Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النكبة التي تنتظرنا

هذا الإمعان في طمر العقل يتحمل مسؤوليته الأولى سياسيون ونخب تعرف الحقائق وتفتقر إلى الشجاعة الأدبية

كان الياباني كلما عاوده الشعور بطعم الهزيمة انتقم لنفسه بالعمل المضني في مهنته لساعات وساعات (أ ف ب)

في مقابل كل نكبة سببتها إسرائيل في العالم العربي وقعت نكبة ثقافية.

كان من المفترض أن تكون النكبات والنكسات شرارات لتيارات ثقافية تصحح مسارات الأنظمة وتبني مفاهيم جديدة، ما حصل كان العكس، وكأن إسرائيل انتصرت على الجيوش في الميدان العسكري وأكملت الأنظمة العربية المهزومة الإجهاز على الشعوب في الميادين الأخرى.

من رماد هزيمة ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية تشكلت ثورة ثقافية كان لا غنى عنها للنهوض مجدداً ولبناء انتصار إنساني وسياسي واقتصادي.

غابت عن كونراد أديناور الذي تلقف ألمانيا المدمرة أفكار الثأر النازي، لقد سلك مسلك الاعتراف بأن ألمانيا أخطأت وأن هتلر جلب الويلات، وأن هناك مسؤولية يتحملها كل مواطن ولا خلاص إلا بالتواضع وتقبل شروط الحلفاء، ومن هذا الحضيض عادت العمارة الألمانية تنبني بقوة الشعب وحماية الولايات المتحدة بشكل خاص.

في اليابان بعد الضربتين النوويتين في هيروشيما وناغازاكي أصيب الشعب بالصدمة عندما استمع للمرة الأولى إلى صوت هيرو هيتو على الراديو، فالإمبراطور تكلم مثل كل البشر، "يبدو أن الإمبراطور ليس إلهاً"، تلك كانت الصدمة الأولى، أما الثانية فأول إطلالة صوتية للإمبراطور رقم 124 في سلسلة الخلافة اليابانية حملت للشعب الإقرار باستسلام اليابان.

لقد تجنب هيرو هيتو استعمال كلمة استسلام حفاظاً على موقعه المقدس، لكن الشعب فهم الرسالة، وما حصل بعد ذلك كان جديراً بأن يحصل في دول عربية عدة، إذ حملت الطغمة العسكرية التي قادت الحرب المسؤولية، والإدانة اللاعنة لسلوكياتها في الحرب وما قبلها، وهذا البلد الموغل في التقاليد، لم يجر وراء شعارات محاربة الاستعمار والاستكبار، انصرف بصمت إلى العمل ورحب بحاكمه الأميركي المؤقت الجنرال ماك آرثر، ثم اعتنق الديمقراطية الغربية، وبظرف 20 سنة عادت اليابان عملاقاً اقتصادياً ونموذجاً للدولة العصرية الناجحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان الياباني كلما عاوده الشعور بطعم الهزيمة انتقم لنفسه بالعمل المضني في مهنته لساعات وساعات، لكن على الضفة العربية حصل العكس، نكبة 48 أطاحت تجارب ديمقراطية كانت تتلمس البدايات في المشرق العربي، وبما يشبه الاغتصاب النفسي والفكري سيطرت أنظمة عسكرية على الناس ومنعت الحرية وهي أساس كل نهضة، وسادت "الثقافة الأحادية"، حزب واحد وقائد واحد لعقيدة أبدية وفذة إلى درجة أنها كاملة وصالحة لكل زمان ومكان، وهذه الأحادية مثلت نكبة لا تقارن أضرارها بنكبة فلسطين، إذا نظرنا إليها بمنظار المدى البعيد، ثم جاءت "نكسة 67" لتزيد في تفاقم الأمراض السياسية.

من عوارض النكسة الثقافية لحرب 67، أن أحد المسؤولين عنها الرئيس المصري جمال عبدالناصر وبعد أيام من هول الكارثة، خرج بخطاب إذاعي ليعلن استقالته، فهاجت الجماهير بالملايين وكادت تشق صدورها مطالبة الزعيم بالعودة عن قراره، في الأصل قرار الاستقالة لم يكن جدياً، ولكن الزعيم يعرف حاشيته وحاشيته تعرف ما يريد، فدبرت "التظاهرات العفوية".

ومنذ تلك الأيام والنكبة تركب ظهورنا، ومن أحادية الأنظمة القومية انتقلنا إلى تنظيمات أحاديات التطرف الديني التي أطلق عنانها نظام الملالي في إيران عام 1979، فمنها من تشكلت كرد فعل عليه ومنها من تعود بمنشئها إليه.

بعد هجوم "حماس" في السابع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وصف أكثر من مسؤول فلسطيني وعربي بأن ما يتعرض له الشعب في غزة "نكبة" أشد وأدهى من "نكبة 48"، إذا هي نكبة وليست كما تسوقها دول الممانعة بأنها انتصارات تحصل بعدد الدقائق والساعات، هذا المنطق بذاته يحمل إلينا ملامح النكبة الثقافية الجديدة التي سنتعامل معها بعد أن تهدأ المعارك.

هذا الإمعان في طمر العقل يتحمل مسؤوليته الأولى سياسيون ونخب تعرف الحقائق وتفتقر إلى أولى الشجائع وهي الشجاعة الأدبية، فعلى رغم ما تخلفه "حماس" ومثيلاتها من كوارث، لا تزال تلك النخب تقارب المسائل بالخوف من أن يوصم نقدها بالخيانة وخدمة الأعداء.

سنبقى في دوامة النكبات إلى أن نجد من يقتنع بقول المتنبي:

الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ/ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل