ملخص
كلما استمرت الحرب في أوكرانيا تطورت من نزاع ثنائي إلى صراع معقد يتضمن تدخلات إقليمية ودولية، إذ تحولت إلى جبهة جديدة في كورسك وأثارت خلافات بين الحلفاء الغربيين حول استراتيجيات الدعم وتوجيه الضغوط السياسية والاقتصادية.
كلما طالت الحرب في أوكرانيا كلما اتخذت جوانب مختلفة. فهي تحولت من مجرد نزاع ثنائي واضح بدأت به روسيا، من خلال اجتياح شامل قامت به في فبراير (شباط) 2022، إلى حرب بين روسيا و"أوكرانيا زائد" والمقصود "بالزائد" هنا المساعدات اللوجيستية والمادية التي توفرها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاء أوكرانيا الغربيون الآخرون.
بعد ذلك استقرت تلك الحرب من خلال تحولها إلى نزاع محلي على شرق أوكرانيا أي منطقة دونباس، قبل أن تتحول فجأة منذ شهر تقريباً إلى جبهة جديدة، عندما اجتاحت أوكرانيا كورسك، المنطقة الحدودية الروسية المحاذية للأراضي الأوكرانية. وحالياً يبدو أن تلك الجبهة الجديدة أدت إلى توليد انقسامات جديدة على الجانب الغربي، ولكن ليس واضحاً بعد وبصورة كاملة، أين يقع خط الانقسامات تلك.
من خلال جملة التطورات الأخيرة، أنا سأخص بالذكر تطورين مهمين. الأول وهو بديهي أكثر، هو فتح جبهة كورسك. أما الثاني، فهو الخلاف الظاهر أنه قد وقع بين المملكة المتحدة وأوكرانيا، والذي يعكس تغيراً في الانقسامات الغربية التي لا تنفك تحتدم.
أسئلة كثيرة تدور عملياً حول كل جانب من جوانب الهجوم الأوكراني على منطقة كورسك، بدءاً من "لماذا" شن ذلك الهجوم، مروراً بكيفية تطوره، ووصولاً إلى كيف يمكن أن ينتهي. وقال الرئيس فلودومير زيلينسكي إن الهجوم كان يهدف جزئياً إلى تشتيت قوة الجيش الروسي بعيداً من منطقة دونباس، إذ حقق مكاسب على الأرض إلى درجة قد تمكنه السيطرة على كافة الأراضي التي كانت موسكو قد أعلنت أنها قامت بضمها إلى أراضيها (وبصورة غير شرعية)، في شهر سبتمبر (أيلول) عام 2022.
أما الهدف الآخر ربما كان مقصوداً منه السيطرة على أراض وأسر جنود روس لاستخدامهم كورقة مساومة في أية مفاوضات من المتوقع أن تتم.
البعض أيضاً يطرح فكرة أن زيلينسكي وقائد الجيش الأوكراني أولكسندر سيرسكيي، كانا يريان التقدم في منطقة كورسك كعملية تحويل للأنظار، لو قامت القوات الأوكرانية بإجبار القوات الروسية على الانسحاب من دونباس.
أما الرأي الأكثر حيرة فهو أن الهجوم على كورسك كان محاولة لإغلاق الممر الروسي المباشر الذي يقود إلى العاصمة الأوكرانية، إذا ما قررت القوات الروسية وبعد سيطرتها الكاملة على دونباس بالالتفات نحو تركيز الجهود لاحتلال كييف، لكن ثمة عاملاً يزيد الأمر تعقيداً، وهو أمر ينظر إليه البعض على أنه، بالحد الأدنى، كان من ضمن النيات الأوكرانية الأساس، إن لم يشمل كافة الأهداف ــ وهو السيطرة على محطة كورسك لتوليد الطاقة النووية.
فخلال الاجتياح الأولي عام 2022، قامت روسيا بالإسراع في الاتجاه المنشآت النووية الأوكرانية للسيطرة عليها، باسم الحفاظ على سلامتها، وهي تسيطر عليها منذ ذلك الوقت. إحدى تلك الأفكار مفادها أن أوكرانيا كانت تريد السيطرة على محطة كورسك النووية، من أجل "مبادلتها" بمحطة زابوريجيا النووية لتوليد الطاقة الكهربائية في شرق أوكرانيا، على أمل استخدامها من أجل تعزيز القدرات المستنفذة لإنتاج الطاقة مع اقتراب حلول فصل الشتاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، إن التقارير التي تنقل أخبار ما يجري في منطقة كورسك لا تزال متضاربة. أوكرانيا تدعي أنها تحقق التقدم، فيما تقول روسيا إنها أوقفت التقدم الأوكراني، وسط الخسائر الفادحة التي تكبدتها أوكرانيا في العديد والعتاد (ومن ضمنها الدبابات البريطانية التي أصبحت مشهورة من طراز تشالنجر). ليس واضحاً بعد ما إذا كانت الضربات الروسية الأخيرة على منشآت الطاقة في أوكرانيا هي الرد الروسي على العملية الأوكرانية في منطقة كورسك، أو أن روسيا ربما تعمل على الاستعداد لرد العدوان الأوكراني، أو العمل على نصب فخ للقوات الغازية الأوكرانية، والتي تضم بعض أكثر القوات خبرة وتدريبا، والأفضل تسلحاً.
لكن، إن كان من صدمة بقوة أن تسمع أنباء عن أوكرانيا التي تجتاح هذه الزاوية من الأراضي الروسية، فهي سماع الانتقادات الأخيرة التي وجهها الرئيس زيلينسكي إلى المملكة المتحدة قائلاً "لقد شهدنا طوال فترة الحرب أن المملكة المتحدة أظهرت قيادة حقيقية... لكن وللأسف، تباطأ الوضع". ربما هذا الانتقاد، وهو ليس قويا جداً، لكنه يبقى الإشارة الأولى على الاختلاف بين كييف ولندن، منذ كان [رئيس الوزراء البريطاني السابق] بوريس جونسون قد اعرب عن استعداد بلاده المطلق للوقوف حتى النهاية مع أوكرانيا، خلال الأيام الأولى من الحرب.
يبدو أن الخلاف متعلق بمسألة المنع المفروض على أوكرانيا بخصوص استخدام صواريخ "ستورم شادو" لضرب أهداف بعيدة في الداخل الروسي. يمكن أن تعكس كلمات زيلينسكي أيضاً ما يراه على أنه تغيير في الموقف البريطاني، إذ إن وعوداً كان قد قطعها لأوكرانيا من قبل وزير الخارجية البريطاني السابق ديفيد كاميرون، وأكدها أيضاً رئيس الوزراء البريطاني [الجديد] كير ستارمر خلال الزيارة التي قام بها الشهر الماضي الرئيس زيلينسكي إلى لندن، لكن يبدو أن الولايات المتحدة تعارض تلك الوعود.
لدى السؤال بصورة محددة عن ضوابط استخدام صواريخ ستورم شادو، بعد الخطاب الذي كان قد ألقاه في حديقة الزهور في البيت الأبيض، قال رئيس الحكومة ستارمر، بأنه لن يدخل في تفاصيل ما اعتبره "سؤالاً تكتيكياً". ورفض أيضاً التعليق على ما إذا كانت الولايات المتحدة قد أخلت بوعود سابقة كانت المملكة المتحدة قد قطعتها.
إن مسألة أية أسلحة يمكن لأوكرانيا استخدامها، وكيف، هي مسألة قديمة، لكن عملية كورسك، التي سمحت بنشر قوات أوكرانية داخل الأراضي الروسية، أدت إلى زيادة الانقسامات حدة، وتحديداً ما يتعلق بالضربات ضد الأراضي الروسية، والتي كانت مسألة خلافية بالنسبة إلى بعض الدول الأوروبية، ومن بينها أيضاً المملكة المتحدة، في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية التي كانت متخوفة من نشوب مواجهة مباشرة مع روسيا، فيما واشنطن بصدد الدخول في موسم حملات انتخابية لسباق رئاسي متقارب بشدة.
وفي الكواليس، ثمة معركة تدور رحاها حالياً بين من يجادلون بأنه يتم حرمان أوكرانيا من الأدوات الكفيلة "بإتمام المهمة"، وبين آخرين يرون بأن عملية كورسك هي خطوة مبالغ فيها. الفريق الأول مكون من الدول التي تجادل بأن روسيا قد فشلت في الدفاع عن أي من "خطوطها الحمراء" التي كانت قد أعلنتها، وأنها لن تقوم بذلك حالياً أيضاً، إذاً، فإن المخاوف من اندلاع حرب أوسع، أو أن تقوم روسيا باللجوء إلى استخدام السلاح النووي، هي احتمالات يمكن أيضاً تجاهلها وبصورة آمنة. أما الفريق الثاني، والمكون ممن يعدون أن عملية اجتياح الأراضي الروسية، هي محاولة للهجوم على منشأة توليد للطاقة تعمل بالوقود النووي، وأن استخدام الصواريخ البعيدة المدى التي يمكنها أن توسع دائرة مثل هذا الهجوم إلى مناطق بعيدة في روسيا هي تصرفات من شأنها وبسهولة إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة.
مثل هذا الجدل يشكل محور نقاشات إلى حد ما علنية في أوساط العاملين في وضع الاستراتيجيات في الولايات المتحدة الأميركية، ولكن بنسبة أقل بين تلك الأوساط في أوروبا ــ وإلى حد ما فإن مثل هذه النقاشات غائبة تماماً في المملكة المتحدة، لكن الآراء المتعارضة يمكن تلخيصها بأنها لا تتعدى كونها رهانات على العوامل النفسية لكل طرف من الأطراف المتحاربة.
إن النقاش الأكثر نجاعة يمكن أن يكون ربما الحديث عن شروط وقف إطلاق النار، قبل أن يقوم أي من الأطراف بضرب منشأة لتوليد الطاقة عاملة بالوقود النووي، غير محمية تماماً. وللأسف إن هذا هو واحد من النقاشات التي لا يبدو أن أي كان يقوم بإجرائها.
© The Independent