Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نساء إيمان حميدان يروين تاريخ وطن بمآسيهن

ظلم المجتمع الذكوري خلال قرن في "أغنيات للعتمة"

لوحة للرسام محمد شبيني (صفحة الرسام - فيسبوك)

تختار الروائيّة اللبنانيّة إيمان حميدان أن تبدأ روايتها الأحدث "أغنيات للعتمة" (دار الساقي) من نهايتها. فالرسالة التي تكتبها الراوية أسمهان في نيويورك في 18 ديسمبر (كانون الأوّل) 1982 وتختار أن ترفقها بأوّل الرواية، إنّما هي الرسالة التي ينتهي بها السرد وتتوقّف عند تاريخها الأحداث.

بعد "باء مثل بيت... مثل بيروت" (1997)، و"توت برّي" (2001)، و"حيوات أخرى" (2010)، و"خمسون غراماً من الجنة" (2016)، تختار حميدان أن تقدّم قصص نساء عائلة واحدة في سرد لقصّة وطن. ويقوم سردها على مفارقات تبدأ منذ العنوان، فكيف يمكن أن يغنّي المرء للعتمة، للظلم، للخسائر والانهزامات؟ إنّ عنوان "أغنيات للعتمة" هو بنفسه مرآة للتضاد الموجود في المجتمع وفي مدينة بيروت بالذات، المدينة التي تغنّي وهي في أوج انكسارها، المدينة التي ترقص وتتعرّض للقصف في الوقت نفسه. كأنّ الغناء هو المقاومة، والمرأة التي تغنّي هي بيروت وكلّ امرأة في بيروت، والعتمة هي أحوال القهر والعنف والتنكيل التي تتعرّض لها هذه المدينة وهذا الوطن.

تبدأ لعبة المفارقات في هذا النصّ السرديّ منذ العنوان وتكتمل خلال السرد برمزيّة روائيّة قويّة، فبطلات إيمان حميدان يغنّين في العتمة، يغنّين رغم العتمة، يغنّين للهرب من العتمة، ولكلّ أغنيتها ومقاومتها وهربها، فتقول الراوية عن "شهيرة" والدة جدّتها التي تبدأ الأحداث معها: "كانت تغنّي كلّما ثقل قلبها وشعرت بالحزن. تريد البكاء، إلاّ أنّ الدمعة لم تعرف يوماً طريقاً إلى عينيها. تبكي روحها ولا يمسح دموع الروح سوى الغناء. يساعدها الغناء على حياة لم تتوقّعها." (ص: 30).

إنّ طرق مقاومة الظلم تختلف باختلاف طبيعة هذا الظلم وباختلاف طباع المظلوم وباختلاف سلاح الظالم. فتتحوّل الأغنيات إلى كناية عن أساليب المقاومة، ويبقى السؤال الأوّل والأقسى هو هل من سبيل للنجاة؟ هل ينتصر الغناء على العتمة؟ تكتب حميدان على لسان راويتها: "هل ممكن بناء وطن ومستقبل وسط هذا القدر من الذكورة المدمّرة، من العنف الجسديّ، والدينيّ، والقانونيّ، والنفسيّ؟ أم علينا الرحيل؟ الرحيل، نعم! ترحل النساء دائماً هناك، يرحلن أو يصمتن، أو يصبن بالجنون، أو ببساطة يمتن قبل الأوان كأزهار الكرز". (ص: 14).

4 أجيال من النساء

تختار إيمان حميدان أن تقدّم في روايتها "أغنيات للعتمة" سرداً للظلم والقمع والقسوة التي تتعرّض له أربعة أجيال من النساء. أربعة أجيال من نساء عائلة واحدة يبدأن بشهيرة القويّة المناضلة التي تغنّي لتقاوم حزنها، ثمّ ليلى التي تموت على سرير أمومتها هي التي لم تكد تبدأ معركتها، فابنتها ليلى التي تُتهم بالجنون والعته وتُعزل، وآخرهنّ أسمهان الراوية التي تكتب القصص كلّها لابنتها لمى، لتحميها من الواقع وتحضّرها لما ينتظرها من آلام في المستقبل.

ويبدو أنّ أوجاع النساء في هذه البقعة من العالم لن تفتأ تتكرّر وتتضاعف، فمنذ أيّام شهيرة المولودة سنة 1893 والتي تُجبر على الزواج من أرمل شقيقتها، لتربّي أبناء شقيقتها المتوفّاة، تكرّ سبحة الظلم والانكسار والخسائر. نماذج نسائيّة أربعة تقوم على تخبّط لامتناهٍ بين الانهزام والمقاومة، فتتجسّد شهيرة وكأنها شهرزاد العصر الحديث، هي التي يجب أن تهادن وتداهن بكلماتها وحنكتها الأنثويّة لتنال ما تصبو إليه. ثمّ تليها ابنتها ياسمين التي تُقمع وتُظلم وتُهمل وتموت وهي لمّا تتعلّم قوانين المعارك، فتقضي على سرير الأمومة بسبب الإهمال واللامبالاة. وتكون قصّة ليلى هي أقسى وأصعب بعد من سابقتيها. فليلى المرهفة اليتيمة التي ولدت لأمّ توفّيت بعد يوم واحد من ولادتها، تتعرّض للتنكيل والقهر والاتهام بالجنون من زوجها القادم من أميركا، والذي كان من المفترض به أن يكون رقيقاً لطيفاً شغوفاً. يجسّد هذا الزوج الآتي من بلاد العالم الجديد فساد السلطة وفساد المال وفساد المجتمع الذكوريّ القاسي. أمّا ابنة ليلى، الراوية أسمهان، فهي الأخرى لا تفلت من قبضة الاستبداد الذكوريّ على الرغم من محاولاتها الهائلة لتحصّن نفسها، فتكتب: "لم تحمني العائلة ولا القانون ولا علمي ولا معرفتي بأمور الدنيا، لم يحمني كلّ ذلك من ذكورة يدعمها الشرع وتحرسها القوانين، تلك التي لم تحمِ أمومتي وتصنها. بتّ أشعر بالغربة والحنين معاً وأنا في بيروت. أخاف مغادرة بيروت وأنا لا أعرف كيف أعيش في مدينة أخرى، لكنّي أعلم في الوقت عينه أنّ لا حماية لي هناك." (ص: 10).

تتحوّل الأنوثة إلى تهمة، إلى خطيئة، إلى عبء لا يمكن لامرأة أن تقاومه أو تفوز عليه أو تتخطّاه. تعيش نساء هذه العائلة الخوف والخسارة والهزيمة، يعشن الوحدة والقمع والغربة، فتكتب الراوية أسمهان: "اختلفت نساء عائلتي في أمور كثيرة والتقين في أمر واحد وهو العطش إلى الحبّ." (ص: 12). لكنّ مقاومة هذا العطش إلى الحبّ لم تكن متشابهة، فشهيرة حاربت بالكلام والدبلوماسيّة المتوجّسة، وياسمين هربت إلى الموت بضعف وهزيمة ووحدة، وليلى هربت إلى قراءة الروايات والأدب، أمّا أسمهان الراوية فهربت إلى الكتابة، فتقول: "أفتّش كلّ صباح عمّا يدفعني إلى الخروج من الفراش لأقول صباح الخير أيّها العالم اللعين، أيّتها الدنيا البائسة. وجدتُ في الكتابة تعويضاً وقمت بما لم تستطع أمّي القيام به." (ص: 10).

التاريخ عندما تسرده نساؤه

تقدّم إيمان حميدان في هذه الرواية نماذج عن نساء عائلة واحدة تعرّضن للظلم في خلال قرن بكامله. فتمتدّ أحداث السرد من 1893 تاريخ ولادة شهيرة إلى 1982 تاريخ هجرة أسمهان، وبينهما ياسمين وليلى. وصحيح أنّ طريقة المقاومة تختلف بين المرأة والأخرى ومن جيل إلى آخر، إلاّ أنّ الصراع واحد والهزيمة واحدة ولا مفرّ منها، وهو تماماً ما يدفع الراوية إلى الكتابة، لتحمي ابنتها لمى من تكرار أخطاء نساء العائلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكنّ حميدان لا تكتفي بسرد قصص نساء العائلة، بل هي تسرد التاريخ والوطن والمجتمع عبر قصص نسائها. الرواية الكبرى هي رواية الوطن الأكبر، المجتمع الأكبر، وليس رواية المرأة وحدها. تبني المرأة عبر سردها تفاصيل تاريخ العائلة وتاريخ الوطن وتاريخ العلاقات الاجتماعيّة وتاريخ السلطة. فيجد القارئ نفسه في هذه الرواية أمام قصص حروب ونزاعات متسلسلة متعاقبة، فالحرب العالميّة الأولى موجودة، والثانية كذلك، وحرب استقلال لبنان، ونكبة فلسطين، والثورات الحديثة والحرب اللبنانيّة التي اشتعلت سنة 1975. حروب وهزائم وصراعات تسردها امرأة واحدة عبر سرد قصص نساء عائلتها. ومن الجدير ذكره أنّ الحروب العسكريّة هي في الخلفيّة الزمانيّة للسرد، هي موجودة فقط بالنتائج الاجتماعيّة التي تخلّفها على أهل المجتمع.

تسرد حميدان الذاكرة الجماعيّة عبر الذاكرة النسائيّة، فيجد القارئ نفسه أمام تاريخ مجتمع ووطن وقرى لبنانيّة وعائلات، أمام ظروف الحروب والمجاعات والمآزق وحركات الهجرة، ومن أفضل من المرأة لوصف ما حصل فعلاً بتفاصيله وآثاره والرعب الذي خلّفه؟

"أغنيات للعتمة" هي رواية مقاومة الظلم، هي تجسيد لرغبة المرأة في التحرّر والنجاة وإيجاد الحبّ، هي سرد لمجتمع عبر سرد قصص نسائه وطرق تخبّطهنّ. لكلّ امرأة طريقتها في محاولة النجاة. هناك المرأة شهرزاد الصلبة التي تحتال على المجتمع وعلى الرجل لتنال ما تصبو إليه. هناك المرأة الأم الضعيفة الصامتة التي تهرب إلى الموت. هناك المرأة التي تعضّ على جرحها وتختار ألاّ تواجه العنف فتهرب إلى الأدب. وهناك المرأة التي تتسلّح بالعلم والشهادات والقانون والعلم والكتابة. لكنّهن جميعهنّ يخسرن. ينهزمن. يهربن. في نهاية المطاف، وفي كلّ مرّة، تعجز الأغنيات عن مواجهة العتمة.

يتوقّف السرد في هذه الرواية مع هرب الراوية مع ابنتها إلى نيويورك سنة 1982، لكنّ إيمان حميدان بصدد كتابة الجزء الثاني من هذه الرواية، جزء سيكمل سرد أحداث ما بعد العام 1982 ومجريات ما يحدث مع نساء العائلة حتّى يومنا هذا. سيتتطرّق الجزء الثاني إلى عتمة المجتمع الجديد وحلقات صراع المرأة الجديدة معه، فهل يتغيّر ما كان؟ وهل ستكفي الأغنيات في عصرنا هذا لتنجلي العتمة؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة