ملخص
عودة الحديث عن محادثات سلام بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الأزمة
لم تتوقف المحاولات الرامية إلى إثارة الفوضى وعدم الاستقرار في بلدان الفضاء السوفياتي السابق منذ سقوط الاتحاد في ديسمبر (كانون الأول) 1991، حتى عام 2023، وهي محاولات جرت وتجري تحت شعار ما يسمى "الثورات الملونة". وبهدف أن تلحق روسيا بمصير الاتحاد السوفياتي السابق بتفكيكها إلى أكثر من دولة، قيل بعد اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 إنها قد تكون أربع أو خمس دول، واحدة منها في الجزء الأوروبي من أراضيها وثلاث أو أربع في الجزء الآسيوي، أو كما خططت الإدارة الأميركية في أكثر من 50 ولاية، وجرى الإعلان عن ذلك في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كما جرى تدبير مخطط "الثورات الملونة" التي اندلعت في بعض أرجاء الفضاء السوفياتي السابق خلال العام الماضي.
ثمة من يقول إن سياسات "البيريسترويكا والغلاسنوست" (إعادة البناء والعلانية) التي أعلنها الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف في منتصف ثمانينيات القرن الـ20، أتاحت الفرصة للتحركات القومية والحركات الانفصالية في المنطقة، للإعلان عن توجهاتها ذات الطابع القومي الانفصالي، وهو ما شهد العالم مقدماته في أوكرانيا وكازاخستان، ثم في جورجيا ومنطقة شمال القوقاز، وهي الجمهوريات نفسها التي انجرفت بعيداً في علاقاتها مع واشنطن وتنظيماتها المسلحة.
وفي وقت عادت فيه جمهوريات "سوفياتية أخرى إلى مجرى الثورات الملونة عام 2023، ومنها جورجيا التي اندلع في أراضيها عديد من التحركات القومية ذات التوجهات المعادية لروسيا، وأرمينيا التي عادت التظاهرات إلى شوارعها بعدما منيت به قواتها بهزيمة في مواجهتها مع أذربيجان التي استعادت كل الأراضي التي فقدتها منذ ما يقارب 30 سنة.
جورجيا
خرجت الجماهير الأرمينية إلى شوارع تبليسي وميادينها في مارس (آذار) 2023 للاحتجاج على قرارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في شأن إلغاء روسيا نظام التأشيرات واستئناف الطيران بين روسيا وجورجيا، ما اعتبرته الأوساط المحلية والعالمية بمثابة "خطوات تهدف إلى إزالة القيود التي كثيراً ما استهدفت عزل جورجيا عن روسيا الاتحادية" على النقيض مما رفعته حكومات جورجية سابقة من شعارات "الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف (الناتو) في صدارة توجهاتها وأولوياتها". وهذا كان سبباً في الخلافات التي لا تزال مستمرة بين الحكومة والحزب الحاكم من جانب، ورئيسة الجمهورية سالومي زورابيشفيلي الفرنسية الجنسية والجورجية الأصل من جانب آخر.
وقد استهلت جورجيا بوادر التقارب مع روسيا في عودة الحركة السياحية للمواطنين الروس برفع قيود "كوفيد-19" وتغيير نظام العمل في المطاعم والمقاهي، وإسقاط شهادات الخلو من مرض كورونا شرطاً للإقامة في الفنادق السياحية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يمض الوقت، حتى عادت الجماهير مطلع ربيع 2023 إلى شوارع تبليسي ترفع اللافتات التي تطالب بإلغاء "قانون العملاء الأجانب" الذي كان اعتمده برلمان جورجيا على غرار ما فعلت روسيا في وقت سابق، إلى جانب إطلاق سراح المتظاهرين المعتقلين.
وما إن استقرت حركة المعارضة في شوارع تبليسي حتى تحولت الجماهير إلى رفع مطالب "استقالة الحكومة"، و"الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة"، مما أسفر عن اندلاع المواجهة والاشتباكات بين المتظاهرين، فضلاً عن محاولات الاستيلاء على المباني الإدارية والحكومية.
ويذكر مراقبون أن البرلمان استجاب لمطلب رفض قانون "العملاء الأجانب"، وأقر مطلب إطلاق سراح المعتقلين الذين كانوا أودعوا السجون "بتهم إدارية"، لكنه رفض الاستجابة لإقالة الحكومة، والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة. غير أن الحزب الحاكم "الحلم الجورجي" سرعان ما عاد إلى مطلبه القديم حول سحب الثقة من رئيسة الجمهورية، في وقت لم يكن يملك فيه النصاب القانوني، أي ثلثي أعضاء البرلمان المقرر دستورياً لاتخاذ قرار "عزل رئيس الجمهورية".
وقد باءت محاولات "الحلم الجورجي" الحاكم في إطاحة الرئيسة سالومي زورابيشفيلي بالفشل، حيث لم يستطع جمع النصاب القانوني، وتوقفت محاولاته عند 88 نائباً، بدلاً من النصاب المقرر دستورياً، وهو 100 نائب. وكانت الحجج التي رفعها الحزب تدور في إطار" تجاوز الرئيسة للدستور وخروجها في رحلات خارجية دون موافقة الحكومة"، التقت خلالها بممثلي الدوائر الغربية ومنهم الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، وشارل ميشيل رئيس المجلس الأوروبي في بروكسل.
وكانت زورابيشفيلي اعترفت آنذاك بأن هذه اللقاءات جرت في إطار "الحاجة إلى اتخاذ جميع التدابير من أجل اندماج جورجيا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي"، ومن منطلق ما تبنته طوال حياتها "داعية إلى المستقبل الأوروبي الديمقراطي" لجورجيا، وهي التي بدأت حياتها العملية دبلوماسية في وزارة الخارجية الفرنسية التي سبق وأوفدتها سفيرة لفرنسا في جورجيا في مطلع القرن الحالي.
أوكرانيا والعودة لـ"الثورة البرتقالية"
وإذا التزمنا التسلسل الزمني للثورات الملونة فإن أوكرانيا تقف في المقدمة بتجربتها التي بدأتها عام 2004، والتي توجت بنجاح المتظاهرين في فرض إرادتهم بإلغاء نتائج انتخابات الجولة الثانية التي جرت بين فيكتور يانوكوفيتش الذي اتهمته المعارضة الأوكرانية "بالانحياز إلى موسكو"، وفيكتور يوشينكو ممثل الليبرالية الغربية.
وكانت "الجولة الثالثة" التي أقرتها المحكمة الأوكرانية العليا حلاً للنزاع القائم بين "المعسكرين المتخاصمين" أسفرت عن فوز يوشينكو الذي سارع إلى اختيار "أميرة الثورة البرتقالية" يوليا تيموشينكو رئيسة للوزراء. وكانت أوكرانيا قد عادت إلى دروب المواجهة المسلحة اعتباراً من عام 2014 بما تسميه روسيا "الانقلاب" الذي أطاح يانوكوفيتش بعد عودته إلى السلطة في عام 2010.
وكانت الدوائر الغربية وقفت إلى جانب المعارضة التي كثيراً ما حظيت بدعمها وتأييدها، في وقت لم تبد فيه موسكو "موقفاً واضحاً" من يانوكوفيتش الذي اتسمت قراراته وتصرفاته بكثير من التردد بين الانحياز لموسكو، والجنوح نحو التنظيمات الغربية وقبول أطروحاتها. ومن هنا كانت "الموجة الثانية" للثورة البرتقالية التي جاءت ببيتر بوروشينكو رئيساً لأوكرانيا عام 2014 في أعقاب ما تسميه موسكو "انقلاباً" لم تعترف رسمياً بنتائجه، وإن بدت مضطرة إلى التعامل معه بعد فسحة غير طويلة من الوقت.
ولما كانت أوكرانيا هي الأكبر بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق بعد روسيا، فإنها تظل الهدف الأكثر قيمة بالنسبة إلى الدوائر الغربية الطامحة للنيل من روسيا. وذلك ما أكدته الأحداث الأخيرة التي دارت خلال الأعوام الأخيرة اعتباراً من عام 2014، بما جرى من صراع بين السلطة في كييف ومناطق جنوب شرقي أوكرانيا ذات الغالبية السكانية الناطقة باللغة الروسية، والتي سارعت في عام 2014 إلى إعلان انفصالها عن أوكرانيا، ما كان مقدمة للمواجهة المسلحة بين الجانبين، ومعها بدأت الحرب الروسية - الأوكرانية التي لا تزال مستمرة.
وكانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف "الناتو" والدوائر الغربية أعلنت انحيازها إلى أوكرانيا بكل ثقل ترسانتها العسكرية التي سرعان ما انضم إليها ما يزيد على 50 دولة.
في المقابل، عاد الحديث عن محادثات السلام بين الجانبين على ضوء ما اعترف به ديفيد أراخاميا رئيس الوفد الأوكراني في محادثات إسطنبول التي جرت تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من زيارة بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق إلى كييف وإقناعه الرئيس الأوكراني زيلينسكي بعدم قبول نتائجها، وهو ما يقول كثير من الأوكرانيين إنها كانت كفيلة بتجنيب أوكرانيا كثير من الكوارث التي حلت بها مادياً وبشرياً بقبولها وضعية الحياد والتراجع عن الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
كازاخستان وأرمينيا محطات على الطريق
وها هو عام 2023 يستهل بدايته في كازاخستان بمحاولة جديدة لإطاحة الرئيس قاسم توقايف الذي اضطر إلى طلب المساعدة من بلدان معاهدة الأمن الجماعي التي تتزعمها روسيا مع بلدان آسيا الوسطى وبيلاروس وأرمينيا.
وكانت الجماهير قد خرجت إلى شوارع ألماتا العاصمة القديمة وغيرها من كبرى المدن تطالب برحيل توقايف وتضرم النيران في عديد من المؤسسات الحكومية، تحت شعارات تطالب بالتطهير والاحتجاج على بقايا حكم الرئيس السابق نورسلطان نزاربايف وارتفاع الأسعار ومشكلات البطالة على غرار مثيلتها التي خرجت في مطلع يناير (كانون الثاني) 2022 تحت شعارات الاحتجاج على رفع أسعار الوقود والمحروقات في غرب البلاد. وبموجب ما طلبه الرئيس توقايف من مساعدة بموجب معاهدة الأمن الجماعي، تدفقت قوات الانتشار السريع التابعة لروسيا وبلدان معاهدة الأمن الجماعي على كازاخستان حيث استطاعت خلال أيام إخماد الانتفاضة الشعبية وإعادة الاستقرار.
ويذكر المراقبون عديداً من التحركات التي قام بها الرئيس توقايف على النقيض من "روح" ما يربطه بروسيا وبلدان الكومونولث (السوفياتية السابقة) من معاهدات واتفاقات، فضلاً عما اعتبرته الأوساط الإعلامية وبعض السياسيين في موسكو محاولات "غزل" مع الولايات المتحدة والدوائر الغربية.
ومن هذه المحاولات ما صدر عن توقايف من تصريحات لم يعترف فيها بما قامت به روسيا من خطوات وما اتخذته من قرارات تجاه ضم شبه جزيرة القرم وبقية "الأراضي الأوكرانية" التي تقول إنها روسية الأصل، جنوب شرقي أوكرانيا، فضلاً عن تأكيد التزامه قرارات المقاطعة والعقوبات الغربية ضد روسيا وبيلاروس.
ورغماً عن ذلك فقد نجحت روسيا في الحفاظ على "شعرة معاوية"، التي تربطها بكازاخستان وعدد من بلدان الفضاء السوفياتي السابق، ومنها أرمينيا التي أعلنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، عدم المشاركة في اجتماع رؤساء بلدان معاهدة الأمن الجماعي احتجاجاً على موقف موسكو من النزاع الذي يدور بين أرمينيا وأذربيجان وعدم استجابة بلدان معاهدة الامن الجماعي لطلب التدخل في هذا النزاع إلى جانب أرمينيا.
وكانت الجماهير المعارضة لنظام الحكم في أرمينيا قد عادت في أكثر من محاولة قامت بها خلال عام 2023 تكرار تجارب "الثورات الملونة" في يريفان وغيرها من المدن الأرمينية، بعد نجاحها في تجربة عام 2018 التي توجت "كفاح رمزها نيكول باشينيان"، ومحاولاته المتكررة منذ المحاولة الأولى في عام 2008.
وكان باشينيان قد واصل طوال 2023 تأرجحه بين استمرار وجود أرمينيا ضمن تحالفات بلدان الفضاء السوفياتي السابق، وغزله الواضح مع الاتحاد الأوروبي وبلدانه، وإعلانه صراحة عن استعداد بلاده التعاون مع الاتحاد الأوروبي بحجة دعم الديمقراطية في أرمينيا. وزار باشينيان بروكسل التي شهدت كثير من المبادرات التي استهدفت تسجيل رغبته في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في وقت سجل عام 2023 كثير من أوجه نشاط الاتحاد الأوروبي وبعثته المدنية في "جدول أعمال أرمينيا".
فنلندا تغلق أبواب العودة
ومن البلدان التي شهد عام 2023 جنوحها نحو المواجهة مع روسيا تقف فنلندا بما اتخذته وتتخذه من إجراءات وقرارات تبدو على طرفي نقيض من تاريخها القديم مع روسيا منذ حصولها على استقلالها بعد انهيار الإمبراطورية الروسية عام 1917، لأول مرة منذ انتهاء المواجهة المسلحة وتوقيع معاهدة السلام بين الإمبراطورية الروسية والسويد في 1809 التي نصت على انضمام فنلندا إلى الإمبراطورية الروسية مع التمتع بالحكم الذاتي. وها هي تعلن انضمامها إلى حلف "الناتو" اعتباراً من أبريل (نيسان) 2023، وتسير حثيثاً على طريق فك الارتباط مع روسيا الذي بلغ في نهاية 2023 إغلاق نقاط العبور وإقامة الأسوار على الحدود مع روسيا الذي بدأ في مطلع عام 2023، تحسباً لتغاضي الجانب الروسي عن اختراق المهاجرين من للحدود المشتركة بين البلدين مثلما حدث في عام 2021، عندما حاول الآلاف من المهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط الانتقال من أراضي بيلاروس إلى بولندا ثم إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، على حد قول مصادر رسمية فنلندية.
وكان بيترى أوربو رئيس الحكومة الفنلندية قد أعلن في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن قرار بالإغلاق "التام" لكل نقاط العبور البري على الحدود الروسية - الفنلندية لمواجهة تيارات الهجرة غير الشرعية من روسيا إلى بلاده.