Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إلزه لاسكر شولر الشاعرة الرائدة التي انتهت متشردة

ألمانيا تستعيد ذكراها وأعمالها التعبيرية التي تركت أثرا كبيرا

الشاعرة الألمانية إلزه لاسكر شولر (موسوعة الشعر الألماني)

ملخص

ألمانيا تستعيد ذكراها وأعمالها التعبيرية التي تركت أثرا كبيرا

"كثيراً ما تمنيتُ لو أبوح لكَ، /بكلمات حب كثيرة، /أما أنتَ فتبحثُ مضطرباً/ عن معجزات ضائعة. لكن - عندما تسيرُ ساعاتُ طفولتي/ فسوف نحتفلُ معاً بالعُرس./ عيناك الحلوتان/ هما أجمل أزهاري./ وقلبُكَ ملكوتُ سماواتي/ دعني أنظرُ فيه./ أنتَ، /أنتَ عودُ نعناع نضر/ غضٌ وحالم./ طالما تمنيتُ لو أبوح لكَ،/ بكلمات حب كثيرة، لمَ لمْ أفعل؟" هذه القصيدة كتبتها شاعرة لم تتوقف عن التغني بالحب وللحب حتى في أحلك فترات حياتها في المنفي حيث عاشت وماتت فقيرة معدمة؛ شاعرة كانت تبحث طوال عمرها عن الحبيب الذي ينتشلها من وهدة اليأس والوحدة القاتلة، لتصل معه إلى الحب الإلهي.

إنها الشاعرة إلزه لاسكر شولر Else Lasker-Schüler (11 فبراير/ شباط 1869 – 22 يناير/ كانون الثاني 1945) التي كانت في مستهل القرن العشرين من أهم الأصوات الشعرية في ألمانيا، ورائدة من رواد المذهب التعبيري، وشاعرة حداثية كان لها تأثير طاغ على الحركة الطليعية الألمانية في مطلع القرن العشرين. طاردها النازيون بسبب أصلها اليهودي، فاضطرت إلى الهروب من ألمانيا لتبدأ رحلة المنفى القاسية التي انتهت في فلسطين، ليس لأنها كانت تتمنى أن تعيش في "أرض الموعد"، أو لاعتناقها الأيديولوجية الصهيونية، بل لأنها البلد الوحيد الذي استقبلها بعد أن طردتها ألمانيا النازية، وبعد أن رفضت سويسرا منحها تجديداً لتصريح الإقامة فيها. لكن قبل أن نستطرد في سرد قصة حياتها، لنتوقف قليلاً أمام قصيدة حب أخرى للشاعرة تقول فيها: "أحبُكَ/ وأجدُكَ/ حتى عندما يُظلمُ النهار./ حياتي كلها/- وحتى الآن - /بحث وتيه. أحبُكَ. أحبُكَ. أحبُكَ./ شفتاك تتفتحان.../ أصمُ هو العالم،/ أعمى هو العالم / والسحابةُ أيضا/ وأوراق الشجر/ نحن فقط،/ التراب الذهبي،/ الذي منه: خُلقنا".

"وِلدتُ في مدينة طيبة بمصر القديمة، مع أنني رأيت نور العالم في إيلبرفلد على ضفاف نهر الراين. ذهبت إلى المدرسة إلى أن أتممت الحادية عشرة، ثم تحولت إلى روبنسون كروزو، وعشت خمس سنوات في المشرق - بعدها أصبحت حيةٌ لا أرزق". هذه الكلمات التي كتبتها الشاعرة تبين على خير وجه نزعتها للحياة في عالم الخيال الجميل، والهروب من برودة الواقع، فهي لم تر طيبة – التسمية القديمة لمدينة الأقصر - مرة واحدة، لكنها كانت تحب أن تسمي نفسها "يوسف أمير طيبة".

"أحضرتُ إلى العالم حباً"

ولدت الشاعرة عام 1869 وسط عائلة يهودية ميسورة الحال، فوالدها كان مصرفياً ثرياً. نعمت بطفولة سعيدة مدللة، وبعطف ورعاية الأم التي أحبتها إلزه حباً شديداً، وظلت تكتب فيها ولها الأشعار حتى وفاة الشاعرة عام 1945. عديدةٌ هي الدواوين التي أهدتها إلزه لأمها، وكذلك الأشعار التي كتبتها من فيض حبها لها، مثل هذا المقطع من قصيدة "أغنيتي الصامتة": "قلبي: زمنٌ حزين،/ يدقُ بلا صوت./ كان لأمي جناحان من ذهب،/ لم يجدا مستقراً./ اصغوا: عني تبحثُ أمي،/ أصابعها نور، وقدماها أحلامٌ متجولة".

غير أن طفولة الشاعرة السعيدة لم تخلُ من خبرات مؤلمة مفزعة. عندما بلغت الثانية عشرة من عمرها لاقى أخوها الحبيب باول وجه ربه، وبعدها بثماني سنوات تُوفيت أمها، فكانت صدمة بالغة للشاعرة، لعلها لم تتجاوز آثارها طوال حياتها. ويرى عديد من النقاد في فقدان إلزه لأمها أهم أسباب شعورها بالوحدة الذي سيطر عليها في ما بعد.

في عام 1893 تزوجت إلزه من الطبيب البرليني لاسكر، وبعدها بستة أعوام رُزقت بابنها الوحيد الذي منحته اسم أخيها المتوفى باول. بعد وفاة أمها أصبح طفلها هو محور حياتها، فأغدقت عليه كل حبها وعطفها. تقول الشاعرة - وهي اليهودية المتدينة - في إحدى قصائدها مخاطبةً ابنها: "حبي إليك هو الصورة/ التي يجوز للمرء/ أن يصنعها عن الله". لذلك كان حزنها عظيماً عندما مرض بالسل، وفقدته وهو فتى يافع لم يتجاوز العشرين إلا بسنة واحدة، فأُصيبت بحالة من الاضطراب النفسي لم تفارقها حتى وفاتها. بعد حوالى ثماني سنوات من زواجها انفصلت الشاعرة عن زوجها، ثم تزوجت مرة أخرى، لكن الزواج انتهي بالطلاق أيضاً. بعد انفصالها عن زوجها الثاني لم تستقر الشاعرة في مكان، فتنقلت من فندق إلى آخر في برلين، مما زاد ولا شك من شعورها بالقلق عبرت عنه في قصائد عديدة، منها قصيدة "صلاة": "أتجول دوما في الليل .../ أحضرتُ إلى العالم حباً/ حتى يُزهر كلُ قلبٍ زُرقةً،/ سهرتُ حياةً كلها تعب/ وأحطتُ الربَ بأنفاسي المظلمة".

ولعل هذا الشطر الذي تقول فيه "أحضرتُ إلى العالم حباً/ حتى يُزهرُ كلُ قلبٍ زُرقةً" يلخص لنا رسالتها الشعرية.

"وحيدةً أرشفُ من شذاك"

مع مطلع هذا القرن انضمت الشاعرة إلى الحركة الفنية البوهيمية المتمردة على قيم المجتمع البرجوازي المتحفظ في برلين، المدينة "القوية الفظيعة" التي "تدور فيها ساعة الفن بلا تأخير ولا تقديم" كما وصفتها ذات مرة. بدأت إلزه لاسكر شولر تنشر أولى قصائدها في الصحف والمجلات، فلاقت الإعجاب الشديد من الصحف التقدمية التي وصفت أشعارها بأنها "عبقرية"، استطاعت أن تعبّر بحرية عن أشواق المرأة الإيروسية. تعرضت الشاعرة أيضاً للهجوم الضاري من الصحف المحافظة التي اعتبرتها أشعاراً إباحية و"سقيمة الذوق". وسرعان ما غدت رمزاً للتحرر من سطوة العادات البرجوازية، مكونة صداقات مع مشاهير الأدب والفن آنذاك، مثل غوتفريد بِن الذي أهداها أحد دواوينه الشعرية عام 1913، ومع الشاعر غيورج تراكل الذي اختلفت معه كثيراً، وغنى لها في أشعاره مراراً.

شاركت إلزه لاسكر شولر في إصدار عدة مجلات أدبية كانت تعبر عن الحركة الشعرية الجديدة، وفي عام 1913 ظهر ديوانها الذي حقق لها شهرة كبيرة، وهو: "أغاني عبرية" الذي يعتبره النقاد الذروة الأولى في إبداعها. ويتميز الديوان بالمزج بين الموضوعات الجرمانية والعبرية، وبين التصوف المسيحي واليهودي، وغلبة الخيال والصور الشرقية، مثلما نرى في قصيدة "إله يعقوب": "أُحبُك يا إلهي،/ في ثوبك الوردي،/ عندما تخرج من الحدائق يا إله يعقوب،/ أيها الإله الشاب،/ أيها الشاعر،/ وحيدةً أرشفُ من شذاك. أولُ أزهار دمائي كانت/ متشوقةً إليك،/ أيها الرب الجميل،/ يا رفيق الطفولة،/ ذهبُ بابِكَ ينصهرُ/ من شوقي إليك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد هذا الديوان حصدت إلزه لاسكر شولر مديح النقاد من كل جانب، وقيل عنها "إنها أكبر شاعرة أنجبتها ألمانيا على الإطلاق"، وحصلت على تكريم متأخر عام 1932 بمنحها جائزة كلايست. لكن القدر لم يمهلها، ولم تنعم طويلاً بالاستقرار النفسي الذي كانت في أشد الحاجة إليه، إذ مع تولي هتلر الحكم عام 1933 بدأت رحلة النفي والتشريد للشاعرة اليهودية التي كانت قد تعدت الستين من عمرها. شنت الصحف حملةً مسعورة عليها وعلى أعضاء لجنة جائزة كلايست الذين كرموها (وهو أمر ما زال يتكرر كثيراً: مع اختلاف الموقف السياسي، تختلف النظرة إلى الكاتب الذي نال من قبل تقديراً أدبياً – رواية "تفصيل ثانوي" لعدنية شبلي كمثال)، ولم تمر بضعة أشهر حتى كانت كل أعمال إلزه لاسكر شولر على قائمة الكتب الممنوعة.

"القيامة للمحب أما الكراهية فهي قبر"

أدركت إلزه لاسكر شولر أنه لم يعد لها مكان في ألمانيا النازية، فهربت من دون مال أو تصريح بالسفر إلى سويسرا، وهناك هامت الشاعرة العجوز على وجهها لا تعلم أين تذهب، وفي الليل كانت تنام في الحدائق العامة، إلى أن ألقت شرطة الآداب القبض عليها بتهمة التشرد، وبذلك عرف الرأي العام السويسري بإقامة الشاعرة في سويسرا، وهي التي كانت قصائدها تجاور قصائد أمير الشعراء الألمان غوته في المجموعات الشعرية. تعاطفت السلطات السويسرية مع الشاعرة ومنحتها تصريحاً محدوداً بالإقامة، استطاعت تجديده أكثر من مرة. وبعد ستة أعوام في سويسرا تحتم عليها الرحيل. في تلك الأعوام كان الخوف والرعب يسيطران عليها، لذا كانت تهرب بأفكارها بعيداً عن الواقع اليأس إلى عالم خيالي تحيا فيه في سعادة مع أحبائها الراحلين أو البعيدين عنها. كانت تفكر في موتها، ولا ترى خلاصاً إلا في الحب - البشري والإلهي، مثلما عبرت عن ذلك في قصيدة "خريفية": "في طريقي أقطفُ آخرَ وردة،/ قد جاء ملاكٌ ليحيك/ لي ثوبَ الموت -/ عليّ الآن أن أحملَ/ ثقلَ عوالمَ أخرى./ الحياة الأبدية لك/ يا من عرفت الحبَ وخَبِرتَه./ القيامة للمحب/ أما الكراهية فهي قبر، مهما ارتفعت شعلتها عالية./ أريد أن أبوح لك بحب كثير كثير -/ حتى عندما تهبُ الريحُ الباردة،/ وتدور الدوامات حولَ الشجر، حول القلوب التي ما زالت في مهدها تغفو".

المحطة التالية في منفى الشاعرة كانت فلسطين التي استقبلتها مثلما استقبلت آلافاً من اليهود الهاربين من النازية. كيهودية كانت تُكِن لفلسطين حباً خاصاً دفعها إلى إصدار كتاب أثناء إقامتها في سويسرا بعنوان "أرض العبرانيين" - والكتاب قصيدة نثرية طويلة في حب "أرض الموعد". لكن بعد وصولها إلى مدينة القدس عام 1939 اصطدمت الشاعرة مرة أخرى بالواقع القاسي؛ فلم تجد المدينة المقدسة المتوهمة، أو "عروس الله ذات الخمار" كما تغنت بها، وإنما وجدت واقعاً سياسياً يموج بالصراع والكراهية والتطهير العرقي لأهل فلسطين. كانت الشاعرة قد بلغت السبعين، ولم تكن بطبيعتها ذات اهتمامات سياسية، ولم تكن على وعي بما يحدث، لذلك اتسمت آراؤها في قضية فلسطين بالسذاجة المفرطة. كانت تحلم على سبيل المثال بالتصالح بين اليهود والعرب عن طريق إقامة احتفالات شعبية مشتركة! أصدرت الشاعرة في فلسطين ديواناً يُعتبر القمة الثانية في إبداعها، وهو "البيانو الأزرق". وفي يناير 1945 توفيت إلزه لاسكر شولر عن عمر جاوز الخامسة والسبعين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة