة واحد من كل خمسة مواطنين إلى العناية ومتخصص يرافق حالته في ظل الضغوط الاجتماعية وتزايد مستويات الإدمان على المخدرات وسط الشباب، ومع ذلك فإن الغالبية ممن يحتاجون إلى أخصائي نفسي ينظرون إليه على أنه "ترف"، فيقاطعون دخول عتبة مراكز العلاج بسبب الثقافة السائدة، وإن اضطروا إلى الذهاب ربما يجعلون زيارتهم سرية.
وكشفت الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث في الجزائر (هيئة رسمية) عن حجم العجز الكبير في عدد الأخصائيين النفسيين وأطباء الصحة العقلية، بعد أن أظهرت أرقامها وجود ألف طبيب فقط بالبلاد، في مؤشر إلى إهمال هذا الجانب على مستوى التكوين والخدمات الصحية وتضاف عليها العوامل المتعلقة بذهنيات وسلوكيات المواطنين تجاه "تابو" المعالج النفسي.
ولا توجد إحصائيات دقيقة في الجزائر حول عدد المصابين بالأمراض النفسية والعقلية، لكن مسؤولين في وزارة الصحة كشفوا عن تسجيل المستشفيات قرابة مليون فحص سنوي خاص بالصحة العقلية، في مقابل عدد ضئيل من الأطباء النفسيين بما يمثل طبيبين لكل 100 ألف مواطن، وفق آخر تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية.
وعلى غرار معظم دول العالم الثالث التي تعاني نقصاً في عدد المصحات والأسرة المخصصة للأشخاص الذين يعانون الأمراض النفسية والعقلية، تحصي الجزائر عدد الأسرة المخصصة للمرضى بنحو خمسة آلاف سرير، كما جاءت الجزائر بجانب دول عربية في المراتب الأخيرة على صعيد الصحة العقلية، بحسب تصنيف الحالة العقلية للعالم خلال عام 2022، الصادر عن "سابيان لابس".
إدراك حكومي
ويقدر متخصصون أن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة عرضة خمس مرات أكثر للإصابة بمشكلات الصحة العقلية مقارنة بالجيل الأكبر منهم، كما أن لدى البالغين الأصغر سناً معدلات أعلى بشكل متزايد من عدم الاستقرار الأسري، والمشكلات العاطفية أثناء الطفولة.
وأدركت الحكومة الجزائرية أخطار إهمال التكفل النفسي والعقلي على المجتمع، حيث كان يفترض لها تجسيد المخطط الوطني لترقية الصحة العقلية في الفترة الممتدة من 2017 إلى غاية 2020، غير أن أزمة جائحة كورونا عطلت المشروع.
وكشف المدير الفرعي لترقية الصحة العقلية بوزارة الصحة الجزائرية البروفيسور محمد شكالي أن هذا البرنامج لم ينجز منه إلا قرابة 25 في المئة من الإجراءات التي ينص عليها.
وأكد شكالي في تصريح له، إعادة تفعيل هذا المخطط الذي تتولى متابعة تنفيذه لجنة متعددة القطاعات تتكون من 12 قطاعاً وزارياً على أن تجتمع مرتين في السنة. وأشار إلى أهمية هذا المخطط الذي يكمن في تغييره للانطباعات السائدة بخصوص الصحة العقلية التي ستصبح كذلك من اختصاص الصحة الجوارية.
النقص وأسبابه
ويؤكد رئيس النقابة الوطنية لممارسي الصحة العمومية في الجزائر الدكتور إلياس مرابط، الحاجة الملحة في بلاده إلى عدد كبير من الأطباء المتخصصين والمتكونين في علاج الإدمان بكل أشكاله مع التكفل بالجانب النفسي ومتابعة الحالات المرضية التي تحتاج إلى رعاية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واعترف الطبيب مرابط لـ"اندبندنت عربية" بالنقص في المراكز وعدد الأطباء بسبب العزوف وسط الأطباء عن التوجه لهذا الاختصاص غير المحبذ لدى كثير منهم، إضافة إلى عامل آخر يتعلق بتفضيل نحو 70 في المئة منهم العمل في عياداتهم بالقطاع الخاص، فيما سجلت هجرة عديد من الأخصائيين في الصحة النفسية والعقلية من الجزائر إلى الخارج.
وذكر المتخصص بالضعف في التغطية بالأطباء المتخصصين في مجال معالجة المدمنين وآثار الإدمان، فقرابة 80 في المئة من العلاج يتعلق بالمتابعة والمرافقة النفسية، لافتاً إلى أن المخطط الحكومي للصحة العقلية تضمن إنشاء شبكة وطنية جوارية لتقريب العائلات التي تحتاج إلى الرعاية الصحية من مراكز العلاج.
وفق البرنامج، فإن هذه المراكز الصحية الجوارية تضم متخصصين يمتلكون تكويناً في الإدمان وأطباء عامين في معالجة ومكافحة المدمنين، حيث كشف إلياس مرابط عن انتشار ما يفوق 55 مركزاً موزعة على الجزائر، إضافة إلى المصالح الاستشفائية التي تتكفل بالعلاج.
مدعاة للقلق
وفي ظل اتساع رقعة تعاطي المخدرات والأقراص المهلوسة، تسجل الجزائر نسبة استهلاك تفوق ستة في المئة من شريحة 15 إلى 30 سنة، مما يدفع إلى الحاجة لإنجاز مراكز أخرى لعلاج الإدمان، ففي كل مرة تحجز السلطات كميات من المخدرات يتأكد أنها تخوض حرباً على الإدمان الذي تفشى بشكل يدعو إلى القلق في أوساط الشباب، ووصل إلى المدارس والفضاءات التربوية.
وكشف الديوان الوطني لمكافحة المخدرات وإدمانها أن تعاطي الكوكايين في الجزائر ارتفع بنسبة 200 في المئة عام 2022، وزاد استهلاك المهلوسات الأخرى عن نسبة 100 في المئة. وبحسب دراسة ميدانية أجرتها هذه الهيئة الرسمية فإن هناك أكثر من ثلاثة ملايين جزائري، ثلاثة في المئة منهم نساء، يستهلكون ويتعاطون المخدرات، بما في ذلك الأدوية ذات التأثير العقلي.
وليس الإدمان وحده من يدفع بالأطباء المتخصصين إلى دق ناقوس الخطر من ضعف التغطية بالمعالجين النفسيين، بل التحولات الطارئة في المجتمعات الحديثة، على خلفية ارتفاع الضغوط الاجتماعية داخل الأسر وخارجها، مقارنة بالعقود الماضية، إضافة إلى مشكلات الشباب المتعلقة بفقدان الأمل، مما يثير حاجة كل جزائري واحد من بين خمسة أشخاص إلى التكفل من طرف أخصائي في الصحة النفسية والعقلية كما يوضح متابعون.
نظرة المجتمع
وفي السياق، ترى الأخصائية النفسية ثريا تيجاني أن الإشكالية الحالية في مقاطعة الطبيب النفسي أو المتخصص في الأمراض العصبية والعقلية يعود إلى غياب هذه الثقافة ونظرة المجتمع.
وقالت تيجاني في تصريح خاص إن "المريض بحالة نفسية مما قد يلقب بالإنسان المصاب بالوسواس، ومن يزور طبيب الأمراض العقلية ستلاحقه صفة المجنون"، منتقدة لجوء كثيرين لحل مشكلاتهم إلى الرقية أو الشيوخ والمشعوذين مع أن الحالة المتدهورة لهم تؤكد ضرورة معايدة ذوي الاختصاص حتى لا تتفاقم الأمور وتتعقد حالة المريض وتدفعه به إلى الانتحار.
كما نبهت إلى "خطأ" يقترفه بعض الأطباء بالتركيز على تقديم وصفات أدوية كيماوية مما يجعلهم عرضة للإدمان، بدلاً من البدء في منحهم العلاج النفسي عن طريق تكثيف جلسات الحوار لفهم الحالة جيداً.
كما توجهت المتخصصة الجزائرية باللوم إلى أطباء نفسيين يفشون سر المهنة أو المريض المصاب، الأمر الذي يترك انطباعاً مخيباً للآمال ويجعلهم يقعون في شباك المنجمين والمشعوذين، وفق تعبيرها.
رهان الرقمنة
وتراهن الحكومة حالياً على مشروع رقمنة معطيات الصحة العقلية على اعتبار أنها عنصراً أساسياً من عناصر العلاج، فقد كشف مدير الوقاية بوزارة الصحة الجزائرية الدكتور جمال فورار عن الشروع في إدراج الصحة العقلية ضمن الملف الإلكتروني للمرضى في إطار الرقمنة العامة للقطاع.
وأكد فورار أن تجسيد الخطوة من شأنه تسهيل تبادل المعلومات بين الأطقم الطبية لضمان المتابعة والتكفل الشامل بالمرضى وتقوية نظام المعلومات وتقديم إحصائيات وبيانات دقيقة، لا سيما ما يتعلق منها بالصحة العقلية.