Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بول لينش يتخيل صورة إيرلندا البديلة على طريقة أورويل

"أغنية النبي" الفائزة بجائزة "بوكر" تواجه أحوال الاضطراب السياسي

أحوال الشغب الأخيرة في دبلن (رويترز)

ملخص

"أغنية النبي" الفائزة بجائزة "بوكر" تواجه أحوال الاضطراب السياسي

للعام الثاني على التوالي تمنح البوكر جائزتها البالغة قيمتها 50 ألف جنيه استرليني، لرواية عن الصراع السياسي. في العام الماضي ذهبت إلى رواية شيهان كاروناتيلاكا "أقمار معالي ألميدا السبعة"، التي تدور أحداثها خلال الحرب الأهلية السريلانكية، وفي هذا العام سلم شيهان بنفسه الجائزة للكاتب الإيرلندي بول لينش لروايته "أغنية النبي" وتدور عن إيرلندا التي تتجه نحو الفاشية نتيجة صعود اليمين المتطرف. المدهش أن فوز لينش جاء بعد أيام من اندلاع احتجاجات عنيفة في وسط دبلن فجأة، أدت إلى إصابة ثلاثة أطفال. وعلى رغم الطابع الخيالي للرواية، ذكرت الشرطة أن وراء ما حدث "فصيلاً مجنوناً مدفوعاً بأيديولوجية يمينية متطرفة"، وهو ما أدهش الكاتب نفسه الذي لم يكن يرصد واقع بلده تحديداً.

طارق الليل

تتخذ الرواية الفائزة من إيرلندا مسرحاً لأحداثها، من دون أن تربطها بزمن محدد، فإن وجود المكان لا يعني أننا بالفعل حيال إيرلندا الحقيقية، وغياب الزمن لا يعني أن لغزاً أمامنا يصعب حله. إيرلندا البديلة في حكاية لينش التي لا تمت إلى الواقع بصلة، أصبحت في طرفة عين مرتعاً للفاشية، يخضع مواطنوها للمراقبة الدائمة تحت مظلة الحكم الشمولي. وما يسترعي الانتباه في أمرهم هو اكتشاف ذلك في لحظة إفاقة مدوخة! لعل ما جرى على سكان دبلن بمرور الوقت يشبه التخدير التدرجي وتبلد الحساسية واللامبالاة. لكن القدر دائماً ما يطرق الباب حاملاً من المفاجآت ما يوقظ السائرين نياماً.

تبدأ الرواية ذات مساء، حين يطرق أفراد الشرطة السرية المشكلة حديثاً باب منزل إيليتش، عالمة الأحياء التي كانت منذ هنيهة تراقب أشجار الكرز في الحديقة وهي تتلاشى مع حلول الليل، وتفكر في "الأوراق التي لا تقاوم الظلام ولكنها تقبله بهمس". إنهم يبحثون عن زوجها لاري ستاك النقابي المعروف بآرائه عن الحرية والعدالة، لكنه لم يكن قد عاد بعد، وسرعان ما يختفي الرجل من المشهد نهائياً، وكأن الأرض انشقت وابتلعته، هو وغيره من الذين شاركوا في المسيرة السلمية.

 في رحلة البحث عن زوجها الغائب، المتهم ربما بإثارة الفتن والقلاقل وفق قناعات الحكومة المستبدة، تصل الزوجة إلى أحد معسكرات اعتقال المنشقين، وهناك يطلب منها صراحة التوقف عن طرح الأسئلة حرصاً على نفسها وعلى أسرتها. تجد إيليتش نفسها في مأزق لا تحسد عليه بين دورها كأم مسؤولة عن أربعة أطفال، وعليها أن تؤمن لهم سبيل النجاة، ودورها كزوجة لا يمكنها التخلي عن شريكها في مصيبته. تتراكم الضغوط على المرأة بمسؤوليتها عن والدها المصاب بالخرف، والملتصق بالمكان كمن أصبح جزءاً منه، فيوفر له الذكرى حية بعد وفاة زوجته ورفض عقله تصديق موتها. لكن غريزة البقاء التي تصدرت المشهد، بعد اختفاء آلاف الضحايا، ولا مبالاة العالم، لم تستطع أن تلجم أمومتها عن التضحية بنفسها. وفي مشهد مؤلم تضطر إلى الركض عبر المنطقة الحرام لرؤية ابنها المصاب في المستشفى، معرضة نفسها لخطر الموت على يد القناصة الذين يطلقون النار على سكان المدينة.

ديستوبيا الواقع

وصفت أغنية النبي بأنها "النسل الإيرلندي" لـ"حكاية الخادمة" و"1984"، لكونها رواية كابوسية تسبب لقارئها على الفور شعوراً بالاختناق يتضخم تدريجاً، مع مواصلة السرد على نحو لاهث وبلا فواصل، حتى ليتجمد في موضعه تحت تأثير رهاب الأماكن المغلقة. وما يعزز انتماءها إلى عالم الديستوبيا هو عدم ارتباطها بزمان أو مكان ملموسين. غير أن كاتبها له رأي آخر، فما يحدث في إيرلندا المتخيلة هو بالضبط ما يحدث في كل مكان حول العالم، يقول لينش "إن ما أردت فعله في هذا الكتاب هو تفكيك شكل الرواية الديستوبية. لقد كنت دائماً متشككاً في أن الديستوبيا يمكن أن تكون في بعض الأحيان عبارة عن عجينة من الورق. التخمين في هذا الكتاب ليس تخميناً على الإطلاق. إنه يحدث بالفعل في مكان ما من العالم الآن. مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يكون تخمينياً على الإطلاق، إنه واقعي جداً". ولفرط واقعيته يستشعر القارئ بأنه يجري هنا والآن، على أرض صلبة تسبح في زمن سائل ويغدو فيه أهالي دبلن المتخيلة، كأنهم كل سكان العالم الذين فقدوا حساسيتهم تدريجاً، بحكم العادة، والذين أصبحوا في حاجة إلى صدمة قوية لإدراك ما يجري حولهم من جنون مطبق.

في كتابه "جوانب الرواية" تحدث إي أم فورستر عن نوع من الروائيين تمكنوا من أسر التجربة البشرية في الحيز الضيق المتاح للرواية، وهو ما أطلق عليه "الروائي النبوي" الذي لا بد أن تصيبنا غرابة أغنيته بالصدمة. يقول لينش في مقال حول الكتابة نشر على موقع الجائزة "إن الخيال الذي وصفه فورستر وأوكونور هو الخيال الذي أسرني كقارئ وغذاني ككاتب. هناك عديد من الكتاب الكبار الذين تنزلق أنظارهم بسهولة إلى اللانهائي، وولف وكافكا وبورخيس وليسبكتور. بالنسبة إليَّ يشكل كل ملفيل ودوستويفسكي وكونراد وفولكنر ومكارثي حواراً دائراً يتردد صداه عبر الزمن".

هؤلاء الكوكبة يضمهم لينش تحت مصطلح الواقعية الكونية. فهم يملكون على حد قوله، عدسة كونية، تمكنهم من التحديق من زاوية تعلو عن الحياة الإنسانية "بكل ما فيها من عذاب وارتباك وإيماءات عظيمة"، ليستخلصوا منها حقائق أبدية تحدد هويتنا على مر العصور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ربما من هذا المنطلق تأخذ "أغنية النبي" على عاتقها برحابة مهمة الطرق على الباب لإيقاظ السائرين نياماً قبل أن تهزهم يد القدر الغشيمة. يقول لينش: "كنت أرغب في تعميق انغماس القراء إلى درجة أنهم بحلول نهاية الكتاب لن يعرفوا هذه المشكلة فحسب، بل سيشعرون بها كمن جربها بنفسه. إنها محاولة جريئة لرؤية الفوضى الحديثة وما أفرزته الديمقراطيات الغربية من اضطرابات حول العالم. لكن كتاباً كهذا لم يكن من السهل كتابته".

قضى لينش أربعة أعوام في إحكام أغنيته، التي "تجسد المخاوف الاجتماعية والسياسية في وقتنا الراهن"، بدأها كمن يتذكر، وابنه إليوت يحل ضيفاً جديداً على البيت ليملأه بصراخه، وحين فرغ منها كان إليوت الصغير يركب الدراجة. "أغنية النبي" هي الرواية الخامسة للمؤلف المولود عام 1977 في ليمريك، ويعيش الآن في دبلن. وتختلف عن رواياته السابقة المنشغلة في عمومها بالمجتمعات الرعوية في إيرلندا الغربية، بدءاً من باكورة أعماله "سماء حمراء في الصباح" ومروراً بـ"الثلج الأسود" ثم "غراس" التي نالت استحسان النقاد حد أن شبهوها بـ"الطريق" لكورماك مكارثي. أما روايته الرابعة "ما وراء البحر"، فكادت تقترب كثيراً من عصرنا، وكأن الكاتب يتقدم نحو قارئه المعاصر رويداً رويداً في مجرى الزمن.

حصل لينش على منحة من مجلس الفنون في إيرلندا كي يتفرغ لكتابة روايته الخامسة، فإذا به يصبح الكاتب الخامس الذي يفوز بالجائزة من البلاد التي دعمته، لينضم إلى إيريس مردوخ وجون بانفيل ورودي دويل وآن إنرايت. لهذا كان طبيعياً أن يتحدث بفخر عن كتاب إيرلندا العظماء في الماضي قائلاً: "إن كتاباً مثل بيكيت أو جويس لا ينتجون أعمالاً أدبية عظيمة فحسب، بل إنهم ينقلون إلى الثقافة طاقة هائلة وما زلنا نقتفي خطاهم سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة