Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يوم في حياة عابد سلامة" بعشرات السنين على النكبة

بوسع اللوبي المناصر لتل أبيب في الولايات المتحدة تجاهل كتاب ناثان ثرول أو تشويهه لكنه سيبقى تحدياً للإسرائيليين الليبراليين

المآسي غالباً ما تثير أسئلة معذبة وهواجس قد تتجاوز حدود العقل (أ ف ب)

ملخص

هذه "السخرية الدموية من المراهقين (باتوا اليوم راشدين) الذين سيصبحون جنود إسرائيل وزعماءها هي المأساة الأكبر بين دفتي هذا الكتاب.

"قبل الحادثة بيوم، لم يطق ميلاد سلامة كتمان فرحته برحلة الحضانة. قال لأبيه عابد ’بابا، أريد أن أشتري طعاماً لرحلة الغد‘. فاصطحب عابد ابنه ذا السنوات الخمس إلى متجر بقالة قريب واشترى عصير برتقال (تابوزينا) الإسرائيلي وعلبة بطاطا (برنغلز) وشوكولاتة كيندر إيغ المفضلة لديه".

هذه هي السطور الافتتاحية من مقالة نشرتها "نيويورك رفيو أوف بوكس" في الـ19 من مارس (آذار) 2021 بعنوان "يوم في حياة عابد سلامة" للكاتب الصحافي الأميركي ناثان ثرول.

ستنتهي رحلة الحضانة في مهدها بحادثة، فسيأتي صباح اليوم التالي من فبراير (شباط) عام 2012 مطيراً عاصفاً، وعلى طريق سريع خارج القدس ستصطدم شاحنة عملاقة ذات 18 إطاراً بحافلة الحضانة فتنقلب بمن فيها وتشتعل فيها النيران، ويموت معلم وستة من الصغار ويتعرض بعض الناجين لحروق جسيمة فلا يتعرف منقذوهم إلى ملامحهم.

"أوديسة" فلسطينية مصغرة

تتناول المقالة "أوديسة" عابد سلامة للعثور على ابنه، فتعري في ثنايا ذلك واقع حياة الفلسطينيين في ظل السلطة الإسرائيلية، والمقالة عند نشرها أحدثت أثراً هائلاً، إذ "بعثها عضو الكونغرس الأميركي رو خانا إلى قرابة 100 زميل في (الكونغرس)، فضلاً عن قراءتها في أنحاء العالم" على حد قول آيمي غولدمان في حوارها مع ناثان ثرول بموقع "ديموكراسي ناو".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والآن حول ثرول المقالة إلى كتاب بالعنوان نفسه مع عنوان فرعي هو "تشريح مأساة مقدسية"، وصدر الكتاب عن دار نشر "متروبوليتان بوكس" في نحو 270 صفحة.

في استعراضها للكتاب، تكتب روزينا علي ["نيويورك تايمز"، مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 2023] أن ثرول يفعل في كتابه ما سبق أن فعله في المقالة إلى حد كبير، فـ"هو ينسج بين مشاهد جرت في أعقاب الحادثة ومقاطع مطولة للسياق التاريخي، موضحاً الحدود المادية والقانونية الحاكمة لحياة الفلسطيني في القدس الشرقية، لكن ثرول يوسع أيضاً نطاقه فتمتد حكايته على مدى عقود، ابتداء بالمرة الأولى التي وقع فيها عابد في الحب. فنرى نتفاً من حياة غالباً ما تطغى عليها وتخرسها النظرة الثنائية التي ننظر بها في أكثر الأحيان إلى الصراع بين إسرائيل وفلسطين، ومن ذلك أننا نشهد زواجاً يفشل، وجيراناً يتعاطون المخدرات وخصومات شخصية، فإذا بهذا السياق الإضافي يغير المركزية في القصة تغييراً طفيفاً، فلا تصبح قصة أعقاب الحادثة المرورية، بل تتحول إلى دراسة محتملة للقرارات السياسية والفردية السابقة على الحادثة".

"حينما يصل عابد إلى موقع الحادثة يجد الأطفال قد انتقلوا بالفعل إلى المستشفيات. ويتحتم عليه أن يحدد كيف سيبحث عن ابنه في ضوء بطاقة الهوية المعينة التي يحملها وتحد من حركته واختياراته".

تكتب روزينا علي أن "المآسي غالباً ما تثير أسئلة معذبة وهواجس قد تتجاوز حدود العقل، هل كان الأمر ليختلف لو فعل المرء كذا بدلاً من كذا؟ وثرول يختتم افتتاحية كتابه بقول عابد لنفسه وهو يسارع إلى مستشفى في مدينة رام الله بالضفة الغربية ’هل هذا عقاب لي على ما اقترفته بحق أسمهان؟‘، يعني زوجته الأولى والانفصال الأليم الذي انتهى إليه زواجهما ويشغل ثلث الكتاب الأول".

ذلك الصباح الكئيب

قول روزينا علي إن ذنب عابد قد يرجع إلى عقود مضت، لكن شخصيات أخرى في الكتاب خياراتها أحدث، فقد ترددوا ثم أخرجوا أبناءهم في ذلك الصباح الكئيب من شهر فبراير الذي لم يشهدوا مثيلاً لأمطاره من قبل، فضلاً عن حقيقة ظهرت في أعقاب الحادثة وهي أن شركة النقل التي تعاقدت معها الحضانة استعملت حافلة قديمة مزورة التراخيص. وتأتي هذه الخطايا الفردية "على خلفية واقع سياسي صارخ. فكثير من الفلسطينيين في القدس الشرقية، بحسب ما يبين ثرول، شأن عابد، يرسلون أبناءهم إلى مدارس غير نظامية لأن المدارس الحكومية العامة مكدسة، والمدارس التي تديرها الأمم المتحدة ينتشر فيها تعاطي المخدرات، والطريق الذي سارت عليه الحافلة مصمم بحيث يتحرك عليه المستوطنون في طريقهم إلى القدس ومنها من دون أن يضطروا إلى المرور برام الله، بما يخلق "وهماً باستمرار الحضور اليهودي من المدينة إلى المستوطنات من دون انقطاع". وبعدما أقامت إسرائيل طرقاً سريعة جانبية للمستوطنين، فإن غالبية السائقين الذين يستعملون الطريق القديم هم من الفلسطينيين. وتنتشر نقاط التفتيش لإيقاف أولئك السائقين، بما يعني تكدس الحركة المرورية واضطرار السائقين، هرباً من تلك الاختناقات، إلى السير العكسي في الاتجاه المقابل".

 

 

بحسب ما يكتب ثرول، فإن "ثمة تفصيلة معينة لم تزل تسري في جسمي القشعريرة بسببها. فالحافلة تشتعل فيها ألسنة اللهب والصرخات تتعالى من داخلها والاصطدام وقع على بعد دقائق من مستوطنة وعلى بعد ثوانٍ من نقطة تفتيش، وكان بوسع سيارة إسعاف إسرائيلية أن تجتاز نقاط التفتيش وتسلك طريقاً مباشراً إلى موقع الحادثة، لكن نصف ساعة يمر، ولا تصل سيارة إطفاء واحدة، أو يأتي من الشرطة ضابط أو جندي، فلا مهرب من أن يتساءل المرء عما لو أن هذه الحادثة المأسوية وقعت نتيجة لفشل الروتين أو أنه هو الروتين نفسه".

تكتب روزينا علي أن "السياسة لا تقتصر على الانتخابات والحرب، وإنما هي أيضاً الإهمال في البنية الأساسية والطرق المنفصلة والجنود المرتابون"، وتتساءل "ما مدى أهمية اختيارات الأفراد في ظل نظام يحدد الروتين اليومي ومسار حياة المرء، بل مسار موته؟".

كتب جيمس نورث مستعرضاً الكتاب في موقع "موندويس" (mondoweiss) الذي يهتم بأخبار فلسطين وإسرائيل والولايات المتحدة في الثالث من أكتوبر 2023، قائلاً إن "فضيلة كتاب ثرول الكبرى هي أنه يكشف لمن لا يعرف عن حقيقة الوضع في فلسطين. وقد تحقق ذلك لثرول بأن اختار الشخصية المركزية لكتابه، أي عابد سلامة، مقيماً في حي عناتا الفلسطيني المعزول القريب من القدس".

الـ"غيتو" معكوساً

يوصف عناتا في مقالة جيمس نورث بالحي وعلى الإنترنت بالقرية وفي حوار ثرول مع موقع "ديموكراسي ناو" بالـ"غيتو"، إذ يقول ثرول "لكي نفهم حقيقة ما جرى [في يوم عابد سلامة]، عليّ أن أصف أولاً أين يعيش عابد وميلاد. فالمكان الذي يعيشان فيه جيب، وما أكثر الجيوب. وجزء من ذلك الجيب يقع داخل بلدية القدس وهو جيب فلسطيني مفصول بجدار رمادي ارتفاعه 26 قدماً تسميه إسرائيل "جدار العزل" ويسميه بعضهم "سور الأبرتهايد"، وهذا الجدار يحيط من ثلاثة جوانب مجموعة من المجتمعات الفلسطينية كثيفة السكان، أحدها هو مخيم شعفاط للاجئين الذي يسكنه الفلسطينيون الذين فروا من القدس الغربية، أو تعرضوا للطرد منها خلال حرب عام 1948، ويعيشون الآن على الجانب الآخر من الجدار وعليهم المرور بنقطة تفتيش للوصول إلى وسط مدينتهم. هم سكان مدينة القدس، يدفعون الضرائب ويسيرون عبر نقطة تفتيش يقوم عليها الجيش جزئياً، وكأنهم قوات معادية تدخل دولة أخرى وليس مدينتهم، المدينة التي يعيشون فيها ويدفعون لها الضرائب. ودولة إسرائيل تهمل هذه المنطقة إهمالاً تاماً، فلا قانون فيها ولا خدمات تقريباً، والشوارع غير مستوية وبلا أرصفة، فهي في الحقيقة ’غيتو‘".

ويمضي ثرول فيقول إن الجانب الرابع من الـ"غيتو" فيه هو الآخر سوره، لكنه سور يمر في منتصف ما يعرف بـ"طريق الفصل العنصري"، وسر تسميته تلك هو أن فيه ممرات منفصلة لحركة المرور الإسرائيلية والفلسطينية، بينها سور لا يسمح للجانبين برؤية بعضهما بعضاً.

على هذا الطريق اصطدمت الشاحنة، وكان سائقها فلسطينياً بالمناسبة، بالحافلة التي مات فيها ميلاد عابد سلامة. فأي غرابة؟ الحقيقة أن الغرابة هي أن يعيش الناس في ظل هذه الظروف، أما موتهم بحوادث السير أو بغيرها فهو الطبيعي.

 

 

يقول جيمس نورث إن في القلب من كتاب ثرول "عشرات الحوارات، غالبيتها مع فلسطينيين، كلهم إلا أربعة مذكورون بأسمائهم الحقيقية، فقد استطاع أن يكون موضع ثقة أناس لهم كل الحق في الارتياب، فأطلعوه على دقائق من حياتهم وعلى بعض من أكثر اللحظات التي مروا بها إيلاماً".

تقع الحوادث المرورية في كل مكان في العالم، لكن ثرول يوضح، بأسلوبه الهادئ المميز، كيف صاغت إسرائيل كل جوانب المأساة التي كان يمكن تماماً ألا تقع في مجتمع أقرب إلى الوضع الطبيعي. وإليكم قليلاً من النقاط التي يثبتها، يرغم نظام "أبرتهايد الطرق" المتبع في الضفة الغربية بفلسطين و"جدار العزل" سيئ السمعة حافلة مليئة بأطفال الحضانة على المضي في "تفريعة طويلة خطرة" عبر طريق سريع أحادي الاتجاه "سيئ الصيانة" درج الفلسطينيون على تسميته "طريق الموت"، ثم إن نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية أبطأت وصول سيارات الطوارئ من الأراضي الفلسطينية والسلطات الإسرائيلية لم تظهر بسرعة هي الأخرى.

يكتب ثرول "يعلم الجميع بأي سرعة تصل القوات الإسرائيلية إلى طريق في الضفة الغربية لحظة يبدأ طفل فلسطيني بإلقاء الحجارة على جنود أو مستوطنين إسرائيليين، لكن الجنود في نقاط التفتيش والقوات في قاعدة ’راما‘ وسيارات الإطفاء في المستوطنات القريبة، كلهم لم يفعلوا شيئاً، وتركوا الحافلة تحترق لأكثر من نصف ساعة".

محض حادثة مأسوية

مع ذلك ليس "يوم في حياة عابد سلامة" محض حادثة مأسوية، والحق أنه ليس محض "يوم" وليس "في حياة عابد سلامة" وحده، لكنه عقود متوالية في حياة ملايين، فالمحكمة العسكرية الإسرائيلية، كما تكتب روزينا علي، "تحكم كل عام على مئات الأطفال بالسجن لإلقائهم الحجارة، وكثير منهم تتراوح أعمارهم بين 12 و15 سنة". وكما يشير ثرول فإن "الضرر لا يقتصر فقط على عائلات من يخسرون سنين في السجن أو تضيع فيه طفولتهم، لكنه يمتد إلى المجتمع كله، إلى كل أم أو أب أو جد، إذ يعلم الجميع أنهم عديمو الحيلة لا يملكون حماية أبنائهم".

ويكتب ثرول "ربما لا يبدو من يعتقلهم الجيش أطفالاً في أعين الدولة الإسرائيلية أو حتى الدولة الأميركية التي تدعمها، لكن ماذا عن طفل عمره خمس سنوات؟ كيف يراه المواطنون العاديون؟ لم يمر وقت طويل على الحادثة حتى تفاعل مراهقون إسرائيليون مع الخبر بكتابات وتعليقات كريهة عبر ’فيسبوك‘، فجاء في أحدها ’إن هي إلا حافلة مليئة بالفلسطينيين، فليس الأمر ذا شأن. المؤسف أن الموتى ليسوا أكثر عدداً‘، وجاء في آخر ’خبر عظيم، قتل الإرهابيون‘، حتى إن الصحافي التلفزيوني الإسرائيلي إريك وايس علق على تلك الكتابات قائلاً ’كيف بحق الجحيم تدنينا إلى هذا المستوى؟‘".

بدورها تعلق روزينا علي، قائلة إن هذه "السخرية الدموية من المراهقين (باتوا اليوم راشدين) الذين سيصبحون جنود إسرائيل وزعماءها هي المأساة الأكبر بين دفتي هذا الكتاب. ومن الطرق الممكنة للإجابة عن سؤال وايس أن تبدأ مراجعة نظام الفصل العنصري الذي يتعمد عزل الفلسطينيين والإسرائيليين عن بعضهم بعضاً، وهو النظام الذي يكشف عنه ثرول بإحكام في هذه السردية المقبضة وإنه من سوء الحظ واقع ليست الحكومة الأميركية عازمة بعد على معالجته".

لقد كتبت روزينا علي مقالتها هذه في الأول من أكتوبر قبل أيام قليلة من "طوفان الأقصى"، أي في حقبة مختلفة تماماً عن الحقبة التي نعيشها الآن ونرى فيها يوم عابد سلامة على نحو مغاير تماماً لليوم الذي عاشه عام 2012. صحيح أن "طوفان الأقصى" لن يغير الواقع الذي كان وصحيح أنه هو نفسه نتيجة هذا الواقع، ولكنه غيرنا نحن ولا شك، صرنا على أقل تقدير قراء آخرين لهذا الكتاب غير الذين كنا إياهم في الأسبوع الماضي، ما لم نكن، في ما أرجو، بشراً آخرين.

مع ذلك، لا أحسب أن هذا الكتاب قد يفقد قيمته اليوم، إذ نرى الفلسطينيين على غير ما كنا نراهم عليه، يذيقون الإسرائيليين بعض ما أرغموهم على تجرع مرارته طوال عقود، بل إنني أتصور أن الكتاب يأتي في وقته الدقيق ليكون خلفية لمن لم يزل بحاجة إلى خلفية تعينه على استيعاب وصف المقاتلين الفلسطينيين بالإرهابيين ووصف عملية "طوفان الأقصى" بالعنف المجاني أو غير المبرر.

لقد وجدت "نيويورك تايمز" من الجرأة، فلا أسمح لنفسي هنا بالوصف الأنسب، ما جعلها تقول في افتتاحيتها بتاريخ التاسع من أكتوبر تعليقاً على عملية "طوفان الأقصى"، إن "الإرهابيين اقتحموا الأسيجة الحدودية ونزلوا على السواحل الإسرائيلية وأطلقوا آلاف الصواريخ على إسرائيل من دون إنذار أو استفزاز مباشر". فعلاً؟ ربما كان يجب على هيئة تحرير الصحيفة المرموقة التي تعرف نفسها بأنها "هيئة مشكلة من صحافيي رأي تنبع آراؤهم من خبرة وبحث ونقاش وقيم محددة ومستقرة ومستقلة عن غرفة الأخبار"، ربما كان يجدر بها قبل أن تكتب هذه الكلمات أن تقرأ مقالة روزينا علي المنشورة فيها قبل أيام، أو ربما كتاب ثرول، وهو نفسه من كتاب مقالات الرأي فيها، عسى أن تعرف مزيداً عن الاستفزاز المباشر.

يقول جيمس نورث إن بوسع اللوبي اليميني المناصر لإسرائيل في الولايات المتحدة أن يتجاهل كتاب ثرول أو يشوهه لمحاولة دحضه، لكنه سيبقى "تحدياً للإسرائيليين الليبراليين ولأي شخص آخر لا يفهم مدى فظاعة السيطرة الإسرائيلية حقاً، فضلاً عن أنهم لو قرأوه، مخلصين، فسوف يتغيرون".

العنوان: A DAY IN THE LIFE OF ABED SALAMA: Anatomy of a Jerusalem Tragedy 

تأليف: Nathan Thrall

الناشر: Metropolitan Books

المزيد من كتب