ملخص
هل تنجح الجزائر في منع سقوط مزيد من ضحايا انهيار البنايات بسبب الأمطار؟
بقدر ما يستبشر الجزائري خيراً بتساقط الأمطار تتزايد مخاوفه من انهيار مبان وعمارات يعود تاريخ بنائها للوجود العثماني والاحتلال الفرنسي. وفي حين تسارع السلطات الزمن لإسكان قاطني البنايات المهترئة عبر عمليات الترحيل، فإنها تعمل بالمقابل على تهيئة وصيانة العمارات "الفرنسية" والأحياء "العثمانية" التي تواصل مقاومة الزمن إلى حين.
طبيعة دائمة الانتصار
مع أولى زخات المطر في الجزائر تبدأ أخبار انهيار البنايات وسقوط قاطنيها بين متوفين وجرحى لتنتشر على مختلف وسائل الإعلام، وإن بنسب متفاوتة بحسب قوة تساقط الغيث، ولعل البنايات التي أنجزت في العهد العثماني وبشكل أقل المشيدة خلال الاحتلال الفرنسي للبلاد، الأكثر تضرراً. إذ تتحدث بيانات الحماية المدنية عن تدخلات متكررة بـ"القصبة"، وهي المدن الصغيرة التي بناها العثمانيون في مناطق عدة بالجزائر قبل 1830، إذ تنهار بنايات قديمة أو أجزاء منها، ويقع السكان تحت حصار الركام أو يموتون أو يسجلون في قائمة الجرحى، وهو الوضع نفسه الذي تعيشه مختلف الأحياء القديمة التي شيدتها إدارة الاستعمار الفرنسي من 1830 إلى 1962.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضحت مصالح محافظة البليدة، منذ أيام أنه تم ترحيل 12 عائلة كانت تقطن بنايات مهددة بخطر الانهيار تقع وسط المدينة ويعود تاريخ تشييدها للحقبة الاستعمارية، وهي العملية التي مست نحو 400 عائلة، ومن المرتقب أن تشمل نحو 3 آلاف عائلة موزعة عبر إقليم المحافظة.
كما سبق ذلك إعلان تسبب الأمطار في انهيار بعض البنايات وتضرر عديد من المنازل والمدارس بمحافظة تيبازة، وكذا وفاة طفل في التاسعة من عمره متأثراً بجراحه عقب سقوط جدار عليه، وغيرها من الحوادث المأسوية التي يشهدها عديد من مناطق الجزائر جراء تهاطل الأمطار.
جدران فرنسية مهانة
تشكل البنايات التي تعود للحقبة الفرنسية وتتميز بطابعها الهندسي الأوروبي أغلب واجهات المدن الجزائرية الكبرى عامة، إذ تحصي تقارير غير رسمية أكثر من مليوني وحدة سكنية موزعة على كامل مناطق البلاد، وبشكل خاص على مستوى المدن الساحلية مثل الجزائر العاصمة وعنابة وقسنطينة ووهران، ويتجاوز عمر بعضها 150 سنة، مما يجعل شرفاتها الهشة وجدرانها المتهالكة مصدر تهديد حقيقي يحدق بمستعملي الأرصفة والمارة، ويزداد الخطر مع قدوم فصل الشتاء الذي يعرف سقوط الأمطار التي تتسبب في انهيار مبان قديمة عدة.
يعتبر الباحث في العمران مراد عمراوي، أنه بالنسبة إلى قاطني العمارات القديمة التي يعود تاريخ تشييدها للعهد الاستعماري الفرنسي فإن الأمطار الغزيرة ليست نعمة أو بشائر خير عليهم دائماً، بل هي في أحايين كثيرة نقمة لأنها طالما تسببت في انهيار أجزاء من بنياتهم وما يتبع ذلك من وفيات وجرحى، محملاً المسؤولية إلى السلطات الرسمية التي تهاونت في الصيانة والترميم.
ويقول لـ"اندبندنت عربية"، "إن كانت الجهات الرسمية ترفض استمرار هذه البنايات التي تتراوح عمرها بين 100 و150 سنة فما عليها سوى ترحيل قاطنيها ثم هدمها منعاً للخسائر البشرية والمادية، أما إن رأت ضرورة في وجودها فمن الأجدر الاهتمام بها".
ويتابع عمراوي، أن السكان أيضاً لهم يد في اهتراء هذه البنايات بسبب سلوكيات مثل القيام بأشغال داخلية لكنها تمس بأساس العمارات، كما يتم وضع خزانات مائية بأحجام كبيرة في شرفات الشقق، مما يعرض البنايات للتصدعات، محذراً من أن بعض القاطنين حولوا شرفات العمارات الهشة إلى مطابخ وحمامات ومخازن بحثاً عن توسيع المسكن، وهو ما يزيد خطر انهيار هذه البنايات "الفرنسية" في أية لحظة لا سيما أثناء تساقط الأمطار بغزارة.
تركة عثمانية تتآكل
وإذا كان هذا حال بنايات حقبة الاستعمار الفرنسي من 1830 إلى 1962، فإن عمران فترة الوجود العثماني قبل 1830، الذي تم تشييده بطرق تقليدية أو في الأقل ما كان متوفراً من علم وباستخدام مواد بناء ترابية وحجرية وخشبية، يعيش أسوأ أحواله بسبب أخطار التهاوي التي تتربص به وبالخصوص خلال سقوط الأمطار. وفي ظل غياب إحصاءات رسمية حول عدد البنايات "العثمانية" التي تحصيها الجزائر، أشارت الأمم المتحدة إلى أن عدد المنازل العثمانية تراجع من 1700 منزل فأكثر بعد استقلال في 1962 إلى نحو 400 فقط.
تستمر معاناة البنايات العثمانية مع انهياراتها المتكررة في مختلف مدن البلاد مثل الجزائر العاصمة ودلس وقسنطينة والمدية ومستغانم وغيرها، وهو حال "القصبة" أو "المحروسة" أو "بلاد سيدي عبدالرحمن" بالعاصمة الجزائر التي باتت "تتآكل" على رغم محاولات الحكومة إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر ترحيل السكان وترميم الشقق وصيانتها. وأعلنت الهيئة الوطنية للمراقبة التقنية للبناء واللجنة الخاصة التابعة للهيئة الوطنية للمهندسين المعماريين وجود مئات البنايات المهددة بالانهيار في أية لحظة بالقصبة، إذ أحصت 561 بناية في الخانة الحمراء.
عن ذلك، يرى الباحث في العمران مراد عمران، أن الإهمال الذي تعرضت له القصبة في وقت سابق هو ما جعلها اليوم تعاني خطر الانهيار، مضيفاً أن التراث الإنساني الذي تمثله هذه المدينة العثمانية بحاجة إلى التفاتة تعيد له الاعتبار، وذلك من خلال ترحيل السكان ثم ترميم وصيانة البنايات التي يتعدى عمرها 200 سنة، وتصل أخرى إلى خمسة قرون.
وأشار إلى أن طريقة البناء والمواد التي تدخل في تشييده تستعجل الاهتمام به قبل فوات الأوان، لا سيما مع تساقط الأمطار، مبرزاً أن السلطات فطنت لذلك في السنوات الأخيرة، وهي في صراع مع الزمن من أجل تجديد مئات المباني العتيقة التي تشكل روح وهوية العاصمة منذ زمن طويل، بعد أن أعدت مخططاً لترميم جميع مباني العاصمة الجزائر بحلول عام 2029، بخاصة الشوارع والأحياء الرئيسة والواجهة البحرية التي يعود تشييدها لعام 1840، وأيضاً القصبة السفلى والعليا التي بناها حاكم المغرب الأوسط بلقين بن زيري عام 960.
بين التهديم والترميم
من جانبه يقول المهندس المعماري أيمن جولاح لـ"اندبندنت عربية"، إنه بات من الضروري الالتفات إلى البنايات المهترئة التي تهدد حياة المواطنين، لا سيما مع الاضطرابات الجوية التي ترافق فصل الشتاء، وهي من بين الأسباب التي تضاعف خطر الانهيارات والتصدعات، مبرزاً أن عمليات التهيئة والترميم باتت ضرورية، وهي التي تسير بخطى السلحفاة على مستوى الطرقات والشوارع الرئيسة، وتنعدم مع عمارات الأزقة الثانوية، وشدد على أنه لا يجب تركيز الأشغال على إعادة بريق الواجهات فقط، وإنما الاهتمام بالبنية التحتية لأن المنازل هي تراث إنساني أيضاً.
من أجل مواجهة التقلبات الجوية التي باتت تتسبب في حوادث مأساوية، وفي سياق التدابير الاستباقية لمواجهة التساقط المفاجئ والغزير للأمطار في بعض المناطق بشكل يفوق المعدلات الموسمية، توجه وزارة الداخلية والجماعات المحلية، في كل مرة، تعليمات إلى المحافظين تخص مختلف الأعمال الوقائية التي يتعين الشروع في تنفيذها، لكن يبقى غضب الطبيعة تارة ويد الإنسان تارة أخرى سببين في انهيار المباني وحصد الأرواح.