ملخص
فرضت مشكلات المتقاضين في الجزائر تبني السلطات الوساطة القضائية كواحدة من الوسائل البديلة للفصل في الخصومات.
يقول أحد الوسطاء القضائيين الجزائريين "اشتد الخصام بين شخص وابن أخيه حول قطعة أرض، وطوال ست جلسات وساطة كاملة لم يقبل أي منهما مواجهة أو مجرد رؤية خصمه وكانا في قمة التشنج، لأتفاجأ بهما يحضران معاً إلى سابع جلسة صلح متبادلين الاعتذارات وقبلات الصلح، بعد أزيد من 20 سنة من الخصومة والجفاء".
مشهد اعتاد عليه الوسطاء القضائيون في الجزائر، الذين تمكنوا من فك خيوط قضايا شائكة عجز أمامها القضاء التقليدي بسبب إشكالات وتعقيدات تتعلق بالإجراءات وارتفاع كلفة الفصل في القضايا والبطء في تسوية النزاعات التي قد تستمر لسنوات داخل أروقة المحاكم، إضافة إلى كثرة الملفات المعروضة للفصل فيها.
وفرضت المشكلات التي يعانيها المتقاضون تبني السلطات الجزائرية الوساطة القضائية كواحدة من الوسائل البديلة للفصل في الخصومات ضمن المنظومة القانونية بطريقة ودية وإرساء عدالة تعويضية توافقية تصالحية بين المتهم والضحية، بدل العدالة القمعية التي أثبتت فشلها في مختلف الدول، إذ تعود فعاليتها بالأساس لبساطتها ومرونتها وقلة كلفتها.
تاريخ
وتستمد الوساطة في المجتمع الجزائري، بحسب متخصصين في المجال، من عدم الاستقرار الذي عاشه الشعب طوال وجوده وتمايزه في قالب إثنيات، تماسكت في وجه عديد الحملات الاستعمارية التي ألمت بالشمال الأفريقي، ولجوء القبائل على مر القرون إلى الاحتكام إلى الجماعة والعشيرة بدل الاحتكام إلى قوانين القوى المستعمرة، فظهرت الوساطة في شكلها التقليدي لفض النزاعات البينية كوسيلة من وسائل الحفاظ على استقلالية العشائر وحماية القيم الموحدة لتماسكها.
وبحسب القانون الجزائري الوساطة هي إجراء يهدف إلى تسوية النزاعات المدنية بطريقة ودية، وتسند هذه المهمة للوسيط القضائي بموجب أمر صادر عن القاضي يتضمن موافقة الخصوم وتحديد الآجال الأولى الممنوحة للوسيط للقيام بمهمته وتاريخ رجوع القضية إلى الجلسة، ويبلغ من طريق أمانة الضبط للوسيط والخصوم، ويكون الوسيط المعين شخصاً طبيعياً أو جمعية.
كما يجب على القاضي عرض إجراء الوساطة على الخصوم في جميع المواد، باستثناء قضايا شؤون الأسرة والقضايا العمالية وكل ما من شأنه أن يمس بالنظام العام، وإذا قبل الخصوم هذا الإجراء، يعين القاضي وسيطاً لتلقي وجهة نظر كل واحد منهم ومحاولة التوفيق بينهم، لتمكينهم من إيجاد حل للنزاع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب تقديرات الجمعية الجزائرية للوسطاء القضائيين، يوجد في الجزائر قرابة 2500 وسيط قضائي يمارسون مهامهم عبر مختلف المحافظات.
ولا يحصر القانون نشاط الوساطة القضائية في أصحاب المهن المتعلقة بالعدالة، إنما فسح المجال لكل المهن كالأطباء والأساتذة والمحامين والمتخصصين في مختلف التخصصات.
ويشترط القانون على الوسيط القضائي إنهاء مهمته في أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر، ويمكن تجديدها لنفس المدة مرة واحدة بطلب من الوسيط عند الاقتضاء، بعد موافقة الخصوم، وللقاضي إنهاء الوساطة في أي وقت إما تلقائياً أو بطلب من الوسيط أو الخصوم، وعند إنهائه مهمته يخبر القاضي كتابياً بما توصل إليه الخصوم من اتفاق أو عدمه.
وفي حالة الاتفاق يحرر الوسيط محضراً يضمنه محتوى الاتفاق، ويوقعه مع الخصوم، ثم ترجع القضية أمام القاضي في التاريخ المحدد لها مسبقاً وعند اتفاق الخصوم يصادق القاضي على محضر الاتفاق بموجب أمر غير قابل لأي طعن، ويصبح سنداً تنفيذياً.
ويفرض القانون الجزائري اللجوء إلى الوساطة القضائية في النزاعات التي تتعلق بالقضايا القانونية، مثل النزاعات العقارية أو المالية، ويجري تطبيقها في المحاكم والمحاكم التجارية، إذ يعمل الوسيط على تسهيل التواصل بين الأطراف المتنازعة وتحديد المسائل المتنازع عليها، ويساعد في التفاوض على حل وسط يرضي الجميع من دون الحاجة إلى إجراءات قضائية طويلة ومكلفة.
تعديلات
وعلى رغم ظهور الوساطة القضائية في الجزائر عام 2008 من خلال تعديل قانون الإجراءات المدنية والجزائية، واعتماد أول دفعة من الوسطاء القضائيين بصورة رسمية في 2009، فإن الوسيط ما زال يبحث له عن مكان ضمن الخريطة القضائية الجزائرية، مقارنة بنظرائه في دول أصبحت فيها الوساطة من أهم مزايا النشاط القضائي، بينما تخضع المهنة في الجزائر إلى السلطة التقديرية للقضاء.
بدوره، قال الوسيط القضائي الجزائري يوسف بن يسعد، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن نشاط الوساطة في الجزائر لا يزال مقتصراً على القضايا المتعلقة بالنزاعات التجارية والعقارية فقط دون باقي المواضيع كشؤون الأسرة والأحوال الشخصية.
أضاف أن الوساطة القضائية تمكنت من حل 45 في المئة من مجمل القضايا التي عرضت عليها، وهي نسبة جيدة تؤكد أهمية الوساطة في فض النزاعات، مشيراً إلى أن الوساطة القضائية تكمل عمل القاضي وتوفر عليه التعب والوقت في الفصل في القضايا. ونفى أن يكون الوسيط منافساً للقاضي في مهنته.
ولفت بن يسعد إلى وجود تواصل جيد بين القضاة ورؤساء المحاكم والنواب العامين والوسطاء القضائيين للتنسيق حول القضايا المعروضة للمعالجة.
وذكر أن معظم القضايا التي يعالجها سببها عدم دراية المتقاضين بالإجراءات التجارية والتعاملات العقارية مما يوقعهم في مشكلات كبيرة، ليأتي دور الوسيط لتقريب وجهات النظر واقتراح الحلول الممكنة.
ثغرات
ويقف القضاء الجزائري أمام آلاف القضايا التي تبقى في أروقة المحاكم قبل التمكن من الفصل فيها، إذ تشير إحصاءات وزارة العدل الجزائرية إلى تسجيل 44 ألف حالة طلاق وخلع في النصف الأول من عام 2022، فيما تسجل المحاكم الكبيرة في البلاد يومياً قرابة 14 قضية تتعلق بنزاعات الميراث، وتمثل الأسئلة الخاصة بنزاعات العقار التي يستفتى فيها الأئمة 50 في المئة.
ويعود الأمر إلى استثناء المشرع الجزائري القضايا المتعلقة بشؤون الأسرة والأحوال الشخصية من إجراءات الوساطة القضائية، مما دفع بالمتخصصين والنشطاء إلى إدراج هذه القضايا ضمن نطاق نشاط الوسطاء.
حول هذه النقطة، تقول رئيسة المرصد الجزائري للمرأة شائعة جعفري، إن عدم إدراج الوساطة القضائية في شؤون الأسرة يعد خطراً على العائلة، لأن كل المشكلات الأسرية يتم معالجتها على مستوى المحاكم العادية مما يزيد من تعقيد هذه القضايا.
وأوضحت جعفري أن الوساطة القضائية أدخلت على عديد من المجالات وأهملت الأسرة، وهذا ما يجب بحسبها تداركه، بخاصة مع ذهنية الرجل الجزائري الذي يعتبر جره إلى المحاكم من طرف زوجته عاراً وعيباً، وهذا ما يسرع من حالات الطلاق.
ودعت إلى ضرورة إقحام الأسرة في الوساطة القضائية، لحل كثير من المشكلات العائلية قبل الوصول إلى المحاكم، موضحة أن الوسيط من شأنه إذابة الخلافات ويستعين بحكماء العائلة للإصلاح وفق تعاليم الدين الإسلامي.
واعتبرت أنه "من الضروري عدم فتح مهنة الوساطة القضائية لكل من هب ودب، لكن يجب مراعاة تجربة الشخص في الميدان ورصيده المهني ومستوى علمي جيد وله طول النفس للفصل في القضايا المعروضة عليه".