Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان... ما وراء تعثر مفاوضات جدة

تبين تماماً أن عقدة الحرب بين الجيش و"الدعم السريع" تكمن في إرادة مستميتة لدى النظام القديم للعودة إلى السلطة

يعكس هذا الانهيار خيبة أمل كبيرة للسودانيين الذين راهنوا كثيراً على المنبر الذي ترعاه كل من الرياض وواشنطن (أ ف ب)

ملخص

لماذا يرفض الجيش السوداني الالتزام بما وقع عليه من بنود إجراءات بناء الثقة في منبر جدة؟

تبدو الأزمة السودانية في ضوء انهيار الجولة الثانية من مفاوضات منبر جدة أعقد بكثير من التكهنات التي طالما ظلت تتردد قرب الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار عبر هذا المنبر.

وبينما يعكس هذا الانهيار خيبة أمل كبيرة للسودانيين الذين راهنوا كثيراً على المنبر الذي ترعاه كل من السعودية والولايات المتحدة، علينا أن نتذكر جملة من المعطيات التي حال اصطحابها ستتكشف لكل مراقب طبيعة التعقيدات التي تكتنف أطوار الحرب السودانية الجارية منذ الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023.

والحال أنه في كل منعطف من منعطفات هذه الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع سيتبين أن نقطة البداية التي انطلقت بسببها الحرب هي ذاتها العقدة التي ستفسر تعثر الوصول إلى الحل في المفاوضات التي تم تعليقها مطلع هذا الشهر.

انهيار المنبر

ووفق تصريحات كشفت عنها مصادر مطلعة نقلتها صحيفة "الشرق الأوسط" عن وكالة أنباء العالم العربي فإن "الجيش تراجع عن ما وقع عليه من بنود إجراءات بناء الثقة التي تضمنت بعض المطالب"، ومن ضمن هذه المطالب مطلب في تقديرنا كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر المفاوضات.

ففي السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وقع الطرفان على التزامات توصيل المساعدات الإنسانية وإجراءات بناء الثقة التي شملت أربعة بنود أساسية، أهمها إلقاء القبض على الإسلاميين الفارين من السجون، وعلى رغم التزام وفد الجيش أمام المسهلين بتنفيذ إجراءات بناء الثقة فإنه تراجع عن تلك الإجراءات التي كان على رأسها القبض على قائمة تتضمن كبار قادة "المؤتمر الوطني" الذين فروا من السجن بعد اندلاع الحرب، إذ سلم وفد "الدعم السريع" في منبر جدة قائمة بأسماء المطلوب القبض عليهم في اليوم الثاني من التوقيع، لكن وفد الجيش طلب مهلة مدتها خمسة أيام ولم ينفذ في النهاية ما تعهد به.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ونقلت صحيفة "الشرق الأوسط" عبر وكالة أنباء العالم العربي عن مصدر مطلع على محادثات جدة أن "وفد الجيش طلب تمديد المهلة إلى 10 أيام أخرى، لكنه أيضاً لم يلتزم وتعلل بأسباب واهية، ثم خرج رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان وأيضاً نائبه ياسر العطا بتصريحات قضت على التزامات بناء الثقة".

إلى جانب ذلك "رفض وفد الجيش دخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة في دارفور والخرطوم وكردفان والنيل الأبيض، كما رفض فتح مطارات نيالا والجنينة والفاشر للأغراض الإنسانية، وتمسك بإيصال المساعدات عبر مطار بورتسودان فقط".

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو لماذا يرفض الجيش الالتزام بما وقع عليه من بنود إجراءات بناء الثقة في منبر جدة؟

والجواب على ذلك سيردنا إلى التفتيش مرة أخرى في أسباب قيام الحرب يوم الـ 15 من أبريل 2023، فمن دون فحص الأسباب والسياقات السياسية التي أدت إلى اختلاف موقف الجيش عن موقف "الدعم السريع" في الالتزام ببنود الاتفاق الإطاري، وهو اتفاق رعته الرباعية الدولية، أميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات، وأسهمت في تسهيله البعثة السياسية الأممية للسودان "يونيتامس" والاتحاد الأفريقي ومنظمة "إيغاد" ووقع عليه الجيش و"الدعم السريع" إلى جانب قوى سياسية وزانة.

ومن دون قراءة مجمل ممارسات عرقلة الانتقال السياسي من طرف ما كان يسمى المكون العسكري الذي كان يشمل الجيش و"الدعم السريع" خلال سنتي المرحلة الانتقالية المجهضة بانقلاب 2021 لا يمكننا اليوم فهم هذا التعثر الذي تعبر عنه مواقف الجيش في منبر جدة.

إرث التخريب

لقد كان هناك حديث صريح في منبر جدة عن ضرورة القبض على عناصر النظام القديم وقادة "المؤتمر الوطني" الفارين من السجن بعد الحرب، ووافق الجيش على بند القبض على هؤلاء الفارين، وطلب أكثر من مهلة لكنه في الأخير لم يلتزم بما وعد به مما تسبب، ضمن أسباب أخرى، في انهيار مفاوضات جدة مطلع ديسمبر (كانون الأول) الجاري.

وإذا ثبت اليوم بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك كتائب للإسلاميين تابعة لعناصر النظام القديم تقاتل إلى جانب الجيش في هذه الحرب منذ بدايتها، مثل "كتائب البراء"، كما جاء في تقرير طويل لوكالة "رويترز"، مما دعا الولايات المتحدة بعد ذلك إلى إصدار عقوبات اقتصادية بحق رئيس تنظيم "الإخوان المسلمين" في السودان علي كرتي لتسببه في عرقلة الانتقال الديمقراطي، فإن ذلك كله سيردنا بوضوح إلى الطبيعة المعقدة التي تتحكم في هذه الحرب، وهي إرث التخريب الذي مارسه نظام "الإخوان" طوال 30 عاماً بما في ذلك تأسيس قوات الدعم السريع كجيش مواز للجيش السوداني، وهذا بدوره سيضعنا أمام حال عيانية بامتياز للعجز الذي أصبح يكتنف الاجتماع السياسي للسودانيين عبر تاريخ طويل من فشل الدولة السودانية ما بعد الاستعمار.

لا يبدو مستقبل هذه الحرب أمام نهايات قريبة، ما دام ثمة ارتباط ظاهر بين الجيش وعناصر النظام القديم وكتائبه التي تقاتل معه، مما يفتح الباب مشرعاً لتطورات الحرب وتداعيتها الخطرة على مستقبل السودانيين للأسف.

إن انسداد واقع الحرب التي يحكمه اليوم صراع مميت بين الجيش والإسلاميين من جهة، وبين قوات الدعم السريع من جهة ثانية، يبدو أنه انسداد مرشح لمزيد من التعقيد وبالتالي اشتداد ضراوة المعارك بين الطرفين خلال الأيام المقبلة.

وبالطبع هناك أطراف إقليمية ودولية منخرطة في هذه الحرب إلى جانب طرفيها، ونظراً إلى معطيات كثيرة كشفت عن تفريط قادة النظام القديم طوال 30 عاماً بسيادة الدولة مما نجم عنه احتلال أجزاء من الحدود السودانية، ونظراً إلى ما يتوفر عليه السودان من ثروات ومواقع استراتيجية فإن شهية الأطراف الإقليمية والدولية في تحقيق مكاسب من الانخراط في هذه الحرب عبر دعم أحد طرفيها تظل احتمالاً مرجحاً، ولا سيما إذا عرفنا طبيعة التنازلات المخزية التي مارسها قادة النظام السابق عبر ارتهانهم إلى جهات إقليمية ودولية.

وفي ظل انخراط تلك الأطراف الإقليمية والدولية في الحرب بين الجيش و"الدعم السريع"، وامتداد مأزق الحرب بينهما نتيجة لتعليق مفاوضات منبر جدة، يظل للمجتمع الدولي وبخاصة الولايات المتحدة الدور الحاسم في مهمة إنهاء الحرب عبر الضغوط والمصالح التي تمليها طبيعة المحاذير الجيوسياسية من توسع رقعة الحرب وانهيار الدولة في السودان مما يشكل خطراً كبيراً على استقرار منطقة وسط وشرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وبالتالي تهديد مصالح أطراف دولية كبرى.

ولعل هذا ما يفسر لنا إجراءات الولايات المتحدة قبل يومين بإعلان وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على ثلاث شخصيات قوية بارزة من أركان حكم الرئيس السوداني السابق عمر البشير، نظراً إلى أدوارهم قبيل وبعد ثورة عام 2019، وبخاصة أن اتهامات واشنطن بحقهم لم تقتصر على فترة حكم النظام السابق، بل امتدت إلى ممارساتهم بعد إطاحته، وهم الرئيس السابق لجهاز الأمن ورجل الاستخبارات صلاح عبدالله الشهير بـ "قوش"، وآخر رئيس لجهاز الأمن قبيل سقوط البشير محمد عطا المولى، ومدير مكاتب البشير طه عثمان الحسين، وذلك على خلفية تمويل كل من قوش والمولى محاولات السعي إلى إعادة عناصر النظام السابق للسلطة وتقويض جهود إنشاء الحكومة المدنية، بينما وجهت لطه عثمان اتهامات بـ "تسهيل الدعم العسكري والمادي لقوات الدعم السريع".

حوار السلاح

ولقد تبين تماماً أن عقدة الحرب بين الجيش و"الدعم السريع" تكمن بالأساس في أسبابها التي كشفت بوضوح اليوم عن إرادة مستميتة لعناصر النظام القديم في العودة للسلطة بعد أن بدا واضحاً أن موقف "الدعم" من الاتفاق الإطاري كان بمثابة الدافع لعناصر النظام القديم لإطلاق شرارة الحرب.

فإذا كان انقلاب البرهان وحميدتي على الحكومة الانتقالية عام 2021 محاولة لإزاحة المدنيين من السلطة، فإن بروز نظام برأسين، الجيش و"الدعم السريع"، بعد الانقلاب كان بمثابة شهر عسل ينذر بانفجار تناقضات وشيكة بين الرأسين.

وحالما أدرك حمديتي أن انقلاب البرهان في الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 كان يستهدف إعادة الإسلاميين للحكم مرة أخرى، ثم بعد فشل الانقلاب في تكوين حكومة وعجزه عن إدارة الدولة لأكثر من عام نتيجة تظاهرات الشعب السوداني ضد سلطة الانقلاب ومحاصرة المجتمع الدولي له، كان الاتفاق الإطاري الذي حاول الجيش الالتفاف عليه بعد التوقيع هو الفصل الثاني من الصراع على السلطة، بعد إزاحة المدنيين في انقلاب عام 2021، ولكون هذا الفصل صراعاً بين قوتين عسكريتين (الجيش والدعم السريع) نتيجة تباين موقفهما من الاتفاق الإطاري، فإن الحوار بينهما سيتم التعبير عنه بالسلاح مما أدى لاندلاع الحرب.

المزيد من تحلیل