Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بؤساء" هوغو يضحكون الجمهور في مسرحية مصرية

المخرج محمود جراتسي استخدم الدمى ولجأ إلى الكوميديا السوداء

"البؤساء" في صيغة مسرحية كوميدية مصرية (خدمة الفرقة)

في مصر، على الأقل، لم يسبق لمخرج مسرحي اللجوء إلى الدمى، في معالجته المسرحية لرواية "البؤساء" للشاعر والكاتب الفرنسي فيكتور هوغو (1802- 1885). المخرج المصري محمود جراتسي، غامر هذه المرة وقدم "البؤساء" مازجاً بين الدمى والعنصر البشري، فضلاً عن تناوله لها بشكل تغلب عليه الكوميديا، معتمداً على المسرح الأسود في بعض المشاهد، تاركاً خلفه كل المعالجات السابقة لهذا النص، التي جاءت في غالبها متشابهة حد التطابق.

إن من يقرأ رواية "البؤساء"، التي تعد واحدة من أشهر روايات القرن التاسع عشر، سواء في ترجماتها الكاملة أو المختصرة، ويطالع الجحيم البشري الذي يصوره فيكتور هوغو، والمتمثل في الجهل، والبؤس، والقوانين التي لا تعرف المرونة، أو لا تضع الرحمة فوق العدل، قد لا ترد إلى ذهنه فكرة تقديمها مسرحياً بطابع تغلب عليه الكوميديا.

أفق التوقع

وعلى رغم أن العرض كسر أفق التوقع لدى كل من يعرف الرواية بمأساويتها، فقد نجح المخرج في تقديم صياغته المشهدية في شكل جيد ومتماسك، حافظ على الرؤية الكلية للنص الأصلي، من دون أن ينزلق إلى الاستغراق في الكوميديا، أو يعممها على المشاهد كافة، وهي على أية حال كوميديا سوداء تجلب الضحك والأسى في آن واحد.

باستخدامه الدمى، حوّل جراتسي المجاز إلى صورة. إن السجين جان فالجان، كلما حاول البحث عن عمل شريف بعد خروجه من السجن، طاردته هواجس سوابقه، وهي عبارة عن دمية صغيرة يضعها الممثلون فوق الرأس، ويرددون بصوتها إن جان فالجان كان لصاً وتم سجنه.

ولعل عاملات المصنع، الذي أسسه جان فالجان بعد أن حصل على منحة راهب الكنيسة، يظهرن مقطوعات الرؤوس كأنهن مسيرات بلا عقل أو إرادة، إمعاناً في تصوير بؤسهن الشديد، ليس عليهن سوى إطاعة أوامر مدير المصنع، الذي كانت رأسه هو الآخر عبارة عن فردة حذاء، إمعاناً في التشويه، وسعياً إلى إدانة، أو مسخرة كل مدير متجبر يقهر العاملين تحت إمرته، بينما يقف، ذليلاً وخاضعاً وخافضاً رأسه، أمام صاحب العمل. هو نموذج نراه كثيراً في مثل هذه الأجواء البائسة.

نزع الدمية

وإذا كان جان فالجان، بطل الرواية، الذي تم سجنه لمجرد أنه سرق رغيفاً لإطعام ابنة أخته الجائعة، فقد ظهر في بداية العرض مختبئاً خلف دمية مشوهة وبائسة، فإنه بعد موقف الراهب معه ورفضه إخبار الشرطة بأنه سارق، بل وإهدائه المسروقات ليبيعها ويبدأ عملاً شريفاً، ينزع الدمية عنه لنصبح أمام رجل شريف ومحب للخير ومتعاطف مع تلك الفئة البائسة التي كان واحداً منها. كأن الدمية هنا هي الشخصية الدرامية الأخرى له، والتي بنزعها، يعود إلى فطرته النبيلة، ويبدأ حياة يرجوها شريفة، لكنّ السلطة الغاشمة تقف له بالمرصاد دائماً.

أما جافير، ضابط الشرطة وممثل العدل، الذي يطارد السجين جان فالجان، فهو شخصيتان أيضاً، الأولى بشرية، مضطربة وضعيفة، والأخرى دمية قفاز، ملتصقة به، تمثل طائراً كبير الحجم، وكأنه صورة أخرى له، أو كأنه السلطة التي يمثلها. وتمنحه تلك القوة التي تجعله أكثر حزماً، وأقوى شخصية، لا تعرف سوى ترديد مواد القوانين وضرورة تطبيقها بصرامة، فلا رحمة تسبق العدل هنا.

ماريوس أحد شباب الثورة وحبيب كوزيت، التي تبناها فالجان بعد موت أمها، صوره المخرج في دمية طفل، وكأنه يدين، من زاويته، تلك الرومانسية الثورية، أو المراهقة الثورية، التي لم تحسب حساباتها بدقة، ولم تقدر قوة الخصم، ولم تستعد لمواجهته بشكل جيد، فكان مصيرها الهزيمة. لعله هنا، وبشكل فني خفي، يسقط فكرته على الواقع المصري.

هكذا أمعن المخرج في اللعب والتشويه، ليحقق غرضه، ويستبدل بالمجاز الصور، التي كانت أكثر عمقاً وتأثيراً، وأكثر قدرة على تحقيق المسرحة، وكذلك على الإقناع والإمتاع.

تنوع الدمى

تنوعت الدمى في العرض (تصميم رنا شامل) ما بين دمى ضخمة، وأخرى دمى قفازات، وثالثة محمولة بواسطة الممثلين الذين يختبئون خلفها ويستخدمون الأصوات المعبرة عنها. وذلك كله في تناسق محسوب بشكل دقيق، أسهمت الإضاءة (أحمد طارق) في مشاهد المسرح الأسود، في تعميق دلالاتها، ولعبت دوراً مهماً في البناء الدرامي للعرض، بتعدد مصادر إسقاطها، وتنوع ألوانها التي تماهت مع كل حالة يتم تجسيدها على المسرح. وكانت الملابس هي الأخرى (تصميم هدير عاطف) واحدة من العناصر الذكية في العرض بمراعاتها طبيعة الشخصيات وحالتها الاجتماعية، وكذلك زمن الأحداث.

يحسب للعرض سعة خيال صناعه، وشجاعتهم في اجتراح طريقة مختلفة لمعالجة عرضهم، وقدرتهم على تمرير رسالتهم ببساطة، كأننا أمام لعبة طفولية يمارسونها، لكنها لعبة اتسمت بالذكاء والخبث الشديدين، قدموا من خلالها التسلية، والضحك، والمتعة البصرية والفكرية. ولم يبتعدوا كثيراً عن واقعهم على رغم اعتمادهم على نص أجنبي، لكنه نص حاضر أبداً، ما دام هناك جهل وقهر وبؤس. ويحسب لمخرجه نجاحه في توظيف ممثليه بشكل جيد، وأغلبهم من الشباب الهواة الذين لم يتمرسوا كثيراً على العمل المسرحي، لكنهم ظهروا وكأنهم يمتلكون الكثير من الخبرات. فقط لأنهم قرروا أن يلعبوا بعيداً من أية حسابات يضعها المحترفون في أذهانهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا كانت هذه التجربة قد تميزت بإفراد مساحة واسعة للخيال، وتمت صياغتها بشكل جيد ومختلف ومغامر، وبدا صناعها على قدر عال من الحرفية، فإن هناك بعض المشكلات التي عانت منها، ربما بسبب ضعف الإمكانات المادية، وربما أيضاً بسبب الحماسة والرغبة في تقديم أشكال مسرحية عدة في عرض واحد. هو طموح مشروع ومطلوب، لكنهم وقعوا في فخ الإطالة غير المبررة، فالعرض، الذي جاء في حوالى ثمانين دقيقة، كان يمكن اختزاله في ستين دقيقة فقط. الأمر لا علاقة له بالطول أو القصر، فلا بأس أن يقدم العرض في ساعتين أو ثلاث، ما دام ذلك يخدم الدراما ولا يثقلها، أما الزوائد التي لا تضيف إلى البناء الدرامي، فيجب الاستغناء عنها.

كذلك فإن مشاهد المسرح الأسود والعرائس المستخدمة فيها لم تكن بمستوى العرائس المستخدمة في المشاهد الأخرى، فضلاً عن أن جعل المشهد الأول هو نفسه المشهد الأخير مع تغيير طفيف، لم يكن له أي مبرر، بدا وكأن المخرج يقول هذه رسالتي، وأحسب أن الرسالة كانت لتصل من دون هذا المشهد الذي كان زائداً عن الحاجة.

شارك في العرض كل من فادي رأفت، وهدير عاطف، وميرنا أحمد، ومينا مجدي، وحسام أحمد، ونورا نبيل، وعمر فتحي، موسيقى إسلام علي، مخرج منفذ ومدرب تحريك عرائس مهند المسلماني.
اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة