Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كينز في ذكراه: من دمر تراث أعظم الاقتصاديين الإنجليز؟

عندما اتهمت النخبة البريطانية بلير العمالي وميجور المحافظ بتقاسم المسؤولية عن ذلك

جون ماينارد كينز (1883 – 1946) (غيتي)

ملخص

عندما اتهمت النخبة البريطانية بلير العمالي وميجور المحافظ بتقاسم المسؤولية عن ذلك

إذا كان جون ماينارد كينز، الذي كان يفترض أن يحتفل العالم بالذكرى 140 لولادته في العام الماضي، والمعتبر دائماً كبير الاقتصاديين الإنجليز في القرن الـ20، قد احتاج للعمل، نظرياً وعملياً طوال من يقرب من أربعة عقود تشغل النصف الأخير من حياته، كي يصيغ تلك النظريات ويمارسها عملياً بوصفها محاولة شديدة الجدية لبناء أسس اقتصادية جديدة ومعاصرة، فإن ذلك الباحث الكبير الذي يعتبر الوريث الأكثر شرعية للإنجليزيين آدم سميث وريكاردو، والقارئ الأكثر تعمقاً في دراسة الجانب الاقتصادي من نضالات كارل ماركس الفكرية، إنما من دون أن يتجاوز في التطبيق بعض رؤوس الأقلام الأكثر وضوحاً، احتاج تدمير فكره كما يرى البعض، إلى جهود سياسيين بريطانيين اثنين، ضافرا جهودهما ضد كل ما بناه في كتبه وممارساته، هما الزعيم العمالي طوني بلير، ورئيس الحكومة المحافظ جون ميجور، الأول كوريث لليبرالية التي طبعت حزب العمال تحت تأثير أنطوني غيدنز مبتكر "الطريق الثالثة" – التي بدت أول الأمر أشبه بـ"قذافية" مقنعة - والتي باتت بسرعة أثراً بعد عين، والثاني بوصفه تلميذاً فاشلاً لمرغريت ثاتشر ووريثاً بائساً لأفكارها التي عرفت في الأقل، كيف تنقذ الاقتصاد البريطاني، من خلال تصلبها الذي بدا قاتلاً ضد النقابات والإيرلنديين! مثل سمعة بريطانيا في العالم، وهذه الأخيرة من خلال خوضها حرب المالوين البائسة.

ابن النخبة اليسارية المدلل

بعد كل شيء وعلى رغم كل ما قد نقوله عن جون ماينارد كينز، فإنه كان قبل أي شيء آخر، الابن المدلل للنخبة اليسارية البريطانية خلال فترة ما بين الحربين، وأعظم باحث اقتصادي أنجبته بلاد الإنجليز في القرن الـ20 كتلميذ نجيب للثنائي ركاردو وآدم سميث كما أشرنا وكقارئ مميز لكارل ماركس حتى وإن راح يبتعد أكثر وأكثر عن أولئك الثلاثة حين وجد نفسه أمام واقع يتعين عليه أخذه في الحسبان حين بات في موقع المسؤولية.

فالحال أن كينز كان قد أسس الجانب الأهم من نظرياته الاقتصادية على أساس تدخل الدولة، لا سيما خلال أزمنة التأزم، وهو ما عبَّر عنه خاصة في كتابه الأشهر "النظرية العامة للاستخدام، للفائدة وللنقود" (1936) حيث رأى، على عكس ما كان يفعل الاقتصاديون الكلاسيكيون، أن الاستخدام الكامل للعمال، لا يمكنه أن يكون معطى تلقائياً، مما يجعل تدخل الدولة ضرورياً في أزمنة اشتداد البطالة حتى لو أدى ذلك إلى حدوث عجز في الأموال العامة. والحال أن نظرية كينز هذه كانت الأساس الذي اعتمد عليه روزفلت في الولايات المتحدة خاصة، حين صاغ سياسة "الصفقة الجديدة" كما اعتمدت عليها أوروبا كلها خلال فترة ما -بعد- الحرب. وهذا ما جعل كينز يعتبر أكثر وأكثر صاحب ثورة في علم الاقتصاد وجعل نخبة المجتمع البريطاني المتحلقة من حول "جماعة بلومبسبوري"، الليبرالية- اليسارية، تفخر بانتسابه إليها، حيث كان برتراند راسل يقول عنه إنه "الكائن الأكثر ذكاء والأكثر حيوية الذي قيض لي أن أتعرف إليه. أنا عندما أتجادل معه يخامرني شعور بأنني إنما أضع حياتي بين يدي". وكان كينز قد لفت إليه الأنظار بشكل استثنائي خلال مؤتمر الصلح في فرساي حين كان عضواً في الوفد البريطاني فانسحب إذ وجد أن ما تنص عليه الاتفاقات سيدمر أوروبا، لا سيما منه ما يتعلق بالبنود التي ستذل الشعب الألماني. ولم يكن ذلك آخر مؤتمر يعلن موقفاً ضده، إذ سنراه يفعل الشيء نفسه بعد ذلك في مؤتمر بريتون وودز حين وقف ضد الأميركيين مطالباً بنقود عالمية، بدلاً من الاعتماد على الدولار، ولكن في الحالتين كان كينز خاسراً، وفي الحالتين تبين للعالم لاحقاً أنه كان على حق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

آراء في فكر كينز

ومهما يكن من أمر، فإن راسل لم يكن المفكر البريطاني الوحيد الذي لم يفته أن يعبر عن رأيه في كينز. فهذا كان يكاد يكون جامعاً بين اليمينيين واليساريين ولكن كلاً منهما على طريقته. فرئيس الحكومة البريطاني، في ولايتين أساسيتين، ونستون تشرشل الذي كان يعتبر أن الفكر، لا السياسة ولا الاقتصاد، يجمع بينه وبين كينز، كان يحلو له أن يقول إنه حين استمزج آراء ثلاثة من كبار المفكرين الاقتصاديين الإنجليز المعاصرين له، حصل على أربعة آراء "تتناقض كلياً في ما بينها، اثنان منها لكينز". أما كينز نفسه فقد كتب في عام 1935 رسالة إلى صديقه جورج برنارد شو، الذي كان يعتبره المفكر الأقرب إليه يبلغه فيها أن "الكتاب الذي أنجز في هذه الأيام صياغته، سيحدث ثورة ما بعدها ثورة في الطريقة التي ينظر بها العالم في زمننا إلى المسائل الاقتصادية". والواقع أن كينز كان يتحدث في رسالته عن كتابه الذي ذكرناه أعلاه والذي بات منذ ذلك الحين الكتاب المعتمد في عالم الحلول الاقتصادية ونجح لديه فيما رأى العمال والمحافظون معاً عند نهايات القرن الـ20 عدم جدواه لخوف كل منهما على طريقته من أن تؤدي تدخلية الدولة إلى سيطرة هذه الدولة كلية على مقدرات البلاد كنوع من "شيوعية مقنعة".

حياة ناجحة

ولد كينز عام 1883 في كامبريدج ودرس حتى 1920 في إيتون، ثم في كلية الملك في كامبريدج (حتى 1906) حيث بدأ ينضم إلى حلقات الحزب الليبرالي. وفي 1908 التحق بالمكتب الهندي، وفي 1909 بدأ العمل في الصحافة، ثم أسس نادي الاقتصاد السياسي في كامبريدج، في وقت انضم فيه إلى "جماعة بلومبسبوري" مع فرجينيا وولف والأخوة ستراتشي وروجر فراي وغيرهم. وفي 1912 نشر كينز واحداً من أول كتبه الاقتصادية "النقد الهندي والمالية"، وبين 1914 و1919 أضحى واحداً من كبار موظفي وزارة المالية، وهو بهذه الصفة أسهم في الإعداد لاتفاق فرساي، لكنه وقف يعارض النتائج التي أسفر عنها مؤتمر الصلح، ونشر في 1919 كتابه الشهير "النتائج الاقتصادية للصلح". ومنذ ذلك الحين لم يكف عن نشر الكتب والدراسات التي كانت تطالب جميعها بتدخل الدولة وبتعزيز القطاع العام من أجل خلق فرص عمل كاملة ودائمة للعمال. والطريف أن هذا الاقتصادي الفذ الذي أنفق عمره يدافع عن حق العمال في العمل، كان يكره العمال أو هذا في الأقل ما تقوله لنا دراسة نشرت، أخيراً، في بريطانيا تحت إشراف جون توي، الأستاذ في كامبريدج، الذي جمع عديداً من النصوص التي كان كينز قد كتبها في 1913 وجاء فيها أن العمال ليسوا أكثر من "سكارى وجهلة يجب أن يخضع ازدياد عددهم لرقابة الدولة". ولعل اللافت هنا هو أن هذا الموقف من الطبقة العاملة شاركه فيه جورج أورويل حين وضع دراسته الكبرى عن حياة الطبقة العاملة البريطانية فجاءت حتى من خلال دفاعها الحماسي عن تلك الطبقة، مليئة بتعابير الاشمئزاز عن تلك الطبقة! ويقول توي، في تحليله لكتابات كينز في ذلك الحين، إن "هذا الابن البار لليسار الإنجليزي، كان سطحياً" كما تبرهن دراسة كتبها تحت عنوان "سكان" حين كان في الـ30 من عمره وأستاذاً في كامبريدج. في تلك الدراسة، ودائماً بحسب جون توي يدافع كينز عن طروحات مالتوس السيئة الذكر، كما يجعل من نفسه مدافعاً عن مبدأ تحديد النسل لدى الطبقات العاملة والدنيا. وفي تلك الدراسة نفسها يبدي، هو الذي كان في ذلك الحين عضواً في "مكتب الهند"، خشيته من "الخطر الأصفر" ومن غزو سكان المستعمرات لبريطانيا العظمى.

أجيال بأسرها تعلمت منه

مهما يكن من شأن كتابات كينز المكتشفة حديثاً، فإن ذلك لا يقلل من قيمته كباحث اقتصادي أثر في أجيال بأسرها من الباحثين، وربما في مجموع الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، وبخاصة عبر كتب مثل "دراسة حول الإصلاح المالي" (1923) و"النتائج الاقتصادية لنظرية السيد تشرشل". وفي هذا النص يقف كينز بوضوح ضد سياسات تشرشل الاقتصادية. وهو إضافة إلى هذا النشاط الاقتصادي خاض معترك الحياة الفنية من خلال مساندته للجمعيات والمجلات وشرائه اللوحات ومساندته لإقامة مسرح الفن في كامبريدج، ولقد زاد اهتمامه بالفنون الاستعراضية منذ زواجه من راقصة الباليه الروسية ليديا لوبوكوفا، في 1925. ولقد عين كينز في 1941 كواحد من مديري بنك إنجلترا. وفي 1945، وقبل وفاته في 22 أبريل (نيسان) 1946 بعام، فاوض الأميركيين في شأن القروض والمساعدات التي كانوا يريدون تقديمها للبريطانيين، فقالوا عنه إنه ليس دبلوماسياً في تفاوضه، وكان واحداً من أوائل مديري صندوق النقد الدولي قبل رحيله مباشرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة