Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وجه آخر لدوستويفسكي في مرآة الكاتب الإيطالي باولو نوري

البحث عن هوية العبقري الروسي وكينونته عبر الجراح النازفة التي أحدثتها سهامه

دوستويفسكي عبقري الرواية الروسية (مؤسسة دوستويفسكي)

لا يعرف القارىء العربي الكثير عن الباحث والمترجم وأستاذ الأدب الروسي في جامعة ميلانو، الإيطالي باولو نوري، المولود سنة 1963، لكنه بالتأكيد يعرف الكاتب والأديب والفيلسوف الروسي دوستويفسكي (1821-1881) الذي غيّر مجرى حياة هذا الكاتب الإيطالي باولو نوري، منذ أن قرأ وهو في الخامسة عشرة من عمره، واحدة من أفضل رواياته، عنيت "الجريمة والعقاب". وقد خصّ باولو نوري دوستويفسكي بكتاب نشره باللغة الإيطالية سنة 2021 بمناسبة المئوية الثانية لولادته وصدرت ترجمته الفرنسية مؤخراً في باريس عن دار فيليب راي بتوقيع ناتالي باور. ولعل أبرز ما يحمل هذا الكتاب من جديد، رغم كثرة الكتب العالمية التي تناولت سيرة دوستويفسكي وأعماله، هو النظرة الإيطالية المختلفة وما تتضمن من تأويل وتفسير، إنطلاقاً من الأثر العظيم الذي تركه الروائي الروسي، في دخيلة الكاتب الإيطالي وفكره.  

 يقع الكتاب المسمّى "ما زالت تنزف، الحياة المذهلة لفيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي" في 336 صفحة، وهو يصف تجربة شاب غيّرَ كتابٌ حياته، يوم التقط في غرفةٍ تقع في الطابق العلوي من منزل العائلة الريفي، روايةً  منزوعة الغلاف أصابه مضمونها كالصاعقة، إذ ترك انطباعاً قوياً عليه، ليس فقط على مستوى اللغة الروسية وثقافتها، هو الذي درسها في ما بعد واتجه نحو تعليم الترجمة منها وإليها في الجامعة، بل على مستوى الاستفسار العميق والمؤلم عن النفس والهوية والقيم والصراعات والمعاناة والمتاهات الفكرية والجسدية وارتباطها بالظروف الاجتماعية التي تتداخل في العقل الإنساني.

وعلى غرار راسكولنيكوف بطل الرواية، لم يتوقف باولو نوري عن التساؤل عن هويته وكينونته، لكأن سهام الكاتب الروسي العظيم أصابت جسده، ففتحت فيه جروحاً، عَلِمَ للفور أنها ستظل تنزف أبداً. ولكن لماذا حتى اليوم ظل جرح دوستويفسكي مفتوحاً في فكر نوري؟ ولماذا دوستويفسكي بالذات وليس أي كاتب آخر سواه؟ هذا بالضبط ما يحاول الكتاب الجديد الإجابة عنه والذي يستعيد نوري فيه، سيرة أشهر الكُتّاب والمؤلفين حول العالم منذ ولادته سنة 1821 حتى وفاته سنة 1881، ساعياً إلى إعادة تكوين مسرى حياته ونشأة رواياته التي تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية وتحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في القرن التاسع عشر، من خلال تعاملها مع مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والدينية، علّه يجد السبب الذي دفعه للتعلق بهذا "المهندس العسكري والمترجم الذي عانى من إذلال ناشريه؛ هذا العبقري المبكر، نيقولاي غوغول الجديد، لا بل أفضل من نيقولاي غوغول، الثائر على اللاعدالة". بل الذي أُلقي القبض عليه وحُكم بالإعدام بتهمة قراءة الكتب والأعمال المحظورة والمساعدة في نشرها وتعميمها، لا سيما كتاب بلنسكي "رسالة إلى غوغول"، ولانضمامه إلى رابطة بيتراشيفسكي السرّية، المُعارضة بقوة للاستبداد القيصري وللعبودية والتي طالبت بإصلاحات في المجتمع الروسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ثم عُفي عنه فإرسل لقضاء عقوبة امتدت لأربع سنوات قضاها في الأشغال الشاقة في معسكر سجن كاتورغا الواقع في أومسك في مقاطعة سيبيريا.

من هو إذاً هذا المقامر والمغامر والكاتب والزوج المغرم بإمرأة أصغر منه بخمسة وعشرين عاماً؟ لعل هذا السؤال الذي يطرحه نوري يصبح أكثر مشروعية حين نعلم أن وراء هذا "المجنون الذي كان يدون على الورق الأسئلة التي نطرحها جميعاً من دون أن نجرؤ على الاعتراف بها لأحد"، لم يجد الكاتب سوى "إنسان عاديٌ، مريض ومشوش الذهن، مصاب بداء الصرع، يعيش تناقضات الوجود الإنساني برمته والذي لم يجد وسيلة للموت إلا في اللحظة التي حقق فيها نجاحه الأول"،"رجل منفرٌ"، كما وصف دوستويفسكي نفسه في أحد كتبه.

الكتاب الشامل

ليس كتاب باولو نوري إذاً سيرة ذاتية ولا مقالاً أدبياً ولا تحليلاً ذاتياً، بل هو كتاب يجمع بين كل هذه العناصر المختلفة في آن واحد. إنه إعلان حب وتحية لدوستويفسكي وللقراءة القادرة على تغيير مسار حياة الإنسان. إنه "تمرين في الإعجاب" بكاتب يصورّه نوري كرامٍ يصيب بسهامه القلب ف"يجعله ينزف"؛ كاتبٌ تلامس كلماته أعماق الروح، فتكشف، رغم الفجوة الزمنية بينهما، عن تشابه غريب بين حياة الكاتب الإيطالي المولود في مدينة بارما في شمال إيطاليا، والروائي الروسي المولود في مدينة بطرسبرغ وغيره من الكتّاب الروس العظام أمثال تورغينيف وبوشكين وغوغول وتولستوي، الذين تجسد كتاباتهم بقوة، أفراح الإنسان وأتراحه وسعادته وشقاءه الذي لا حدّ له.

 إن كتاب باولو نوري كتاب فريد في نوعه الأدبي، يوالف بين نصوصٍ مختلفة. يخلق من "نُتفٍ" استلّها من المراسلات والاقتباسات والاستشهادات التي اقتطعها من روايات دوستويفسكي نفسه، ومن القراءات التي خصّه  بها النقّاد الروس آنذاك من أمثال فيساريون بلنسكي، ومن فصول حياته الشخصية وحياة عائلته الإيطالية في تنقل مستمر بين القرنين التاسع عشر والحادي والعشرين. نص متلألئ، من ألوان مختلفة، كما لو أنه يخيط قطعاً متباينة من الأقمشة المتنوعة ليجمعها في عمل فني واحد.

 يتضمن الكتاب إذاّ مختارات من المراسلات والروايات والشهادات في الأديب الروسي الذي اعتبره النُقّاد أحد أعظم النفسانيين في الأدب العالمي وأحد مؤسسي التيار الوجودي، فضلاً عن فصول من حياة نوري نفسه وتساؤله المستمر عن جدوى الكتابة والقراءة في حياة الإنسان.

 في هذا الكتاب يعبّر باولو نوري عن حبه اللامحدود لدوستويفسكي ولكامل أدب "روسيا المقدسة" وتأثّره به. هو بمعنى ما مدخل لمقاربة مؤلفات الروائي العظيم الذي بدأ الكتابة في العشرينيّات من عُمره، منذ أن نشر سنة 1846 روايته الأولى "المساكين"، ثم اتبعها بأكثر أعماله شُهرة ك"الإخوة كارامازوف" و"الجريمة والعقاب" و"الأبله" و"الشياطين" وغيرها من الروايات الطويلة والقصص القصيرة، فضلاً عن كمّ كبير من الأعمال والمقالات المختلفة التي نشرها في الصحف والمجلات الأدبية.

بوليفونية أدبية

 تُرجِمت كتب دوستويفسكي إلى أكثر من 170 لغة، وتأثر بها عدد كبير من الكُتّاب والفلاسفة لاستكشافها سر الوجود ولتعبيرها عن أفكار فلسفية ودينية ونفسية، ولسردها العديد من القصص التي تحكي عن مواضيع الانتحار والفقر والخداع والأخلاق والأحلام وعلاقة الأب بأولاده، والإيمان بالله في بوليفونية أدبية تعددت فيها الأصوات، فشكلت تطوراً كبيراً في الكتابة الروائية.

 يذكرنا الانطباع الذي تركته كتابات دوستويفسكي في نفس باولو نوري بالانطباع الذي تركته في نفس فريدريك نيتشه الذي وصف الروائي الروسيّ بالنفسانيّ الوحيد الذي تعلم منه شيئاً جديداً، معتبراً قراءة كتبه كأعظم شيء حصل له في حياته. وتذكرنا أيضاً بالانطباع الذي تركته في نفس الألماني هيرمان هيسه حين قرأ أعماله واستمر في قراءتها من دون توقفٍ، كتاباً تلو كتاب، وبالانطباع الذي خلّفته في نفس الروائي النرويجي كنوت هامسون، الذي اعتبره من أفضل من حلّل الهيكلية النفسية المعقدة للإنسان. وتذكرنا كذلك بالإحساس الذي تولّد عند قراءته في نفس الكاتب والروائي الإيرلندي جيمس جويس، الذي اعتبر دوستويفسكي من أكثَر الكتّاب تأثّيراً في الكتابة النثرية الحديثة، مشدداً على أن قوته المتفجرة قد هشّمت الرواية الفيكتورية وغيّرت مسارها. وقد سبق لفرانتز كافكا أن وصف دوستويفسكي بأنه أحد أقربائه الفطريين، إذ كان تأثيره عليه كبيراً جداً، كما وصف سيغموند فرويد، رائد التحليل النفسيّ "الأخوة كارامازوف" بإنها أجمل رواية قرأها على الإطلاق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

باختصار يقول باولو نوري إن روايات فيودور دوستويفسكي هي أعمال عظيمة ليس فقط لأنها تتحدث بلغة الأدب الرفيع، بل لأنها تتحدث أيضاً عنه وعن مخاوفه وجروحه وعائلته ووحدته. لذا نراه في كتابه هذا يعيد بناء حياته ورواية قصة جرحه المفتوح الذي أحدثته قراءة عمل استثنائي، ما برحت التساؤلات الكبيرة التي أثارها والمتعلقة بأحوال الإنسان، تطارده. فعلى توالي صفحات "ما زالت تنزف، الحياة المذهلة لفيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي"، يدرك القارىء أن كتابات الروائي الروسي لا تشبه في بعض وجوهها، حياة باولو نوري نفسه وحسب، بل تشبه إلى حدٍّ كبير حياة كل واحدٍ منا، إذ أنها تُحدِث في قلب كل قارىء لمؤلفاته جرحاً لن يلتئم أبداً. ولعل هذا الجرح يتغذى من القرب الحيوي من هموم الروائي الروسي الكبير المفتون بالإنسان والمأخوذ بتعقيداته والواضع كل إمكاناته وطاقاته الأدبية في سبيل فهم طبائعه وإدراك الاختلافات بين الناس، والنفوذ إلى أعماقهم من خلال كتابة روايات تضع القارئ أمام هشاشة حياته وضعفها وعجزها الدائم عن بلوغ مصدر ارتواء دائم لرغباته، مما يشكل جرحاً نازفاً في خاصرة كائنٍ ميتافيزيقي تمتزج هشاشته بالعنف والانفعال، وطهارته بالوقاحة والجسور، وجموحه بالندم والخوف بالتعقيدات النفسية والفلسفية. من هذه التعقيدات البشرية يستمد كتاب باولو نوري مادته الأساسية، بحيث تتبدى علاقته بدوستويفسكي وبمؤلفاته كعلاقته بحياته التي غيّرت مسراها قراءة إحدى روايات الأديب الكبير التي ما زالت تشكل حتى اليوم عملاً فنياً ملهماً.

 كتاب باولو نوري كتابٌّ جميل يجعلنا نسافر في العصور. ولعلنا لا نعود بعد قراءته كما كنا، إذ يجعلنا نحمل في جسدنا ومسام جلدنا رائحة بعض النصوص الإبداعية، مشدّداً على أثر هذه النصوص في ولادة حياة جديدة.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة