ملخص
التاريخ يعلمنا أن الذين يرتكبون أفظع الجرائم ليسوا وحوشاً ولا مختلين عقلياً ولا شياطين. بل هم أشخاص عاديون يعيشون بيننا
في ليلة باردة من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، جلست في مقعدي لحضور العرض الأولي لفيلم "منطقة الاهتمام" The Zone of Interest- الذي طرح في دور السينما خلال عطلة نهاية الأسبوع هذه في بريطانيا. وهو يقصّ حكاية رودولف هوس، قائد أوشفيتز الذي سكن بجوار المعسكر برفقة عائلته. كنت أعرف الكثير عن هذا الموضوع.
بصفتي موّلفاً وكاتب سير ذاتية، قضيت سنوات كثيرة أجري أبحاثاً عن عائلة هوس. كنت أول من سجّل مقابلة مع ابنة القائد وزرت أوشفيتز برفقة أفراد من عائلته: كنّته وحفيده.
واكتشفت عشرات المواد الأرشيفية وطالعت بيانات ومذكرات لا تُعدّ ولا تُحصى. وتمخّضت هذه الجهود عن كتاب تصدّر قائمة المبيعات بعنوان هانس ورودولف نُشر منذ عشر سنوات وحاز على جائزة "وينغايت" الأدبية.
[وقبل مشاهدة الفيلم] ساورني بعض القلق. هل سيتمكّن صانعو الفيلم من تصوير التفاصيل بشكل صائب؟ هل سيُصوّر هوس كما كان فعلاً؟
صادفت اسم رودولف هوس أول مرة في عام 2006 عندما استمعت إلى تأبين عمي الأكبر هانس ألكساندر. كانت معظم التفاصيل مألوفة بالنسبة إليّ، إذ فرّ هانس الألماني اليهودي من برلين في منتصف ثلاثينات القرن الماضي. والتحق بصفوف الجيش البريطاني في لندن ثم قضى فترة الحرب في أداء أشغال بسيطة. وعند نهاية النزاع، أُرسل إلى بيرغن- بيلسن بعد تحرير المعسكر.
لكن بعد ذلك تناهت إلى مسامعي معلومة جديدة تماماً بالنسبة إليّ: عقب انتهاء الحرب بعشرة أشهر، تقفّى هانس رودولف آثار هوس واعتقله. وبعد استجوابه على يد عمي الأكبر، ظهر هوس كشاهد في محاكمة نورومبيرغ، فكان أول نازي ذو رتبة رفيعة يعترف بفظائع "الحل النهائي". واقتيد بعدها إلى بولندا حيث خضع للمحاكمة وصدر بحقه حكماً بالإعدام.
قضيت ست سنوات في البحث عن تفاصيل هذه القصة الساحرة. سافرت إلى أوشفيتز وزرت مكاتب الأرشيف في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل ولوكسمبورغ. كما جمعت معلومات عن عمي من العائلة وجمعت سجله العسكري.
اكتشفت تفاصيل مطاردة هانس لهوس التي قادته عبر برلين وهامبورغ وهايد ثم فلينسبرغ قرب الحدود الدنماركية قبل أن يعثر، برفقة مجموعة من الجنود البريطانيين، على ضالّتهم في 11 مارس (آذار) 1946 داخل حظيرة قديمة في قرية غوتروبل. لكن كلما تعمّقت في البحث، ازدادت رغبتي بفهم القصة من وجهة نظر القائد الألماني. ففي أي يوم عادي، كان الرجل يشرف على مقتل 10 آلاف شخص بالغاز السام قبل أن يقصد منزله، تلك الفيلا المجاورة للمعسكر ليتناول العشاء مع زوجته وأطفاله. لماذا فعل ذلك؟ وكيف تعايش مع ذلك؟
في ذلك الوقت، لم يكن أي فرد من عائلة هوس قد أدلى بتصريحات علنية. ثم رأيت مقالاً لصحافي إسرائيلي حول حفيد رودولف هوس راينر، العاطل من العمل الذي يسكن قرب لودفيغزبيرغ في ألمانيا. اتصلت به واتفقنا أنني سأرافقهما في رحلة إلى أوشفيتز.
بعد عدة أسابيع، كنت أمرّ تحت بوابة المعسكر المصنوعة من الحديد المطاوع والتي كُتبت عليها عبارة "في العمل حرية" [أو العمل يحرر المرء] بالألمانية Arbeit Macht Frei. . رافقتنا أيضاً والدة راينر أيرين التي كان زوجها السابق هانس- يورغن نجل القائد. سكن الصبي في ذلك المكان بين سن الثالثة والسادسة، ولصغر سنّه، لم يتذكر تفاصيل كثيرة. أثناء سيرنا على الطريق المرصوف بالحصى، رأينا الأسلاك الشائكة التي كان السجناء يلقون بأنفسهم عليها رغبة بإنهاء حياتهم. والجدار الذي أردي أمامه الآلاف بالرصاص. وثكنات الطوب الأحمر التي اعتُقلوا وعُذّبوا فيها.
قالت أيرين وهي تجهش بالبكاء إلى حد كان من الصعب فهم كلامها "لم أعلم أياً من هذا عندما تزوجت هانس-يورغن". بعد 100 متر، اقتربنا من حائط. وعلى الجانب الآخر، ظهرت فيلا من طابقين محاطة بحديقة شاسعة، وهي المكان الذي عاشت فيه عائلة هوس، وظهرت صوره في فيلم 'منطقة الاهتمام'. وسمّت زوجة القائد، هيدويغ هذا المكان 'جنة'. نظرت إلى الفيلا وسألت أيرين إن كانت حماتها هيدويغ تعلم بعمليات القتل. وأجابتني بصوت خافت "بالطبع، بالطبع. عاشت هناك سنوات".
وصلنا إلى مبنى ذو سقف دائري منخفض. كانت هذه محرقة الجثث التي أجرى فيها هوس أول اختباراته مع مادة زيكلون بي المصنّعة على شكل حبيبات من السيانيد، والتي استُخدمت لقتل السجناء بالغاز. وقال راينر وهو يبكي كذلك "ما فعله جدي سيئ. بالغ السوء. درست هذه الأحداث لكن مع وجودي هنا أرى أنها أسوأ بكثير".
وُضعت بجوار المحرقة مشنقة خشبية. في هذا المكان، أُعدم القائد في النهاية جزاء جرائمه في أبريل (نيسان) 1947. التفت راينر ناحيتي وقال لي بكل واقعية "لو علمت أين دُفن جدي، لتبوّلت على قبره".
بعد فترة قصيرة من زيارتي لأوشفيتز، علمت أن ابنة رودولف هوس، بريجيت، على قيد الحياة وقد استقرّت في واشنطن العاصمة. في خمسينيات القرن الماضي، عملت في عرض الأزياء في إسبانيا، لمصلحة دار أزياء بالنسياغا والتقت مهندساً يحمل الجنسيتين الإيرلندية والأميركية. تزوج الثنائي في عام 1961 وبعد فترة قضياها في آسيا والشرق الأوسط، انتقلا إلى واشنطن العاصمة. كانت فرصة لكي تبدأ بريجيت حياتها من جديد.
كانت الشخص الوحيد القادر على إخباري عن شكل الحياة قرب معسكر أوشفيتز- والأهم، كيف كانت شخصية رودولف في الحقيقة؟ قضيت ثلاث سنوات في محاولة إقناع بريجيت بالكلام معي. كلما اتفقنا على اللقاء، تظهر مشكلة [تحول دون اللقاء]. فتبلغني "أنا متعبة جداً. لا يمكنني الحديث عن هذا الموضوع الآن. ربما الأسبوع المقبل".
في نهاية المطاف، حددنا موعداً. تذكرتُ أنها قضت بعض الوقت في بافاريا، ولذلك اشتريت في طريقي إليها قالب حلوى غنياً بالشوكولاته ووقفت بعدها بدقائق لأدق على باب منزلها، في ضواحي العاصمة. تساءلت إن كان جيرانها- من سيناتورات وأعضاء لوبيات [مجموعات الضغط] وصحافيين- يعرفون من يسكن بجوارهم.
وقفت أمامي سيدة مسنة بشعرها الرمادي الطويل. حسبتُ أنها ستخبرني مرة جديدة بأن الوقت غير مناسب. فقدّمت لها قالب الحلوى وقلت "هذا لك". "آه حسناً"، قالت بابتسامة وسمحت لي بالدخول في نهاية الأمر.
كان منزلها معتماً وقاتماً، وكل ستائره مغلقة. عبَرَت غرفة الجلوس المزدحمة بالأغراض لتدخل غرفة صغيرة حيث جلست وأشارت إلي بالجلوس على كرسي قديم. وُضع جهاز التلفزيون في مكان قريب، وكان مذيع الأحوال الجوية يتوقع هطول الثلوج. انتصبت بيننا شجرة عيد الميلاد. فقالت لي "هذه الزينة صنعتها والدتي". والدتها، هيدويغ، زوجة القائد. فجأة، بدا التاريخ قريباً جداً [على قاب قوسين وغير بعيد].
تحدثنا عن الحياة في الفيلا. أخبرتني أنها انتقلت إلى المكان بعمر الثامنة في عام 1940 وغادرته بعد ثلاث سنوات ونصف، بعمر الحادية عشرة. وهي تتذكره جيداً. كانوا خمسة أطفال. كلاوس البكر ثم هايدراود بعدها بريجيت وهانس-يورغن والطفلة آنغريت التي وُلدت في عام 1943.
تشاركت بريجيت غرفة النوم مع شقيقتها الأكبر منها سناً. كان لديهم كلاب دالماسية وكلاب صيد وسلحفتان اسمهما جامبو وديلو. ووُضعت في الحديقة لعبة للتزحلق في آخرها بركة صغيرة، وحفرة رملية ورقعة زراعية زرعت فيه والدتها نباتات استوائية. هل عرفت أن والدها كان يدير معسكر اعتقال؟ نعم، علمت ذلك؛ فقد عمل في حديقتهم رجال يرتدون ملابس مخططة بالأبيض والأسود. تذكرت كيف تنكّر أطفال عائلة هوس مرة بزي السجناء ووضعوا مثلثات سوداء ونجوماً صفراء على قمصانهم، وركضوا وراء بعضهم بعضاً إلى أن رآهم والدهم وطلب منهم الكفّ عن ذلك.
عرفت من قراءاتي حول أوشفيتز ما قاله الناس غالباً عن وجود رائحة حادة وبشعة في الهواء بسبب حرق الجثث. كانت بريجيت متأكدة أنها لم تشم أي رائحة مماثلة وأصرت على عدم معرفتها بغرف الغاز أو المحرقة (كان مركز القتل الرئيسي يقع على بُعد ميلين من الفيلا في مخيّم اعتقالي أكبر يُعرف باسم أوشفيتز الثاني- بيركناو).
لكن ما أردت أن أعرفه حقاً هو ما كان عليه والدها، ذلك الرجل المسؤول عن أكثر من مليون وفاة.
لم تتذكره بريجيت كوحش، بل كوالد حنون. درج على سؤالهم عن [تفاصيل] يومهم عند عودته إلى المنزل. وكان يشغّل الموسيقى الكلاسيكية على الغراموفون ويتمشى حول المنزل وهو يدخن السيجار. وكان يقرأ لأطفاله قصصاً منها "هانسل وغريتيل". وذهبوا إلى بيوت الكلاب ليربتوا على كلاب [من فصيلة] الراعي الألماني التي يملكها. وكان يصطحبهم إلى النهر خلف المنزل وينزّههم بقارب صغير ذو مجدافين. أضافت أنهم كانوا يذهبون لركوب المزلجة ويغنون الأناشيد الدينية في الطريق إلى الكنيسة.
أعدت سؤالي عن شخصيته، فكيف كان؟ أجابتني "كان ألطف وأحنّ والد في العالم". أطرقت لبرهة. ثم سألتها: كيف يمكن ذلك؟.
جاء دورها لتصمت قليلاً. ثم أخبرتني أنهم أخفوا عنها أخبار عمليات القتل، لكنها لا تنفي وقوع هذه الجرائم. وأضافت "لا بدّ أنه كان له وجهان. الوجه الذي أعرفه... والوجه الآخر". قالت بريجيت إنها مقتنعة بأنّ والدها كان رجلاً حساساً. وأضافت "أنا متأكدة أنه شعر بالحزن في داخله. إنه مجرد شعور. لكن من طريقة تصرفه في المنزل، وطريقة تعامله معنا، أحياناً كان يبدو حزيناً عند عودته من العمل". وفق رواية بريجيت، كان القائد قادراً أن يحبّ، وهي تعتقد أنه كان مضطرباً بسبب ما سمّته "عمله".
أكّد رودولف هوس نفسه هذا الشعور بالاشمئزاز، إذ كتب في مذكّراته أنه غالباً ما كان يشرب الكحول لدرجة فقدان الوعي، فينام أحياناً بجوار جياده في الاسطبل. لاحقاً، درس معالج نفسي أميركي شخصيته ووجد أنه لم يكن يتمتع بذكاء فوق المتوسط فحسب، بل كان طبيعياً من ناحية الإدراك والمعرفة: بعبارات أخرى، لم يكن مختلاً عقلياً.
أرتني بريجيت الصورة المعلّقة فوق سريرها؛ يظهر في الصورة شاب وشابة يرتديان ثياباً ريفية. هذان والداها. بعد كل هذه السنوات، لا تزال تنام تحت صورة رجل قد يكون أكبر قاتل جماعي في التاريخ. صُدمت بالحب الكبير الذي تكنّه ابنة هوس له، حتى بعد معرفتها بجرائمه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أربكني الوضع، ولذلك اعتراني الفضول كي أعرف إن كان الفيلم سيصوّر "الأب المحب والحنون" الذي وُصف لي. هل سيصوّر رودولف هوس كما كان، ذلك الشخص المعقّد الشخصية الذي يشعر بالتنازع؟
على امتداد الجزء الأكبر من الفيلم، نرى رودولف (يؤدي دوره كريستيان فريدل) وإنغريد (ساندرا هولر) وبريجيت (نيلي آرنسماير) والآخرين- وهم يعيشون حياتهم اليومية في الفيلا، فيما نسمع في الخلفية أصواتاً متنافرة تنذر بالسوء، من هدير وقعقعة وطحن. وفي ذلك إشارة إلى عمليات القتل التي كانت تُرتكب على مقربة منهم وعلى نطاق هائل. والنتيجة آسرة ومروّعة.
ومن المثير للاعجاب أنّ صانعي الفيلم تمكّنوا من تصوير التفاصيل التاريخية للحياة العادية بشكل دقيق؛ سواء الثياب أو الكلاب أو البركة أو التعريشة أو لعبة التزحلق أو طاولة النزهة- وصوّروها كلها تحت ضوء الشمس الساطع، في إطار جميل من ألوان ذلك الزمان. لكن أكثر ما أثار انتباهي هو تقديم رودولف هوس كما لو كان موظفاً بيروقراطياً مجرّداً من المشاعر.
لم يكن هذا هو الشخص الذي عرفته بعد أبحاثي. بعد كل ما أخبرتني به ابنته، بدا أنّ القائد كان رجلاً عاطفياً وسليم العقل اختار- وهذه هي النقطة الجوهرية- أن ينجو [يفعل الصواب بالنسبة له من دون تفكير عميق في المسألة]. يوماً بعد يوم وسنة بعد أخرى. وهذه النتيجة مرعبة لأنها تعني أنّ أياً كان قادر على فعل ما فعله.
فما يتمتع به البشر من قدرة على اتخاذ قرارات سيئة بشكل كارثي، على رغم مشاعرهم تجاه الموضوع، صادم ومرعب. كان من اللافت أن نرى مآل الأمور لو سلط فيلم "منطقة الاهتمام " الضوء على هذه النقطة بشكل أكبر.
لأن التحذير الذي يحمله لنا التاريخ هو أن الذين يرتكبون أفظع الجرائم ليسوا وحوشاً ولا مختلين عقلياً ولا شياطين. بل هم أشخاص عاديون يسيرون بيننا كل يوم. يقصّون قصصاً خيالية على بناتهن ويجلسون لتناول العشاء مع عائلاتهن ويسألونهم عن مسار يومهم.
صدر كتاب توماس هاردينغ "هانس ورودولف" عن دار نشر راندوم هاوس، يمكنكم متابعته على تويتر thomasharding@
© The Independent