ملخص
تتضمن البنية السياسية لعدد من #الدول_العربية وجود #محاكم_دستورية، فهل استطاعت أن تكون مستقلة فعليا عن رغبات السلطة؟
أن تتمكن المحاكم الدستورية العربية من أداء مهامها من دون تدخل السلطات السياسية النافذة، لطالما كان استثناء في العالم العربي، ولم يصبح قاعدة يوماً. أما السبب فلأن تعيين قضاة هذه المحاكم يقوم به إما البرلمان وإما الحكومة أو كلاهما معاً، ما يعني نواب ووزراء الحزب الحاكم في العادة، وبطبيعة الحال يتحول القضاة المعينون من قبل السلطة السياسية تابعين لها ومؤتمرين بأوامرها. ولكن لا يمكن التعميم إذ تشهد بعض الدول العربية تحركات للقضاة بهدف الحد من تدخل السياسيين في القضاء، ودفع كثر منهم الثمن في مناصبهم أو حياتهم.
حلم المحاكم الدستورية في العالم العربي
ظهرت المحاكم الدستورية العربية أولاً في الكويت وسوريا في عام 1973، وفي عام 1979 في مصر، وبعد انتفاضة الشعب التونسي ضد الرئيس زين العابدين بن علي ونظامه في عام 2011، تبنى الدستور الجديد إنشاء المحكمة الدستورية. وفي العام ذاته أدخلت المملكتان المغربية والأردنية المحاكم الدستورية إلى نظامهما القضائي.
لم يحدد الدستور المصري صلاحيات معينة لهذه المحكمة الجديدة عند تأسيسها، ولكن كان من مهامها الأساسية مراقبة دستورية القوانين والبت في نتائج الانتخابات وطعون المرشحين. بعد نصف قرن استقبلت القاهرة مقر "اتحاد المجالس والمحاكم الدستورية العربية" الذي يضم 15 دولة عربية، ما يعني أن سبع دول من أصل 22 لا تلحظ المحكمة الدستورية في نظامها القضائي حتى اليوم.
في الأردن أقر الدستور عام 1952 أن على البرلمان استشارة المحكمة العليا، كما لو أن هذه هي مهمتها المحددة. ثم توسعت صلاحيات المحكمة إلى ما هو أبعد من مجرد التشاور منذ عام 1998.
في لبنان انتظر النظام القضائي ثلاث سنوات على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وتوقيع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب، لإنشاء المجلس الدستوري في نظام يقوم على فصل السلطات أي التشريعية والتنفيذية والقضائية من ناحية المبدأ. وبالطبع فإن هذا الفصل بقي حبراً على ورق بينما دخلت "اللبننة" التي باتت عبارة تستخدم في السياسة الدولية لتدلل على الأنظمة التي تتحاصص الطوائف فيها السلطات بحسب حجم كل طائفة، فتصبح الدولة عبارة عن تجمع دويلات طائفية بدلاً من دمج الطوائف في إطار هوية وطنية موحدة، والمحاصصة الطائفية منعت قيام محاكم دستورية في العراق وسوريا، أما في لبنان فقد أخفق المجلس الدستوري في مواجهة نظام الطوائف وميليشياتها الخارجة من الحرب تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب"، وهو النظام الذي قام على تقاسم مغانم الدولة خصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومشروعه الذي كان قد بدأ يحقق شكلاً للدولة الجديدة وخصوصاً في تطوير البنى التحتية ومحو آثار الحرب عمرانياً، وكذلك بناء المؤسسات الحكومية وإنشاء المجلس الدستوري الذي حددت مهمته في قانون إنشائه الذي تم تعديله ثماني مرات كان آخرها في عام 2008، بمراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون، والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية.
أما سبب فشل المحاكم الدستورية العربية في الدول الطائفية كلبنان والعراق وسوريا وليبيا واليمن، فيعود لتعيين أعضائها. مثلاً في لبنان يعين نصف أعضاء المجلس الدستوري الـ10 مجلس النواب ونصفهم الآخر الحكومة، أي نفس المجموعات السياسية التي تمثلها الكتل النيابية في البرلمان، ما يجعل القضاة تابعين سلفاً للسياسيين، فينتقل الانقسام السياسي من البرلمان والحكومة إلى المجلس الدستوري لتتعطل أعماله.
الدساتير وجهات نظر والمحاكم تفسرها
في بحث منشور باللغة الإنجليزية في معظم المواقع القانونية الغربية بعنوان "المحاكم الدستورية في العالم العربي وحرية التعبير"، كتب الباحث وأستاذ القانون الدستوري في جامعة الكويت فهد الزميع أن "المحاكم الدستورية في العالم العربي تعمل في ظل أنظمة استبدادية تؤثر على استقلالها ودورها. بشكل عام، تعمل المراجعة القضائية في الأنظمة الاستبدادية كأداة وغطاء لمخالفات رجال السلطة السياسية وأزلامهم". لكن هذا لا يعني أن المراجعات القضائية في الأنظمة الاستبدادية العربية مجرد معاملات شكلية، بل في كثير من الحالات يفتح المجال ضيقاً أمام المحاكم الدستورية لتحوز قليلاً من الاستقلالية شريطة ألا تتعارض قراراتها مع المصالح الأساسية للسلطة السياسية المسيطرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وينطبق هذا النوع من التدخلات على معظم المحاكم الدستورية في العالم العربي خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالحقوق الفردية الأساسية مثل حرية التعبير أو الانتخاب أو بمراقبة التشريعات التي قد تخالف المصلحة العامة من أجل مصلحة المسيطرين على السلطة، فيعمل القانون كنظام فرعي للسياسة أو تابع لها أو كغطاء على جرائم ترتكب تحت سطوة السلطة. ويتحول القضاة النزيهون إلى جزء من النظام الإداري الفاسد رغماً عنهم أو برضاهم، ولكن من يرفض منهم الانضباط بالتوازنات السياسية في إطار التبعية لمن اختاره قاضياً في المحكمة فلا يبقى أمامه سوى الاستقالة النهائية من وظائف الحكومة.
في هذه الحالات يصبح مستوى الاستقلالية وديناميكيات المراجعة القضائية في العالم العربي متعلقاً بنوع القضايا التي تفصل فيها المحاكم الدستورية، فكلما كانت القضية غير مهمة أو لا تعني ولا تطال أصحاب السلطة مباشرة أو المقربين منهم داخل الإدارة، ولا تطال المؤسسات الحكومية التي يسيطر عليها الفرقاء السياسيون، كانت المراجعة القضائية أكثر سرعة وديناميكية"، كما جاء في بحث الدكتور الزميع. أما في القضايا القانونية والدستورية التي تطال أصحاب السلطة، فإن البت فيها قد لا يحدث على الأرجح، وفي لبنان مئات الأمثلة ليس آخرها انفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020، والأمر نفسه يحدث في معظم الدول العربية حيث تنطلق قضايا تُظهر حرص السلطة على تطهير الإدارة من الفاسدين تحت لواء تنظيم المؤسسات ومنها النظام القضائي أو محاسبة متورطين في جرائم صورية تهدف إلى تحسين صفحة السلطة أمام الدول المراقبة أو أمام الدول والمصارف المانحة للقروض. ولكن هذه الانطلاقات سرعان ما تخبو وتتلاشى في طيات الملفات الكثيرة المقفل عليها في عتمة الأدراج، فلا تخرج منها إلا بإرادة حامل المفتاح.
من منظور كمي تعتبر المحكمة الدستورية العليا المصرية الأكثر نشاطاً وتليها الكويت. وأقل البلدان نشاطاً الأردن. لم يتم بعد تشكيل المحكمة الدستورية التونسية وتتولى مهامها جزئياً هيئة مؤقتة يقتصر اختصاصها على مراجعة دستورية مشاريع القوانين. والكويت ومصر هما أيضاً أكثر المحاكم نشاطاً عندما يتعلق الأمر بنسبة القرارات التي تعلن عدم دستورية القوانين.
يقول الدكتور سليمان التماوي أحد القانونيين البارزين في العالم العربي، إن الحرية التشريعية والاستقلالية في تمرير القوانين بناء على بنود القيود الدستورية هي نتيجة طبيعية للفصل بين السلطات وأن هذه الحرية مقيدة بشكل استثنائي من قبل الدساتير وبرأيه أنه عند تصميم وصياغة الدستور في أي مجتمع، يعكس واضعو الدساتير إرادة ذلك المجتمع، ومن هنا يتحدد الطرف الذي يمارس السلطة على الآخر، أي المحكمة الدستورية العليا صاحبة قرار الفصل في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية أم أن البرلمان بكونه منتخباً من الشعب، يملك السلطة على المحكمة الدستورية أو المحكمة العليا. وهذان النوعان من طرق الفصل بين السلطات يمكن نسبهما إلى النظام الفرنسي الذي يمنع على المحكمة الدستورية مراقبة قرارات السلطة التشريعية حتى القوانين التي تصدر عنها طالما أنها حصلت على الأكثرية البرلمانية من الأصوات وهذا ما يجعلها في درجة أعلى من الدستور. أما النظام الأميركي فيعمل بطريقة معاكسة، أي أن دور المحكمة العليا الرئيس هو مراقبة السياسيين والقوانين التي يصدرونها لئلا تخالف بنود الدستور التي تعلو في الولايات المتحدة فوق أي سلطة أخرى. وكان يهدف الآباء المؤسسون بهذه الطريقة إلى كبح جماح السياسيين عن إصدار قوانين تتناسب ومصالحهم ما داموا يملكون الأغلبية النيابية في مجلسي الشيوخ والكونغرس.
والخلاف الذي يدور منذ أسابيع في إسرائيل بين مؤيد للتعديلات القضائية التي تقدمت بها حكومة بنيامين نتنياهو لتقليص صلاحيات المحكمة العليا، تدور في الإطار ذاته، أي حول سؤال: ما الذي يمنح أشخاصاً معينين في المحكمة العليا الإسرائيلية، القدرة على محاكمة أشخاص منتخبين مباشرة من الشعب في دولة تعتبر أن مجمل سلطاتها تأتي من الشعب. وقد وضعت التظاهرات الرافضة وتعنت الحكومة الدولة الإسرائيلية في حال من عدم الاستقرار.
قامت جامعة الدول العربية بتأسيس "اتحاد المحاكم والمجالس الدستورية العربية" بعد الاجتماع التحضيري في القاهرة في فبراير (شباط) 1997، وتم اختيار العاصمة المصرية مقراً دائماً له، وهناك 15 دولة من أصل 22 تضم في نظامها القضائي والسياسي المجلس الدستوري أو المحكمة الدستورية أو المحكمة العليا.